88
0229
086
0379
0216
0128
0154
0185
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11769
04707
04351
174206
03831
0
لكل شاعر سياسته الخاصة التي ينتهجها لصوغ معانيه وألفاظه و(نوتته) الموسيقية، ولكل شاعر (ثيماته) التي يختلف فيها عن غيره.
(الرحيل) ثيمة عند الشاعر الدكتور سعود اليوسف تبينت لي في قصائد قرأتها له مبثوثة في الصحف والمجلات، لكنه عززها حين جعلها عنوانا لديوانه الأخير (رحيل آخره التفات) الصادر سنة 2020 عن نادي حائل الأدبي ودار المفردات في تسعين صفحة.
يضبط شاعرنا كلمة (التفتُّ) في صفحة الإهداء: “إليها كلما التفتُّ” حتى لا نبحث كثيرا عن الملتفت ولا عن الراحل!.
ويفسر لنا منذ القصيدة الأولى أثر الالتفات حين يكون آخر ما نعهد من الراحلين، فيقول:
صيغ الرحيل كثيرة..
لكن أقسى رحلة ما كان آخرها التفات..
وللرحيل عند شاعرنا أسرار، تشبه أسرار الغرام:
اتركي لي سر الرحيل دفينا مثل سر الغرام فهو دفين
وقد تكون الرحلة لأعماق النفس:
راحل راحل لأنقاض نفسي لانطوائي وإن حنتني السنينُ
ونستنجد بقصيدة (ما يمليه الرحيل وما تكتبه خطاهم) لنعرف سر الرحيل، وما كتب:
أملى الرحيل على الدروب غموضه فَهِموا ولم تفهم خطاهم.. تشرح
وفي القصيدة ذاتها (ما تمليه خطى الرحيل وما تكتبه خطاهم) – والعنوان الطويل سمة من سمات قصائد شاعرنا – يصور لنا المودِّع، وقد استسلم فراح – من فرط يأسه واستسلامه – يلوح بيده قبل أن يرحلوا:
ما ودعوكَ وما تزال تلوح متهيء أبدا لأنك تُجرحُ
ويصور الشاعر الحسرة التي تصيب القلب بعد خلو المكان من ساكنيه، ويشبهه بالفارس الذي ما زال مرابطا في الميدان بحصانه المسرج، وقد غادر الفرسان:
ها أنت وحدك حيث لا مضمار لا أحد هنا فعلام خيلك تضــبح؟
وتبدو لنا الإشارات التاريخية، في أكثر من قصيدة، فها هو يشير إلى سبأ والهدهد، في قصيدة (خيبة هدهد):
وهدهد الأمنيات البيض سافر في مدائن الروح لكن لم يجد سبأ
وإذا كانت الإشارة للهدهد وسبأ معروفة ومألوفة، لا تحتاج لتوضيح، فإن شاعرنا يلمح إلى حكايات أُخر قد تخفى على كثيرين، ومع ذلك لا يفسرها اعتمادا على ثقافة القارئ، أو بحثه في مصادر الأدب. ففي قصيدة (سيرته التي لا تسأل عنها خولة) التي يفتتحها بقوله:
وحث راحلتيه الفقر والأدبا يجر خلف رؤاه الشمس والعربا
يتبين لنا أ ن المقصود بخولة أخت سيف الدولة، والراحل الذي يمتطي راحلتين من فقر وأدب هو المتنبي، وبحر البسيط وقافية الباء المفتوحة يدلان على أنها مستوحاة من قصيدة المتنبي:
التي منها:
فسرت نحوك لا ألوي على أحد أحث راحلتيَّ الفقر والأدبا
وقصيدة اليوسف ليست معارضة لقصيدة المتنبي لأن موضوعها مختلف، فهو يخاطب أمة الإسلام:
تناســلت أمــة المليــار مــا ولدت إلا المآســي والأحــزان والكــــربــا
تراقصت حولها الأعداء رقصتهم للقتل وهي انتشت من رقصهم طربا
وشاعرنا معجب بالمتنبي؛ بشعره وانتمائه العربي وبطولاته، فهو يشير في البيت السابق لقول المتنبي:
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا فالطير يرقص مذبوحا من الألم
ويضمن جزءا من بيت المتنبي:
فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي والبر أوسع والدنيا لمن غلبا
فيقول:
وسائل السيف يخبرك اليقين ففي بريقه المجد (والدنيا لمن غلبا)
ولا يتوقف التأثر بالمتنبي عند هذا الحد فيحكي لنا “الفصل الأخير من سيرة الطائر المحكي” في إشارة واضحة لقول المتنبي:
فدع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
وفي القصيدة يسكب الدكتور سعود حسراته على ضياع صوت أمته وصداه، فيقول:
علي عزيز أن أرى صوت أمتي بجغرافيا الأصداء صوتا مشردا
أخبئ في ظلي لقيــط بن يعمــر وأنشــر في الآفاق خوفي هدهدا
ونلحظ في البيت السابق الإشارة إلى (لقيط بن يعمر) كاتب كسرى، الذي حذر قومه من مخططاته، في عينيته المشهورة.
ويبدي شاعرنا كثيرا من قلق الأسئلة والأجوبة، مثل قوله:
للرمل فلسفة السؤال
ولي ارتباكات الجواب
ومن قصيدة أخرى:
هذا سؤالك قد كلَّتْ يداه وذا باب الجواب تراه موصدا صدئا
وإذا ما توغلنا في الديوان بحثا عن قصائد الغزل، فسنجد غزلا عفيفا، مثل قصيدة (أصداء لما لم يقله الصمت) وفيها هذه الصورة الجميلة:
هنا فؤادي الذي صحراء صامتة فلتعزفي مطرا من قلبك المائي
وقصيدة (صحراء انتظار أنا، وغيمة الموعد أنت) التي يختمها – كعادته في قفلاته المميزة – بمعنى جديد:
دعينيَ طفلا في غرامك لاثغا أخاف إذا سافرت أني أكبر
وفي قصيدة (صباح بنكهة بحَّتها) يستخدم اللفظة المحلية (يا مِلحِهْ) فتقع موقعا حسنا:
نسيت الذي لقنتِني لحظة اللقا وقلت وقد أكبرت حسنك “يا ملحهْ”!
ولشاعرنا ولع بالطيف، فيجسده في قوله:
وأعذب ساعات الغرام إذا التقى بها شاعر مع طيف حسناء يسمر
فقد جعله نائبا عن الحبيبة.
وإذا كان الطيف كائنا حيا فلا بد أن يتعطر كالإنسان:
تمرين بي كالريح طيفا معطرا تقول لي الأشواق أن سوف تمطر
ولا يغفل شاعرنا أثر صوتها فيقول:
عطرية الصوت من أي المعاجم قد صغت الأحاديث من قاموس أشذاء
رشـفت صوتك كم من نشوة سألت أتلـــك حنجــرة أم كــأس صــهباء
ويحلو اسمها في فمه إذا ناداها:
إذا ناديت باسمك خلت حلوى تذوب على شفاهي أو لساني
ويمتزج حب نجد بحب حبيبته في قصيدة (عطش المعين إلى الجفاف)، ويطلب من نجد أن تحدثه عن أسرته وجيرانه وأصحابه، ثم عن الحبيبة:
حدثيني عن الحبيبة بعدي هل أحست يوم استبد الأنين
أتراها ظنـت بأن ســواها في حيــاتي له مكان مكيــن
ثم يلتفت إليها بكله:
يا منى النفس لا تراعي فذاك الـــحب في الصدر مثل قلبي مصون
وخص الشاعر ابنه (فراسا) بـ (معلقة اللثغات)، واختار لها بحر (المتقارب) لخفته وموسيقيته، وفيها يبدو التكرار في بعض الكلمات تدليلا لطفله الحبيب:
وصار بك البيت أحلى وأحلى أوجهــك ذلــك أم ســكرة؟
عزفــتَ لنا ضــحكة ضــحكة بثغرك سبحان من صوره
وجعل مسك ختام الديوان مرثية في والده رحمه الله.
وإذا ما اتجهنا صوب لغة الشاعر وأسلوبه فسنجد لغة رصينة فصيحة بعيدة عن حوشي اللفظ، لا يتعمد البحث عن المحسنات البديعية، إلا ما أتى طوعا دون تخطيط، ومن ذلك ما جاء في البيت التالي من (الاكتفاء):
قطفنا كرمة النجمات سُكرا وداعبنا الكواكب أو كأنَّا …
ومن الجناس قوله:
اعذريني بل اعذليني لوجدي ولأني معذب وحزين
وقوله:
ونفثت فيك من الدلال حديقة ونفضت عنك رتابة الكثبان
ومما امتاز به شاعرنا (القفلات) المميزة مثل قوله في ختام إحدى قصائده:
أنت الحضور ولو هجرت وكل من حضروا غياب
وقوله في ختام أخرى:
بقينا مثلما كنا صغارا وغادرنا الزمان وما تأنَّى
ضم الديوان إحدى وعشرين قصيدة متوسطة الطول، ما عدا اثنتين جاوزت كل منهما ثلاثين بيتا، وليس في الديوان مقطوعة واحدة. قصائد الديوان عمودية ما عدا اثنتين من شعر التفعيلة. استعمل أكثر البحور تداولا، وأكثر القوافي تناولا، وقوافيه مطلقة كلها، وقد عبر عن إعجابه بالقوافي المطلقة حين قال:
اسمحي لي أمد بالآه صوتي ليس عذبا على القوافي السكون.
*كاتب سعودي
samghsa11@gmail.com
التعليقات