مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

محمد جبران* من بين جثث الموتى والنيران المشتعلة خرج آخر الجنود المقاتلين يجر قدم …

آخر المحاربين

منذ سنتين

272

0

محمد جبران*

من بين جثث الموتى والنيران المشتعلة خرج آخر الجنود المقاتلين يجر قدميه بتثاقل متجها صوب شاطئ البحر بعد أن أحرقت آلة الحرب سنابل القمح ومزقت قلوب الأطفال وأجنحة الفراشات.
انتصب واقفا أمام البحر ونظر إلى انعكاس قرص الشمس على سطحه الساكن وقال:
هذا هو العالم الحقيقي الخالي من الكراهية وألاعيب البشر ونزاعاتهم التي لا تنتهي .. نزع بزته العسكرية ورماها مع بندقيته جانبًا وتقدم إلى داخله، اطلق نفسًا عميقًا اخرج به الهواء المشبع بدخان الحرب ثم عاد وسحب كمية ضخمة من هواء البحر وحبسه في صدره وغاص في الأعماق ..
غرس قدميه في رمال البحر لئلا تجرفه تيارات الماء .. كشف له ضوء الشمس المتسلل جمال الأسماك وأعشاب البحر وعالمها السحري .. أخذت أعداد هائلة من الأسماك وحيوانات البحر تدور من حوله وتتراقص .. حاول الإمساك بواحدة ولم يتمكن، كرر المحاولة ولم يستطع التقاط شيء .. استغرب انفلات هذه الضحايا السهلة من بين يديه وهو القنّاص الماهر، سلط نظره على تحركاتها، بدت الأسماك التي رآها قبل قليل مغايرة للأسماك التي يراها الآن، أمعن النظر في أشكالها الغريبة، أصبحت موحشة، أعينها صارت أكثر اتساعًا ولمعانًا، انبجست أفكار مرعبة في ذهنه، شعر أن أرواح الموتى الصغار سكنتها أو شيئا من هذا القبيل، ضغط بأصابعه على صدغيه، يبدو أنه شك أن اضطرابًا ربما أصاب عقله أو خللًا وقع في عينه، حاول لمسها واستمالتها إليه لكنها أشهرت أسلحتها الحادة في وجهه، امتقع لونه، وتساءل في نفسه:
ما لذي يريدونه مني؟!
تأسف أنه لم يجلب معه بندقيته ليقضي على هذه الأرواح الشريرة المتمردة، لكنه تذكر أن ذخيرته استنفذها بالكامل في الأجساد البشرية .. أخذ الأكسجين الذي يمده بالبقاء يتناقص، ضاق صدره وبدأت أضلاعه تتلاقى، شحب لونه وانشدت عضلات وجهه، وجحظت عيناه .. استجمع طاقته الذهنية وقرر العودة إلى سطح البحر ليعيد ملء رئتيه بالهواء النقي من جديد ويجلب حربة بندقيته ..
لم توافقه قدماه المغروسة في وحل القاع على المغادرة .. تراءى له المكان كجدران خنادق الحرب الخانقة وأسوار المعسكرات العالية التي تحيط بها حواجز الأسلاك الشائكة، أدرك أن أمامه وقتا طويلا للخروج من هذا المأزق قبل أن تنفذ طاقته .. اقتربت منه جيوش الأسماك حين توقفت حركة يديه، أخذت زعانفها تداعب جسده المنهك، شعر بوخز شديد في ساقيه، صعد الألم المتكاثف إلى فخذيه .. أخذ جسمه يتمايل مع حركة الماء، أصابه الإعياء لكنه ظل متماسكا، حدق في رجليه بشدة، رآها هيكلًا عظميًا، أرعبه المنظر، ساورته خواطر النهاية الأبدية في هذا المكان بعد أن أتاه هربا من الحرب .. استدعت ذاكرته مشاهد الموتى ورائحة الجلود المحترقة، داهمته رغبة في التقيؤ، سقط جاثيًا على ركبتيه، انحدرت على عظمتي فكيه المتخشبتين دمعة، كونت الدمعة الساقطة دوائر مائية واسعة، التموجات المنداحة أزاحت الأسماك إلى البعيد .. انتهز لحظة ابتعادها وشرع في إزالة ما علق على قدميه من الرمل والأعشاب، ترك البحر جسده الخفيف يصعد إلى السطح، الأمواج الصغيرة دفعته ببطء إلى طرف اليابسة .. أجال ببصره في الأرجاء، كان المشهد شاحبا؛ الأرض خالية، الرماد ينتشر في كل مكان، وهناك على الأعمدة المتفحمة تنتظر في صبر مجموعة من الغربان.

*كاتب من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود