الأكثر مشاهدة

   محمد فوزي أبوغانم * من منا لم يشاهد السنافر؟ تلك الشخصيات الكرتونية الصغيرة ا …

في لُغة السنافر !

منذ 3 سنوات

906

1

  

محمد فوزي أبوغانم *

من منا لم يشاهد السنافر؟ تلك الشخصيات الكرتونية الصغيرة الزرقاء المحببة إلى قلوبنا، التي ابتكرها الرسام البلجيكي بييو Peyo – بيير كوليفورد Pierre Culliford – ، وظهرت للمرة الأولى عام 1958 ضمن قصة “جوهان وبي ويت” Johan and Peewit، لتنتشر في جميع أنحاء العالم، محققةً نجاحاً وشهرةً، ضمنا للسنافر مكاناً مميزاً بين قصص الأطفال وأفلام الرسوم المتحركة.

للسنافر لغة خاصة بهم كلون جلدهم تماماً ؛ لغة لا يفهمها سواهم وهي Smurfs Language، الطريف والمدهش في هذه اللغة هو: اعتمادها على كلمة واحدة أو جذر root word واحد هي: كلمة “سنفر” أو smurf، وهي مأخوذة من اسمهم. حيث يقومون بوضعها في أيما جملة يتفوهون بها، وفي أي سياق لتحمل أيما معنى أو إحساس أو انفعالات يريدون توصيلها أو التعبير عنها. 

قبل أن نُسهب في وصف هذه اللغة وكيفية عملها، يلزم علينا توضيح شيء مهم للغاية حول اللغة البشرية Human Language وأهم سماتها، وكيفية عملها، حتى نفهم لغة السنافر.

من آليات تشكيل الكلمات وتكوينها في أيٍ من لغات البشر نجد آلية تعرف بـتوليد الكلمة “Coinage” أو “neologism”، وبمقتضاها نستطيع نحن البشر ابتداع كلمات جديدة من العدم، وهذا ما فعله بيير كوليفورد صاحب السنافر. إن الدافع وراء اللجوء إلى هذه الآلية هو الحاجة إلى التواصل مع الآخر؛ مثلاً: عند اختراع منتج جديد اضطر المُصنِّع إلى استحداث كلمة جديدة تعبر عنها حتى يسهل تداولها بين الناس مثل اسبرين، نوتيلا، نايلون، كلينكس، جوجل، وغير ذلك. وهذا ما فعله بيير كوليفورد عندما نسي للحظة ما كلمة “ملح” – بينما كان يتناول الطعام مع صديقه أندريه فرانكين André Franquin – فقال له: مرر لي هذا الشترمف “schtroumpf”، وهي كلمة غير موجودة في لغته الفرنسية فاستحدثها، فرد عليه أندريه: (إليك هذا الشترمف ” schtroumpf”، وعندما تنتهي من الشترمف (أي وضع الملح في الطعام)، تشرمفه (أعده) لي مرة أخرى. واستمر الصديقان يتكلمون هذه اللغة طوال عطلتهما.

بعد ذلك قام الهولنديون باختراع كلمة أخرى للكلمة الفرنسية وهي كلمة “Smurf”، التي أخذها عنهم الانجليز؛ وسبب ذلك هو أن نطق كلمة “schtroumpf” الفرنسية يشبه إلى حد كبير كلمة “Strumpf” الألمانية والتي تعني “جورب”. ثم قام العرب بعملية اختراع أخرى وأسموها ” سنفور” وجمعها ” سنافر”. ونجد لها مسميات أخرى في العديد من اللغات الأخرى.

ويلاحظ أن السنافر يستخدمون كلمة واحدة فقط هي “smurf” في كلامهم، فيصوغون منها الأسماء والأفعال والصفات والظروف. تعرف هذه الكلمات بكلمات المحتوى Content words، أو الكلمات المعجمية Lexical words، ولا يستخدموها أبدًا في صياغة الكلمات الوظيفية Functional words مثل الضمائر وحروف الجر والروابط وغيرها من أجزاء الكلام. وهذه الظاهرة تتطابق مع آلية التوليد Coinage، فهي تعمل فقط على مستوى فئات معينة من أجزاء الكلام وهي كلمات الفئة الأولى (Lexical words)، وتعرف هذه الفئة بالفئة المفتوحة Open class، أي تلك الفئة من الكلمات التي تقبل إضافة كلمات جديدة لها من طريق التوليد أو الاستعارة أو غيرهما من عمليات تشكيل الكلمات. أما الفئة الثانية (Functional words) فتعرف بالفئة المغلقة Closed class، وهي تلك الفئة من الكلمات التي لا تقبل مثل هذه الإضافة.

لقد قلنا إن الانجليز أخذوا كلمة “Smurf” عن الهولنديين، إي أنهم قاموا بعملية استعارة “Borrowing” للكلمة، وهي عملية أساسية تستخدم في صياغة الكلمات الجديدة، تعتمد عليها اللغة الإنجليزية التي وصفها دايفيد كريستال بقوله إنها “مستعيرة نهمة” insatiable borrower؛ وذلك لكثرة عدد الكلمات المستعارة في الإنجليزية من اللغات الأخرى التي تربو على 120 لغة. 

إن آلية الـتوليد “Coinage”  وثيقة الصلة بالابتكارية “Creativity”، أو بالانتاجية “Productivity”، وهي احدى السمات المميزة للغة البشرية، ويقصد بها قدرة الإنسان على توليد جمل وأقوال جديدة لم يأتِ بها من قبل. وهذه السمة متعلقة بالجانب الإبداعي لاستخدامنا للغة. وإذا كانت هذه الخاصية مشتركة بين جميع البشر إلا أنها متفاوتة بينهم، وتظهر في أروع حالاتها لدى الأدباء؛ لقدرتهم على ابتداع جمل ونصوص جديدة كليةً، من خلال وضع الكلمات الموجودة في معجمهم اللغوي في قوالب جديدة تغلب عليها الصبغة المجازية والاستعارية. أيضًا يستغل الشعراء قدرتهم الإبداعية على خلق موسيقى نصية من خلال استحداثهم لجمل جديدة تحكمها التفعيلة والوزن. لقد تجلت هذه السمة لدى بيير كوليفورد عند استخدامه لكلمة واحدة أنتج من طريقها جملاً تامة جديدة كليةً في مؤلفه المبدع “السنافر“. مثال على جُملهِ المترجمة إلى الإنجليزية الحوار التالي:

Smurf: Our village has been Smurfed by a smurf that smurfs smurf.

Homnibus: A “smurf that smurfs smurf?” I don’t understand, what is he saying?

Peewit: Easy, he says that his village has been visited by a bandit who talks through his nose.

Sir Johan: Really, I suspect that he’s talking about a plague that came from the sky.

King: No, no, you got it all wrong, it’s a wolf that came from the forest.

Smurf: No that isn’t it either.

Peewit: An elephant who blew his horn then?

King: Or a wildman who drinks blood?

(Smurf is trying to tell that their village had been demolished (Smurfed) by a dragon (A Smurf) that breathes fire (that smurfs smurf).)

(يحاول السنفور إخبارهم أن قريتهم قد دمرها تنين ينفث نارا.)

لقد استغل مبتكر الشخصيات سمة مميزة للغة البشرية تعرف باعتباطية اللغة Arbitrariness of Language، وهي انعدام العلاقة بين الدال signifier والمدلول signified، أو عدم وجود علاقة مباشرة بين الشكل اللغوي (الكلمة) ومعناها أو ما تدل عليه في الواقع – على حد قول فرديناند دو سوسير-. مثلاً: لماذا نطلق على كلمة “شجرة” هذا اللفظ بالذات دون غيره؟ ما العلاقة التي تربط بين هذه الكلمة وذلك الكائن الحي الذي تدل عليه؟ استغل مبتكر الشخصيات خاصية عشوائية اللغة في إطلاق هذا الاسم Smurf على شخصياته؛ فقد ابتدع اسمًا خياليًا لكائنات خيالية أيضًا. إن هذه السمة لهي المسؤولة عن تنوع اللغات واختلافها، كما هي مسؤولة عن وجود اللغة. فلو لم يكن للاعتباطية دور في تشكيل اللغة الإنسانية؛ أو بمعنى آخر إن وجدت علاقة طبيعية بين الدال والمدلول أو بين الكلمة وما تدل عليها لأصبح لدينا لغة واحدة تمثل العالم الواقعي. ذلك لأن المدلول واحد غير مختلف عليه بين الناس جميعا. إذن فقدان العلاقة بين الدال والمدلول هو المتسبب الرئيسي في وجود التنوع اللغوي الهائل بين البشر. على سبيل المثال: كل الناس تعرف هذا الحيوان الذي ينبح ويستأنسه البشر ليقوم بالحراسة ومساعدة الرعاة والمساعدة في القبض على الجناة المعروف في اللغة العربية باسم “كلب”، وفي اللغة الإنجليزية باسم “dog”، وفي اللغة الفرنسية باسم “chien”. علاوة على ذلك، لعشوائية اللغة دور مهم في التنوع اللغوي داخل اللغة الواحدة، فمثلاً: لدينا الكلمات التالية “أسد – ليث – غضنفر- حيدر – جساس – عباس – أسامة – فَدَوْكَس – قسورة – إلخ ..” تصف حيوان واحد، وقد ذكر ابن خالويه أن لهذا الحيوان ما يربو عن خمسمائة اسم (انظر كتاب: المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي)، بغض النظر عن الاختلافات الدلالية لبعض هذه الأسماء. وحتى تتحقق الاعتباطية وتنجح في تكوين لغة لابد لها من اجتماع جماعة ما على القبول بها، وبذلك يتحقق مبدأ أن اللغة اصطلاحية لا توقيفية.

استفاد السيد بيير كوليفورد من آلية الاشتقاق Derivation في صياغة كلمات جديدة من الجذر “smurf”، من خلال إضافة سابقة prefix أو لاحقة suffix لهذا الجذر. وكانت النتيجة وجود عدد كبير من الكلمات المشتقة كل منها له معنى بذاته. وتلعب هذه المورفيمات الوظيفية Bound Morphemes دورًا كبيرًا في معرفة المعنى المقصود أو تخمينه من خلال السياق. فمثلاً: كلمة smurfy مكونة من الجذر “smurf” واللاحقة y ودارس اللغة الإنجليزية يعرف جيدًا وظيفة المورفيم y في اشتقاق الصفات من الأسماء أو الأفعال مثل كلمة “lucky”، وهي صفة بمعنى “محظوظ” مشتقة من الاسم “luck” بمعنى “حظ”. واللغة الإنجليزية مشهورة باشتقاق الأفعال من الأسماء، وفي قصص السنافر ولغتهم الفريدة نجد أن جميع الألفاظ المُعجمية – الأفعال والصفات والظروف – مشتقة من الاسم “smurf”. 

أيضًا استخدم بيير كوليفورد آلية التصريف Inflection في تنويع دلالات كلماته المأخوذة من كلمة “smurf”. والتصريف هو: آلية تشكيل ألفاظ جديدة من ألفاظ موجودة من قبل باستخدام المورفيمات الوظيفية الدالة على العدد أو الزمن أو النوع. والتصريف لا يستحدث معنى جديداً وهذا هو الفرق بينه وبين الاشتقاق. مثال “Smurfs” هذا الاسم مُصرّف يفيد الجمع “سنافر”، استخدم فيه المورفيم العددي “s” للدلالة على الجمع. أما كلمة سنفورة “Smurfette” فكما في العربية استخدم المورفيم المؤنث ette الذي يوازي “تاء التأنيث” لتبيان نوعها/جنسها؛ تمييًزا لها عن السنافر الذكور. أيضًا ترفق اللاحقة ed الفعل “smurf”  للإشارة إلى الزمن الماضي.

اُستخدم الاسم “Smurf” أو “سنفور” كفعل “to smurf” بمعنى “يسنفر” بدون إضافة مورفيمات أخرى لأصل الكلمة. تعرف هذه العملية باسم Functional Shift/Category Change “التغير الوظيفي أو التغير الفئوي”، وذلك لحدوث تغير في الفئة النحوية للكلمة. وتستخدم هذه الآلية على نطاق واسع في اللغة الإنجليزية خاصة العامية.

مَثل استخدام كلمة واحدة “Smurf” لتحل محل أي كلمة سواءً كانت: اسمًا، أو فعلاً، أو صفةً، أو غير ذلك. مشكلة كبيرة في فهم معنى الكلام. وهذه المشكلة غير مقتصرة على لغة السنافر فهي موجودة في جميع اللغات الطبيعية – أقصد اللغات البشرية. وذلك لأن الكلمة بذاتها لا تحمل معنىً واحدًا دائمًا. فكلمة “bank” تحمل معنيين “ضفة نهر – مصرف”. وفي اللغة العربية “قال” لها معنيان أيضًا “تحدث – أخذ قيلولة”. ولحل هذه المشكلة نبحث عن السياق. والسياق – كما يعرفه جورج يول في كتابه “دراسة اللغة” – هو “مجموعة الكلمات الأخرى المستخدمة في نفس العبارة أو الجملة”. لذلك نحتاج إلى إضافة هذه الكلمات “I went to the bank to deposit some money.” ليتضح معنى كلمة “bank”. وهذا ما يسمى بالسياق اللغوي Linguistic context. بيد أن السياق اللغوي ليس كافيًا دائمًا لتفسير الكلام، ونحتاج إلى نوعٍ آخر من السياق يعرف بالسياق المادي Physical context، وهو موقع الكلمة والموقف الذي تستخدم فيه والوقت الذي تقال فيه. فمثلاً: عندما يقول “بابا سنفور” لأحد السنافر “Smurf this letter.”، لا زال المعنى غامضًا بالرغم من وجود كلمات أخرى محيطة بكلمة “smurf”. بمعنى آخر لم يتم الوصول للمعنى بالرغم من وجود السياق اللغوي. 

في الحوار السابق يقول أحد السنافر ” Our village has been Smurfed by a smurf that smurfs smurf.”، هذه الجملة تحتوي على السياق اللغوي والسياق المادي أو الموقف situational context لكن لا زالت غامضة، لفقدانها الخلفية  Background، فهذا السنفور ينقل لمستمعيه حدثًا ليس لديهم فكرة أو خلفية عنه. لذلك نتجت ثلاثة تأويلات مختلفة لهذه الجملة وجميعها خاطئة! نخلص من هذا أن عملية تفسير المعنى وتأويله ليست أسهل من عملية بنائه. كما أنها لا تعتمد على مجرد معرفة معاني هذه الكلمات. مثلاً: “قلق أحمد حيال الكتب المستعارة.” كيف نستطيع التوصّل إلى المعنى المقصود بالرغم من معرفة كل كلمة قيلت؟ قد يفهم القارىء أو المستمع أن أحمد أحد الطلاب قد استعار مجموعة كتب من المكتبة وقد نسيَ موعد إرجاعها للمكتبة. أو قد يستنتج البعض أن أحمد أمين مكتبة ولديه بعض الطلاب استعاروا كتبًا ولم يعيدوها.

لا يعتمد فهم المعنى وتفسيره على معرفة السياق أو على معرفة الخلفية فقط، فهناك عدة عناصر مهمة مثل السمات النبرية كالتنغيم Intonation، أو موسيقى الكلام كما يترجمه الدكتور إبراهيم أنيس. ويعرفه أحمد مختار عمر في كتابه: (دراسة الصوت اللغوي) على أنه: “تتابعات مطردة من مختلف أنواع الدرجات الصوتية على جملة كاملة أو أجزاء متتابعة، وهو وصف للجمل وأجزاء الجمل وليس للكلمات المختلفة المعزولة.” قد تكون الجملة بسيطة البنية والتركيب معلومة اللفظ لكنها ذات دلالة مخالفة لمعناها الأصلي. على سبيل المثال، تبدو هذه الجملة “يا لك من ذكي!” من الوهلة الأولى أنها مدح للمستمع، لكن إذا ما تغيرت النغمة عند التفوه بها انقلبت للعكس وحملت لفظة “ذكي” معنى “غبي”، فتغيرت دلالة الجملة تمامًا من المدح praise إلى الذم والسخرية sarcasm.وبالمثل إذا قال أحد السنافر “He is smurfy!” فيحتمل قوله utterance أكثر من دلالة يوضحها التنغيم من حيث صعود النغمة أو هبوطها. بيد أن السياق والخلفية المشتركة لهما دور بارز في استدعاء التنغيم، فبدونهما يظل المعنى غامضًا حتى مع وجود التنغيم!

إن عملية التواصل اللغوي لهي جدُ معقدة؛ تنطوي على عدة عمليات تتداخل وتتفاعل فيما بينها للوصول إلى معنى واضح لا يشوه الرسالة اللغوية وللمحافظة على دلالتها من لحظة إنتاجها – أو بالأحرى من قبل إنتاجها – لدى المتحدث أو المرسل حتى وصولها وتأويلها لدى المستقبل. وإذا كانت لغة السنافر على درجة من التعقيد، فما هي إلا انعكاس للغة البشرية التي يتحدثها صاحبها بيير كوليفورد؛ إذ تمر هذه اللغة السنفورية بنفس خطوات وآليات تشكيل اللفظ وتأويل دلالاته لدى اللغة البشرية دون زيادة أو نقصان. 

 

*  كاتب و ناقد من مصر

التعليقات

  1. يقول علوي:

    مبدع العادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود