الأكثر مشاهدة

د. مصلح بركات المالكي*  كلمة أدب من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة ال …

(أدب) كلمة عبر العصور

منذ 3 سنوات

5025

0

د. مصلح بركات المالكي*

 كلمة أدب من الكلمات التي تطور معناها بتطور حياة الأمة العربية وانتقالها من دور البداوة إلى أدوار المدنية والحضارة. وقد تنقلت من معنى لمعنى حتى اتخذت معناها الذي يتبادر إلى أذهاننا اليوم. وللوصول إلى تعريف الأدب لا بد أن نقف على تطور دلالة الكلمة عبر العصور.
• العصر الجاهلي: (قبل الإسلام بـ150 سنة).
لمْ تَردْ كلمة (أدب) بالمعنى المتعارف عليه الآن، لكنها وَرَدتْ في الشعر بكلمة (آدِب) بمعنى الداعي إلى الطعام يقول طرفة بن العبد:
 
نَحنُ في المَشتاةِ نَدعو الجَفَلى
لا تَرى الآدِبَ فينا يَنتَقِر

و مِنْ ذلكَ أيضا (المأدبة) بمعنى وليمة الطعام التي يُدعى إليها الناس و اشتقوا منها (آدب) بمعنى الداعي إلى الوليمة. وهذا يعني أن دلالة الكلمة كانت دلالة حسية في العصر الجاهلي. 
• عصر صدر الإسلام: (من بعثة النبي صلى الله عليه و سلم و حتى وفاة علي بن أبي طالب).
اُسْتُخْدِمَت كلمة أدب على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: “أدبني ربي فأحسنَ تأديبي”. حينَ قال علي – رضي الله عنهُ-: يا رسول الله نحنُ بنو أبٍ واحد و نراك تُكلم العرب بما لا نفهمه”.
ونجد الشاعر المخضرم سهم بن حنظلة الأموي يستخدمها في هذا العصر بنفس المعنى (الأدب، حسن الخلق). إذ يقول:
لا يُمنع الناس منّي ما أردتُ
ولا أعطيهم ما أرادوا حُسن ذا أدبا.
ونجد الكلمة أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا القرآن مأدبة الله، فأقبلوا من مأدبته ما استطعتم. . . “.
 وهذه النصوص تُشير إلى ذيوع استخدام الكلمة في العصر الإسلامي و أنَّها اكتسبت معنىً إضافيا إلى جانب المعنى الحسي، وهو (معنى ذهني) يتعلق بالجانب الخُلقي التهذيبي فقد كانت تعني الخلق الكريم. 
• العصر الأموي:(40هـ – 132هـ).
ظلَّت الكلمة تدل على المعنى التهذيبي السابق إلا أنها أخذت تكتسب معنىً تعليميًا حينَ وُجِدَت طائفة من المعلمين باسم (المؤدبين). كانَ هؤلاء يعلمون أبناء الخلفاء ما تطمح إليه أنفس آبائهم من معرفة و ثقافة، فكانوا يلقنونهم الخطابة و الثقافة و أخبار العرب وأنسابهم وأيامهم في الجاهلية و الإسلام. و هذا توسع ثانٍ في استخدام الكلمة إذ اكتسبت معنى تعليمي. 
• العصر العباسي: (132هـ – 656هـ).
في هذا العصر يتقابل المعنى التهذيبي و المعنى التعليمي، فنجد عبدالله بن المقفع يكتب رسالتين تتضمنان ضروبًا من الحكم و النصائح الأخلاقية و السياسية بمسمى:
(الأدب الصغير) و (الأدب الكبير). كما نجد أبا تمام يسمي الجزء الثالث من ديوان حماسته التي جمع فيها مختارات من طرائف الشعر بمسمى (باب الأدب). و كذلك البخاري يعقد كتابًا في صحيحه بمسمى (الأدب). و هذا يُشير إلى ذيوع الكلمة و كثرة تداولها بالمعنى التهذيبي التعليمي. و التوسع في استخدامها لتدل على المعنى التعليمي التثقيفي عندما نحو بالكلمة وجهة معرفة أخبار العرب و أشعارهم، و بهذا المعنى كتبوا كتبًا سموها أدبًا. مثل (البيان والتبيين) للجاحظ. و (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد. و (العقد الفريد) لابن عبدربه. و كتاب (زهر الآداب) للحصري.
وفيما بعد شهدت العصور اللاحقة اتساع التأليف في العلوم اللغوية و الثقافية وصار مفهوم كلمة أدب دالًا على ثقافة لغوية عربية جامعة. 
• ما بعد العصر العباسي:
تطرَّق ابن خلدون (ت808هـ) إلى مفهوم كلمة أدب في مقدمته. فقد عقدَ في مقدمته فصلًا في علوم اللسان العربي تناول فيه النحو و اللغة و البيان (علوم اللغة) ثمَّ الأدب، فعدَّ الأدب علمًا من علوم اللسان و قال بأنه لا موضوع لهُ و إنما المقصود به عند أهل البيان ثمرته و هي الإجادة في فني: المنظوم، و المنثور، على أساليب العرب و مناحيهم. ثمَّ انتقل إلى تعريفٍ آخر، يقول:
“ثمَّ إنهم إذا أرادوا تعريف هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب و أخبارهم و الأخذ من كل علمٍ بطرف، يريدون علوم اللغة أو العلوم الشرعية.. “.
وكأنَّ ابن خلدون يعود بالمصطلح مرة أخرى إلى جذوره في العصرين الإسلامي و الأموي حين كانت الكلمة تعني التهذيب و تعلم أشعار العرب و أخبارهم.
وبهذا العرض لدلالة الكلمة خلال العصور المختلفة يتضح أنها تتسع دلاليا وتضيق تبعًا لاختلاف العصور، فتشمل كل أنواع المعرفة حينًا وينحسر معناها عند حدود الكلام الجيد من المنظوم و المنثور حينًا آخر.
ومنذ أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، أخذت الكلمة تدل على معنيين: (معنى عام، ومعنى خاص). فالأدب بالمعنى العام يدل على كل ما يُكتب في اللغة مهما كان موضوعه ومهما يكن أسلوبه، سواءً أكان علمًا أم فلسفة أم أدبًا صرفا. فكل ما ينتجه العقل والشعور يُسمى أدبًا.
أمّا الأدب بالمعنى الخاص فيُطلق على الأدب الخالص الذي يُراد به التعبير عن معنى من المعاني تعبيرًا فنيا جميلًا ومؤثرًا في عواطف القارئ والسامع. على نحو ما هو معروف في صناعتي الشعر وفنون النثر الأدبية مثل الخطابة والأمثال والقصص والمسرحيات و المقامات.

*ناقد وأكاديمي سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود