91
0134
0785
0117
0203
010
0103
0121
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11784
04713
04364
174299
03997
0ملامح البيئة المكانيّة في نماذج من القصة القصيرة في المدينة المنورة
( دراسة أدبية )
صالح الحسيني *
مدخل:
“تحتل القصة القصيرة بمفهومها العام في العصر الراهن مكانة متنامية بين مختلف الفنون الأدبية، و ذلك تمشيا ًمع المتغيرات العصرية، و سعة الهامش الاجتماعي و التعليمي المتسارع، و الانفتاح الكوني الذي أوجد تنوعاً فطرياً لمواضيع شكلت احتياجاً قائماً لتعبير مكثف، و لاختزال جنس أدبي بات يشكل انتشاراً ملحوظاً “(1).
و عند الحديث عن القصة تحليلاً ؛ فلابد أن نتعرّض لمفهومها و أساسياتها؛ لاستجلاء مفهوم هذا الفن الذي يُصنّف على أنه ” مرحلة متوسطة ما بين الرواية و الأقصوصة؛ حيث بدأت تعالج جوانب أوسع، و تلتزم في حياكتها بالتمهيد، و العقدة؛ و من ثم الحل، أو تُترك للاستنتاجات. و برع في ذلك تحديداً في الجانب العربي: محمد تيمور، و توفيق الحكيم، و محمد عبد الحليم عبد الله و غيرهم..”(2).
“و بشكل ٍعام يمكن القول أن القصة كأخبار، أو أحداث تُسرد، أو تُقص عند العرب و غيرهم هي قديمة بقِدم الإنسان نفسه، إذ كانت بالطابع النقلي الشفهي؛ لكنها أخذت الطابع الفني وفق أصول وقواعد؛ في القرن التاسع عشر ، لأنها بُنيت على أُسس من علم النفس، و علم الاجتماع و التداخل مع العلوم الأخرى بمقتضى معرفة النفوس و استثارة نوازعها و ميولها “(3).
أساسيات القصة القصيرة :
1 – الطول: من حيث حجم القصة تصوّر – ادجار آلان بو : ” أن القصة هي ما يمكن قراءته في جلسة واحدة ” (4).
ذلك تعبيراً عن أن العمل القصصي كالقصة القصيرة لا يحتاج إلى وقت طويل، و هذا التعبير يُعد تصنيفاً خاصاً بالحجم و لا يتعداه إلى الفنية أو النظرة النقدية.
2 – الرؤية: و هي نقطة ضوء تُطل في لحظة، وُتلهم الكاتب، و تضع موقفاً قد يبدو للبعض عادياً، وفي القصة يكون الكاتب كمن يرى ذلك من زاوية ضيقة، أو جزئية من هذا المجتمع قابلة لأن تكون موقفاً، أو عقدة تتطلّب حلاً.
تشترك القصة مع الرواية و مع أي جنس سردي آخر في أنها تعبر عن رؤية واحدة مثل: حيرة إنسان بين العقل و العاطفة، أو بين إمكاناته و قدراته، أو بين الخير و الشر، أو الماضي و الحاضر ..إلخ، أو تقصّي لعلاقة بين المجتمع و مشكلاته الاجتماعية؛ و في هذا ( وحدة الموضوعية ) التي بإمكان الكاتب أن يتناولها وفق قدراته السردية دون إسهاب، أو اختزال؛ حتى لا تجنح القصة إلى جنس سردي آخر كالرواية عند الإسهاب أو القصة القصيرة جدا ًعند الاختزال.
3- الزمن: تُصوّر القصة القصيرة الحديثة موقفاً يستغرق دقائق، أو ساعة، أو يوماً كاملاً ؛ و قد يتعدى ذلك وفق مقدرة الكاتب في احتواء المضمون و إن تعدى بالقفز على الزمن بمدةٍ لا تطول.
4- الشخصية: لا تُعنى القصة القصيرة إلا بتصوير شخصية واحدة أو اثنتين و في موقف بسيط، و لا تٌفصّل في ملامحهما تفصيلاً بل عن طريق الملامح مع الإشارة إلى المتميز منها دون التعمق بالحالات النفسية، و تأثير المعطيات على مشاعر الشخصية وسلوكها.
5- الحدث: لا تحتمل القصة سوى حدث واحد متوقع عبر لحظة شعورية و في سياق الحدث.
6- البناء: و هو المعمار الفني لأدبيات السرد، و لكل جنسٍ أدبي نقطة بداية تتفق مع رؤية العمل وروحه، و في القصة قد لا يكون هناك حدثاً معيناً، لكن مجرد صورة، أو تشخيص حالة، أو رحلة عابرة في أعماق شخصية حائرة.
7- اللغة : يُميّز القصة القصيرة أن النص بها يكون مكثفاً و إلى أقصى درجة، لا حشو فيها و لا تأكيد أو تكرار، و التشبيهُ فيها يكون في أضيق الحدود، و المفردات مرهِفة و مُنتقاة لخدمة الجملة، و لا مجال للقاص أن يستعرض فيها رصيده اللغوي، أو الثقافي إلا بالاقتصاد و التعبير الدلالي الموجز. و تقل فيها فرصة العبارات الشعرية و إن كان لا بد من وجودها في النص إذا صُنف أنه نص إبداعي.
إن لغة القص في أي عمل سردي تحتاج إلى براعة، و رهافة، و دراية؛ تساعد على الإيحاء أكثر من ظهور المباشرة و التقريرية.
8 – المكان: طبيعة القصة القصيرة لا تحتمل إلا موضعاً واحداً، و قد تتناول حيزاً منه : كغرفة في منزل ، أو رصيف طريق، أو سوق، أو شرفة، أو مكتب، أو جزء مما ذكر.
9- الأسلوب: و هو ” التقنية الفنية التي تساعد القاص في طرح رؤيته من خلال خلط عناصر القصة ببعض من: شخصية، و مكان، و زمن، و لغة، و حدث؛ و هذا بطبيعة الحال يحتاج إلى أساليب فنية دقيقة تُظهر الرؤية إلى حيز الشعور، و تتغير بتغير الشخصيات، و الزوايا، ومواضع العناصر في القص “.
و بتعبير آخر: ” هناك من يرى أن القصة القصيرة أكثر فنية من الرواية عند المقارنة؛ حيث الروائي كمن يسير على طريق متسع ممتلئ بالعديد من الصور و المعالم ، أما القاص فهو كمن يمشي على سور مرتفع رفيع بحذر. و لكل فن تقنياته، و جمالياته، و صعوباته” (5).
و عند الحديث عن العوامل التي أثرت في انتشار فن القصة القصيرة العربية بمفهومها العام، التي هي نفس العوامل التي أثرت في انتشار القصة القصيرة في المجتمعات الإنسانية الأخرى ” منها ميل النفوس إلى القص بشكل عام نسبياً مع انتشار التعليم، و المجلات الأدبية، و الاطلاع على النماذج الواردة إلى الساحة الأدبية العربية، و مناسبة حجم القصة كتابةً و قراءة لرفع الوعي و تقويم المجتمعات أكثر من غيرها، و لأن فن القصة يلائم طبيعة المجتمع العربي عن باقي الفنون ” (6).
مفهوم البيئة في القصة القصيرة:
تكتسب البيئة أهمية كبيرة في العمل القصصي، فهي المحيط الذي توضع فيه باقي عناصر العمل الفني السردي، و هي التي تعطي الكاتب شخصية مستقلة توصله إلى العالمية من خلال المحلية التي يكتسبها إن أحسن التعامل مع بيئته في القدرة على التعبير عنها، بحيث تكشف عن الخصائص الممثلة، و ما للمكان و الزمان من خصوصية تختلف حتى عبر البيئات المقاربة للبيئة و تمنح الكاتب لغة خاصة، و مفردات يحرص على استخدامها، و تراكيب معينة، و هي الوسيلة التي تمكّن الكاتب من تشكيل الصورة في ذهنية المتلقي.
كان هذا الدافع الأساس لاختيار الكتابة عن هذا الموضوع الذي هو: ( ملامح البيئة المكانية للمدينة المنورة عند كتاب القصة القصيرة بالمدينة ). ذلك ما يعطي إحساسا ً بالانتماء للمكان من جهة و المحلية من جهة أخرى، و تبيان الارتباط الروحي الوجداني الوثيق لأبناء هذه المدينة في نفوس كُتّاب و كاتبات القصة القصيرة الذين يعيشون فيها، سواءً ممّنْ هو مولودٌ فيها، أو من قدم إليها ثم استقر.
أما الدافع الآخر للكتابة عن هذا الموضوع هو: أنني لم أعثر على أي دراسة علمية عن البيئة المكانية للمدينة في النصوص القصصية، و ما وُجِدَ غير إشارات عابرة للمكان مبثوثة في أنحاء متفرقة من كُتب و أبحاث علمية و بعض الدراسات غير المتخصصة في الشأن القصصي.
مفهوم البيئة:
تداولت عدد من الدراسات الحديثة و التخصصات المختلفة هذا المفهوم، و حاولت صياغته في نماذج مكانية، فقد أطلقَ بعض الجغرافيين اسم ” علم المكان ” مقابلاً للتاريخ ” علم الزمان ” و المكان بهذا المعنى الواسع يشمل الأرض و ما عليها” (7).
استخدام مصطلح البيئة:
” بدأ استخدام مصطلح البيئة في علم النبات، ثم أصبح متداولاً في كثير من العلوم، ليدل على مجموعة من العناصر الطبيعية، أو البشرية المتداخلة فيما بينها وظيفياً أو سببياً، و أصبح الفهم السليم للبيئة فيما بعد على أنها: ” مجموعة من العناصر المتماسكة التي يتخيّر الإنسان منها ما يناسبه و يحاول التكيف معه، و انتقل هذا المصطلح إلى فن المسرح، و من ثم استعار فن القصة و الرواية اسم ( البيئة ) لدراسة الزمان و المكان و المجتمع، و هو مفهوم شامل من الضروري أن يوليه الأديب اهتمامه، لأنها أكثر ما يؤثر في شخصه، و تعطي انطباعاً صادقاً لما يكتبه و يطرحه من شؤون اجتماعية منتقاة من بيئته “(8).
و من حيث المنظور النقدي: فقد أطلقَ بعض النقاد على مسمى ( البيئة ) في هذا الفن عدداً من التعريفات المتشابكة نحو قولهم أنها تعني : ” البيئة الزمانية و المكانية و الجو المحيط بها “(9).
و قال آخرون: ” البيئة هي مجموعة قوى، و عوامل مكانية، و زمانية، و اجتماعية تؤثر في حياة الإنسان، و عاطفته، وفكره، و تصرفاته “(10).
عناصر البيئة:
و معرفة هذه البيئة تحديداً يساعد على عقد الموازنات فيما بينها، للتعرف على التحولات الاجتماعية في المكان و تأثيره في الإنسان، والعكس.
و لقد تطرق للبيئة المكانية في القصة و الرواية عدد من الكُتاب، لعل هدفهم كان رصد التحولات و نقلها إلى الأدب، معبرين بذلك عن أهم التبدلات في البيئة سواءً في البيت، أو الشارع، أو القرية، أو المدينة. و يعقد المقارنات في أمكنة مختلفة، و أزمنة متباعدة نسبياً ليؤكد الفارق باستخدام وسائل بلاغية تخدم العمل الفني القصصي، أو الروائي.
البيئة المكانية:
” إن علاقة المكان بالقصة قديمة جداً يتردد ذكرها في الغابات، و الكهوف، و الأكواخ، و الأنهار فالمكان: وعاءٌ للحدث و الشخصية، أو إطار لهما و لغيرهما من عناصر القصة، أو قد يكون مجرد خلفية واضحة أو باهتة على السواء، مثلما هو أيضاً بمثابة بُعد مستقيم أو، حلزوني، أو دائري، أو غير ذلك، يتسع لحركة الشخصية و مسيرة الحدث “(11).
و لعل الطريقة التي يكتب بها القاص في كتاباته تؤثر على رؤيته للمكان ..
فمثلاً: نجد أن “الكاتب الرومانسي غير عادل مع المكان، فهو إما يبالغ في تقديسه، أو في جفوته كما في موقفه من المدينة و الريف ؛ فيحمل على تجميل المكان إن كان راضياً عنه، أو يقوم بتشويهه إن كان ساخطاً عليه.
أما القاص الواقعي التقليدي، فهو ملتزم نوعاً من الدقة في تصوير المكان، و يصوره كما هو على حقيقته، و بحسب مقدرته اللغوية دون تجميل أو تشويه.
أما الواقعي المجُدد، فهو يصور الواقع و المكان بحساسية جديدة بعيداً عن الدقة و الأمانة في التصوير، و ربما يعود ذلك إلى تغيّر نظرته إلى الواقع”(12).
” و قد ظل المكان غير مُحتفل به حتى أوائل القرن العشرين -عند الحديث عن الرواية- لأنها تهتم بالحدث أكثر من الشخصية. فالحدث زماني؛ أما الشخصية فمكانية، وقد قيل أنك إذا وصفت المكان فكأنما وصفت الإنسان، و الاهتمام بالحدث سابقاً – في القرن التاسع عشر تقريباً – يدل على فصل الرومانسيين الحاد بين المكان و الشخصية، و قد تكون الشخصية في قمة الحزن و المكان الذي يصوره الكاتب من حولهِ في أبهى صوره ِ”(13).
و لعل سبب إغفال الباحثين و النقاد أهمية المكان و كونه عنصراً حكائياً قائماً بذاته يرجع إلى اشتغالهم بالمضامين الاجتماعية و الفكرية و السياسية “(14).
و تُعد دراسة ( غالب هلسا ) من أوائل الدراسات التي اهتمت بالمكان عنصراً حكائياً مهماً في السرد العربي، و ذلك في كتابه ( المكان في الرواية العربية – عام 1989م ) و قد تطرّق فيه إلى العلاقة المتبادلة بين المكان و السكان، و أن َالمكان قابل للتغيير بفعل الزمان.
وصنّف المكان في ثلاثة أنواع:
1- مكان مجازي يخضع لأفعال الشخصيات.
2- مكان هندسي يُعرض بحياد عن باقي العناصر.
3- المكان كتجربة معاشة داخل العمل الروائي “(15).
و لأن المكان لا يبرز في فعل السرد إلا بتقنية الوصف الدقيق ” يقول سعيد علوش في تعريفه للوصف بأنه: الخطاب الذي يتعرض لتواجد فضائي حيث لا يتداخل زمن الدال، و يُعد الوصف بقدر ما هو إنارة للمكان و خلق الاستعداد لديه لدخول القوى الفاعلة ؛ فإنه بوصلة المتلقي لمعرفة أنماط القوى الفاعلة و أشكالها “(16).
صور المكان:
البيت: ( أنموذجا ً )
تتفق مُعظم المعاجم على الخصائص المشتركة في تعريف البيت، فحسب موسوعة العمارة الإسلامية: ” البيت جمع أبيات و بيوت و بيوتات و أبابيت، سكن، منزل، خيمة، عدة غرف متصلة ببعضها تؤلف وحدة سكنية ضمن بناء كبير، منسَك، صومعة. هذا المكان المتعدد المعاني و المنغلق بجدرانه، و يختلف في طقوسه و أعرافه و قيمته و بطبيعة إحساسنا الروحي و المجتمعي و النفسي و الجمالي بجدران هذه الأمكنة التي تداخلت في تعريف الموسوعة “(17).
” كما أن للبيوت بطقوسها و هيئتها، و بتكوينها و عمقها في أحاسيسنا، رؤية فلسفية و جمالية. ذلك ما يؤكد أن لكل بيئةٍ بيوتاً تتميز بشكل، و لون، و رائحة، و ذاكرة تختلف عن غيرها تبعاً للمكان الذي توجد فيه “(18).
إذاً: البيت من أهم الأماكن دينياً، و اجتماعياً، و أدبياً. فـ ( باشلا ) يرى أن البيت هو الذي يدل على شخصية ساكنه، فموقع البيت في العالم يحدد موقع الإنسان، و حسب اتفاق النقاد فهو امتداد للإنسان ” (19).
و يُقاس على ذلك باقي الأمكنة في حضورها في حياة الإنسان كمكان العمل، المسجد، المدرسة السوق، الحديقة .. إلخ. و ما لها من دور في تشكيل ثقافته و وعيه و إحساسه فيها وبعُدها النفسي في وجدانه.
البيئة المكانيّة في نماذج من القصة القصيرة بالمدينة المنورة في العصر الحديث
ظهرت البيئة المكانية في القصة القصيرة في عدد من المجموعات القصصية، و بعض القصص الأخرى لعدد من الُكتاب و الكاتبات. و في هذه المقاربة نعرض عدد من القصص، و المجموعات القصصية التي ورد فيها ذكر المكان بشكله الجزئي:
1 – قصص محمد سعيد دفتر دار
قصص: ( الأفندي )، ( المجيدي الضائع )، ( مأساة الحاجة فلحة )
و هي قصص واقعية ليست من منزع الخيال كما يقول كاتبها، كذلك يؤكد واقعيتها هاشم دفتر دار في تقديمه لها. و جاءت تلك القصص بالأسلوب الشعري اللين و بالسهل المألوف.
لها تأثير عميق في النفوس. احتوت على وقفات مؤثرة و عبر ناطقة، و قد ذُكِر َالمكان في قصة ( الأفندي ) في العديد من مواضع القصة، لكنه لم يعمد إلى إبراز صورة المكان و هيئته بفنية القص المتعارف عليها اليوم، حيث ركّز فيها الكاتب على تسلسل الأحداث، و تأثير الشخصيات دون الخوض في تفاصل المكان، عدا الإشارة إليها كمسميات أملتها عليه ضرورة السرد.
نذكر هذه الأماكن كما وردت في متن النص: الحرم، باب العنبرية، الحجرة الشريفة ،باب السلام باب الشامي، جبل سلْع، مقبرة سيد الشهداء، جبل أُحد.
و في قصة ( المجيدي الضائع )، جاء ذكر المكان: ” الرباط ،باب المصري، سوق الشروق، المدينة المنورة )، و في قصة ( مأساة الحاجة فلحة )، كان المكان المذكور: ” المدينة .. ، المسجد النبوي ..، مستشفى الملك بباب الشامي ..”
2 – المجموعة القصصية ( لن أعود إليك ):
جاء ذكر المكان في المجموعة القصصية ( لن أعود َ إليك ) للقاصة وفاء الطيب في أولى قصص المجموعة، و هي قصة ( أحلام مثقوبة ) حكت فيها قصة الطفل ( حسن الصغير ) الذي كان يأمل في جمع ( ريالات ) ليشتري بها قصة ( أبو زيد الهلالي ) حيث نجد النص يقول:
” أول ُ قرش ٍ تسلمه ُ في حياته كان َ من والده نظير حمله لأقفاص الحمام من سوق ” العينية ” إلى البيت بحارة ” باب الشامي ” .. أما القرش الثاني فقد استحقه كعيدية من خاله الذي يمتلك محلاً في ” باب المصري .. “ (20).
و لسنا هنا في مفاد الحديث عن القصة و فكرتها و شخوصها و باقي عناصرها، و لكن نحمد للقاصة ذكر هذه الأماكن المنفتحة متعددة المواقع من البيئة ” سوق العينية “،” باب الشامي “، ” باب المصري “، و ما تحمله من دلالات، حيث جاءت كإشارات لمسميات ملتصقة بتاريخ المدينة المنورة، لها حضورها في العقل الجمعي، تحفظ لنا عبق الماضي الذي ربما نحن لا ندركه كما يلتذ بذكره آباؤنا الآن.
فالقاصة هنا جاءت بذكر ” العينية ” بين علامتي تنصيص رامزة ً بالكاد إلى” سوق العينية ” و استدعاء صورة المكان ( السوق ) الممتد على طول ذلك الشارع، الذي كان الزائر المار من خلاله يشاهد باب السلام بالمسجد النبوي من بداية باب العنبرية، و كان فيما مضى من أجمل شوارع المدينة، و سوقاً حيوياً تزدهر فيه تجارة الملابس الجاهزة، و العطورات، و الأدوات المنزلية.
و يصف عزيز ضياء ذلك الشارع بقوله: ” أرضية الشارع و الرصيف مفروشة بالحجر الأسود، و يتكون من صفين شمالي و قبلي، و في كل منهما دكاكين أمامها ممرات جميلة عليها أقواس، و عقود من المباني، و كان أجمل شارع يحتوي على سوقٍ منظم، تكتظ فيه الجموع في ذهابها و إيابها من المسجد النبوي الشريف، و يرتاده الحجاج و الزوار و أهل المدينة “(21).
و عند الحديث عن ” باب الشامي ” – و قد جاء في القصة أيضاً بين علامتي تنصيص – حيث تحيلنا القاصة ( الطيب ) إلى ذلك المكان، الذي سُمي شارع ( باب الشامي ) لأنه كان يقع في الجهة الشمالية من المدينة المنورة جهة بلاد الشام، و كذلك لأن قوافل الحجاج الشاميين تعبر منه و تقيم بجواره.
” باب المصري ” ورد مكتوباً بنفس الطريقة، و المقصود به ( شارع باب المصري )، الذي ُسمي بهذا الاسم لأن قوافل الحجاج المصريين كانت تعبر منه، وتقيم جواره كباب الشامي، و هو ممر تصطف على طوله المحلات و الدكاكين.
إنَ الإتيان بهذه الأماكن: ( سوق العينية، باب الشامي، باب المصري ) في النص القصصي دليل وعي الكاتبة بأهمية توظيف المكان فيما يخدم العمل الفني القصصي، و فيه التأكيد على الاعتزاز بالبيئة و دورها في تزيين الحياة، و إيضاح القيمة الفنية للأسواق في حياة الإنسان، فهي أماكن منفتحة ذات معنىً قيَميّ واسع و تأثير إيجابي على الشخصيات، و توالي ذكرُ هذه الأماكن بهذا الشكل يمنح القارئ صورة حيوية عن الحياة في زمن القص، كما يُعد ذلك توثيقاً لطبيعة النشاط التجاري في تلك الأيام، و نفس القول ينطبق على ما جاءت به القاصة في نصها القصصي المعنون بـ ” امرأة الخيط ” عند ذكرها ” باب التمار ” و” حارة المغاربة “(22).
3 – المجموعة القصصية ( سرداب التاجوري ):
قصة: ( سرداب التاجوري )
بالنظر إلى هذه القصة من هذه المجموعة القصصية للقاصة مريم الضاني، التي تحمل نفس عنوان المجموعة، يتأكد لنا ما لصورة المكان ( السرداب ) هنا تحديداً من تأثير على الساكن بقربهِ و مالهُ من بُعدٍ نفسي كالحب و الشوق و الحنين أو الكره و الخوف و التردد ؛ مع الأخذ في الاعتبار لتاريخ المكان و ما حُكي وُيحكى عنه، و كذلك المرحلة العمرية للإنسان موضع التساؤل، ذلك يتبدى عند التأمل في وصف المكان ذاته إذ يقول النص في وصف السرداب في القصة:
” بعض جيراننا .. قالوا: إنه نفق ضيق مهجور .. يربط التاجوري بالمناخة..
و بعضهم قال: إنه مسكن ٌ للجن ، أما أمي فكانت تمل من أسئلتي الكثيرة عن السرداب ولا تجد ُ جوابا ً فتقول لي: إنه نفق طويل يمتد كالعروق في جسد المدينة المنورة “ (23).
هذا بالإضافة إلى تسجيل المكان: ( حارة التاجوري )، و ( حارة المناخة )، و إظهاره كجزء مما هو من تاريخ المدينة المنورة المعروف.
قصة ( بائع الشراريب )
في قصة ( بائع الشراريب ) لمريم الضاني، تحدد الكاتبة في أعلى الصفحة الأولى من القصة و قبل السرد ( البيئة ) بشقيها المذكورين، و هي في القصة ( المكان و منه الواسع ” المدينة ” و المنفتح “سوق قباء ” و الزمان ” عصر يومٍ من أيام الصيف ” و تقول:
” المدينة : المدينة المنورة.
المكان : ( سوق قباء ) السوق الرئيسي في المدينة.
الزمان : الساعة الخامسة من عصر يوم من أيام الصيف ” (24).
مثلُ هذا التحديد المبدئي للبيئة و هي هنا ( المكان و الزمان ) أقرب إلى المباشرة منهُ إلى التوظيف الفني الجيد الملموس لحضور المكان كما في قصة ( سرداب التاجوري )، و هذا المبتدأ في الكتابة و ذكر البيئة بهذه الطريقة لا يُشعر المتلقي بالحميمية مع المكان و موقعهِ في النفس، حيث لم تظهر القيمة التاريخية لموقع قُباء كجزء مفصلي له مكانته على مر العصور دينياً و تاريخياً و استمالته للنفوس بمجرد ذكره ..!
و ما يُعد من حسنات هذه القصة تجاه المكان: هو توصيف أجواء السوق و ما يصاحب المار به لحظة التسوّق إذ تقول القصة :” النساء يتجولن بين الدكاكين التي عرضت بضائعها خلف الواجهات الزجاجية بطريقة جذابة وجميلة“.
و ذكرها لأجواء اللحظة: ” تمتزج في الهواء رائحة الغبار برائحة البنزين ورائحة البخور المنبعثة من محلات العطارة “(25).
كل هذه الجُمل بتسلسلها بيّنت بشكل ضمني هيئة السوق عصراً، و تشير إلى تلوث المكان عند التأمل في جملة: ” رائحة الغبار برائحة البنزين “، و أنَ المكانَ طريقٌ ضيّق تختلط فيه الروائح، إظهار المكان بمثل هذه الصورة يُحسب كنقطة إيجابية تخدم جودة السرد، و هنا نلمس الفرق الجمالي بين ذكر المكان و الزمان على شكل إشارات كما في بداية القصة، و بين وصف أجوائه في جملة : ” امتزج الغبار برائحة البنزين “، و هذا أقرب إلى إبراز المكان بحضوره الطبيعي في ذهنية القارئ بطريقة فنية و عند استعمال تقنية الوصف خلال مراحل السرد.
كذلك ورد ذكر المكان في قصص الكاتبة الضاني في نصها المعنون بـ ( الولد الأسود )(26).
إذ نجد ساحة المسجد النبوي و مآذنه و قبابه في متن النص، و في سياقٍ فني محدد.
كما جاء ذكر المكان ” باب الشامي ” في القصة المعنونة بـ ( الرجل المكلل بالبياض ) للكاتبة أمل زاهد بما يحمله من معانٍ و دلالات فنية سبق الحديث عنها في قصة سابقة من هذه الورقة(27).
ملامح المكان في أدب الطفل بالمدينة المنورة:
في أدب الطفل نجد ذكر المكان متعدداً و حاضراً في قصة ( رائف في المسجد النبوي الشريف )(28)، للقاصة منال محروس، حيث جاء النص مبيناً العديد من الأمكنة إذ نجد القصة تقول في بدايتها:
” ذهب رائف مع والده عبد الرحمن لأداء صلاة الفجر في المسجد النبوي الشريف “، و هي قصة تعليمية يقوم فيها أب بتعريف ابنه بالعديد من معالم المدينة و يُشير إلى بناء النبي – صلى الله عليه وسلم – للمسجد النبوي، و يأتي في ذات السياق ذكر بناء النبي لمنزله و حُجرات زوجاته: ” و بنى في المدينة الحجرات لزوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن “، ” و في المسجد النبوي الروضة الشريفة .. ” ، و تتواصل القصة فتذكر معالم المسجد النبوي: المنبر الشريف و موقعه، القبة الخضراء و موقعها، و قبر المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وصاحبيه – رضي الله عنهما – ، وجدران المسجد النبوي و أعمدته و أبوابه الكبيرة، و القباب المتحركة، و المنائر العشر ، كل ذلك بشكل تراتبي يتناسب و عمرية الطفل بعيداً عن توظيف المفردات التي قد تُلبس على الطفل فهم المعنى و دلالات مسميات الأشياء.
إنَ تصوير المكان يعطي بُعداً تاريخياً، إذ نستشف منه الوضع المعيشي لأهله و قاطنيه في تاريخ ٍ معين ،كذلك مستوى الحياة في أي إقليم، كما أن َتعدد صور المكان و التباين بينها، يعكس مستوى الطبقات الاجتماعية في زمن معين، أي أن تشابه البيوت دلالة على تشابه مستوى المعيشة و مستوى الذوق و العُرف و المبادئ و القيم و غيرها، فعند تراصّها و تلاحم جدرانها يعد ذلك بُعداً اجتماعياً يدل على قوة التلاحم بين الجيران، و ما كان بينهم من ودٍ و لطفٍ و حميميةٍ و تراحم ، و ارتفاع أسوار السطوح من تلك البيوت يعكس قيمة أدب الجوار و احترام خصوصية الجيران.
إنَ جودة الفعل الأدبي ترتفع عند إظهار المكان بتجليته و وصفهِ بطبيعتهِ وصفاً فنياً حقيقياً ،و إدغام المتلقي في تفاصيله كتعبير عن البيئة المنتمى لها، و الاعتزاز بقيمتها، وبُعدها التاريخي و الإنساني (كمكان) – وهو في مثالنا هذا ( المدينة المنورة )- له صفة محببة و مائزة عن باقي الأماكن في المعمورة.
إنَ الُمطلع على فن القصة القصيرة في المدينة المنورة ليُلاحظ بجلاء عدم ذكر هيئة البيوت من الداخل أو الخارج، و لا وصف الشوارع أو الطرقات، و لا المعالم ؛ على الرُغم من وجود العديد من الأماكن التاريخية العريقة في المدينة المنورة، و كذلك الأماكن الحديثة، ذلك ما يؤكد غياب المكان و الإحساس فيه، و نقل صورة البيئة بوضوح في العمل القصصي الذي هو بمثابة توثيق تاريخي له قيمته و دلالاته ، فالأماكن تتعدد صورها و هيئاتها، فمنها ما هو أمكنة منغلقة، مثل: البيت ، مقر العمل ، المدرسة ، المسجد ، و منها ما هو منفتحة ، مثل: الطريق ، الشارع ، السوق ، الحديقة ، كلها كانت موجودة على مر التاريخ و لا يزال امتدادها حاضراً لكننا لم نجد منها شيئاً بوضوح ٍ في الأعمال السردية / القصصية تحديداً.
مثلُ هذه القصص القصيرة: ( الأفندي )، ( المجيدي الضائع )، ( مأساة الحاجة فلحة )، ( أحلام مثقوبة )، ( سرداب التاجوري )، ( بائع الشراريب ) ، ( الرجل المكلل بالبياض )، ( الولد الأسود ) ، ( امرأة الخيط ) ، ( رائف في المسجد النبوي ) هي جزءٌ ضئيل من إجابات على سؤال هذا البحث الذي هو: ( القطيعة بين المكان و الكاتب في القصة القصيرة عند كُتاب القصة بالمدينة المنورة ) !! ، لكنها تُعتبر إجابات شحيحة جداً! ، حيث خلصنا إلى وجود تلك القطيعة، و القصور تجاه تبيان أثر المكان و قيمته الثقافية و الفنية، إذا ما نظرنا إلى عدد القصص القصيرة التي أنتجتها رغبة الكتابة القصصية لدي كُتابها و كاتباتها، و الذي بحسب هذا المسح الجزئي للقصة القصيرة في المدينة تجاوز ( الثمانين ) نصاً قصصياً في خمس مجموعات قصصية هي: ( ” لن أعودَ إليك ” – وفاء الطيب 1417هـ، ” حُلم في دوامة الانهزام” – حكيمة الحربي 1419هـ، ” أواه يا زمن الصمت ” – بثينة إدريس، و ” هواجس ليل سرمدي ” 2008 م – فاطمة سعد الدين ، ” سرداب التاجوري ” – مريم الضاني ). وبعض القصص الأخرى المتفرقة في عدد من المطبوعات.
الخاتمة:
إن إظهار المكان في العمل القصصي يعطي إحساساً بالانتماء له، و تقديراً لقيمته التاريخية، و أهمية توثيقها، و كذلك يُعد تبياناً للارتباط الروحي الوجداني الوثيق بين الأديب و المكان الذي يكتب منه و فيه نتاجه الأدبي.
و نحن في هذه الورقة نحاول أن نقارب بين إحساس القاص، و درجة وعيه بأهمية المكان الذي يتعرض له، و مدى ما هو موجود في نصوصه من ملامحٍ للبيئة المكانية التي يعيش فيها، و ما كان من القطيعة بين الكاتب و بيئته المكانية، مع التطرق إلى بعض المفاهيم الفنية المساندة في نجاح العمل القصصي المتمثلة في: مفهوم البيئة العام، مفهوم البيئة في القصة القصيرة، استخدامات مصطلح البيئة، عناصر البيئة و أنواعها:( البيئة الاجتماعية – البيئة الطبيعية – البيئة المكانية – البيئة الزمانية )، و صور المكان ، مبتدئين الحديث بمدخلٍ نظري خُصص للحديث عن جزءٍ من التطور التاريخي لفن القصة القصيرة و أساسيات كتابتها، و مدى أهميتها بإيجاز: كطول القصة، و رؤية كاتبها، و زمن القص، و الشخصية ، و الحدث، و الأسلوب، و المكان، و اللغة، و البناء ( المعمار الفني ) .. إلخ، و من ثم عرض نماذج من القصص القصيرة لبعض المجموعات القصصية لكُتاب و كاتبات من المدينة المنورة ؛ تعرّض كُتابها من خلالها للبيئة المكانية ( بشكل موجز ) ؛ مُشيرين إلى هذا المأخذ ! الذي لم يتعد ذكر مسميات بعض الأمكنة أو الطرقات، و في نهاية الورقة وضعنا التعليق الذي رأيناه عليها كنوع من إجابات على سؤال البحث و هو : ( القطيعة بين المكان و الكاتب في القصة القصيرة عند كُتاب القصة بالمدينة المنورة ) !!، حيث خلصنا إلى وجود تلك القطيعة و القصور تجاه تبيان أثر المكان و قيمته الفنية ؛ إذا ما نظرنا إلى عدد القصص القصيرة التي أنتجتها رغبة الكتابة القصصية لدي كُتابها و كاتباتها و الذي بحسب هذا المسح الجزئي للقصة القصيرة في المدينة المنورة تجاوز الثمانين نصاً قصصياً في خمس مجموعات قصصية، و بعض القصص الأخرى المتفرقة، و قد وُضعت قِصص و مواد هذه المجموعات القصصية ( عيّنات ) للحصول على معيارٍ نستطيع من خلاله تقديم حكم ٍنسبيّ على سؤال البحث.
الهوامش :
* قاص و ناقد من السعودية
التعليقات