231
01338
0237
1211
0430
018
041
0132
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11822
04785
04756
04676
04416
17إعداد_حصة البوحيمد_أمينة فلاته
يمثل الوطن الحضن الأول للأدباء، الذي طالما حضر في مؤلفاتهم، وإنتاجهم. وتراوح المنتج الثقافي لهم ما بين: قصص، وروايات، وشعر، ركز هذا المنتج على عمق الانتساب لهذا الكيان، و أفق الاغتراب الذي طالما كان عنوانًا رئيسًا للعديد من تفاصيل الحنين والأنين في غربة الأديب؛ يتغنى به عبر كلماته وأشعاره.
قضية العدد لهذا الشهر، تُسلط الضوءَ على هذا الميزان، يشاركنا فيها مجموعة من المثقفين والأدباء، في طرح رؤاهم والتي تمثل أكثر من وطن على ضوء المحاور التالية:
*الذي يمنحك الحياة أولى بأن يكون الشعر كله له
بداية شاركنا الرأي الدكتور نايف الرشدان/مستشار ثقافي وإعلامي سعودي قائلاً: الحديث عن الوطن كله ضوء، وإن كان مكتملاً لابد فيه من التفصيل.
فمنذ إشراقة عالم الأدب في المملكة العربية السعودية مواكبةً للتأسيس وللمؤسس آنذاك الراحل الملك عبد العزيز -رحمه الله- و الأدب يؤدي رسالته بدءاً مما كان قد دونه الشعر على يد ابن عثيمين ثم الشعراء الرواد خصوصاً في الحجاز، لأن ابن عثيمين كان أبرز شعراء نجد ثم انطلق من بعدها شعراء الحجاز
غير إنه من اللافت أن الأكثر قرباً إلى الواقع السياسي آنذاك شعر ابن عثيمين في ديوانه العقد الثمين، وتواتر الشعراء من بعد ذلك، فرسالة الشعر كانت حاضرة منذ البدء.
وعبر هذه الرحلة الطويلة أخذ الشعر الوطني يمر بمنخفضات ومرتفعات ويمر بوهاد و بجبال و بتضاريس مختلفة، إذ أن هناك من الشعراء من يجيد وهناك من يحيد وهناك من ينبو وهناك من يتنبأ بمستقبل جيد وهناك من لديه بعض التساؤلات وردت في كثيرٍ من أشعار أولئك الذين لا ينتمون بشكل واضح و جيد، هذا أمر لا نستطيع حجبه فالمكتبة العربية يوجد فيها ذلك، وما دام أن الأمر فيه توثيق لابد أن يقال مثل هذا لا نقول أن كل الشعراء أدوا ما عليهم تجاه الوطن، فهناك شعراء لهم ارتباط وانتماء قوي بالأرض، بالوطن، بالدين، باللغة، وهناك شعراء لهم اهتمامات أخرى ربما توجهات أخرى، ربما يرتبط ذلك برهانهم على أشياء يعتقدونها، ولذلك تجد الشعر الوطني لديهم يشوبه شيء من الحذر والقلق والتجوز حينًا، لكن عندما نأتي إلى مستقر الشعر الحقيقي وقد بدأ في ثلاثة العقود الأخيرة وضح أن الشعر في أعلى مستواه الفني ولم يتخلف عن رسالته الوطنية، وإن كانت القافلة تلك التي تحيد عن الطريق لم تزل موجودة في قافلة الكتابة نحو الوطن.
الصدق دائمًا مع الوطن ليس بالتطبيل وأن تكون مادحًا أو مستجلباً لمديح الآخرين، الذي لا يمدح الوطن و لا يكون صادقًا لا نستطيع أن نضمه ضمن الذين أدوا رسالةً شعريةً للوطن، نتكلم عن الشعر أما عن النثر فكان أوضح بيانًا في الافتراق والاتفاق. هناك من كتب ضد الوطن وهناك من كتب مع الوطن، لكن رسالتي التي دائمًا أحملها على ظهري هو أن الإنسان لابد أن يكون وفيًا للمكان الذي تفيأ ظلاله وأنعم عليه بخيراتٍ من الله :
وأظلم أهل الظلمِ من باتَ جاحدًا
لمن باتَ في نعمائهِ يتقلبُ.
الشاعر والأديب والمواطن والمقيم الذي يتفيأ ظلال هذا الوطن ولا ينتمي إليه لغة وأدبًا وفكرًا ولا يرى أحقيته في الانتماء وفي الوفاء أعتقد أنه في حياته كلها سنرى فيه انحيازًا وعدم حياديه مع نفسه.
والشعراء مثلهم مثل غيرهم ينتابهم القلق والحالات النفسية المختلفة، وهناك من يصور نفسه على أنه هو الأحق وليس هناك حق أعلى من حق الله عندما يختار لك هذا الوطن الجميل، الوطن حقٌ أوليّ ثم حقك أنت وهو ما يمليه ضميرك الواعي ونصيبك الأخلاقي من الكتابة الصادقة، هذا من جانب أوليّ.
الشعر على مدار العقود السبعة يتفاوت في مراحله الأولى وإن كانت صورته قد وضحت في العقود الثلاثة الأخيرة. ربما يكون الغطاء الفني سببًا في عدم كشف حقيقة الشاعر أحيانًا ويظهر في قلة من الشعراء وقد وقفت أنا بنفسي على مجموعة من الشعراء يظهر صدقهم علناً. أقصد مع الوطن و لكن في أبياتهم الشعرية الأخرى أرى أن مثل هؤلاء الشعراء هم من يصنعون من اللغة شركًا لاصطياد الكثير من الأفكار المجانبة للصواب.
نأتي إلى الشعراء الذين يحمدون فيما يفعلون و هم أولئك الذين جاءت قصائدهم معبرة بصدق وعن عمق بتوافق و شكر لهذه النعم المتوالية. وأنا قضية أن هناك إنصافاً للوطن فلو لوّن الشعراء كل دواوينهم بالوطن فإنهم لن يوفوه قدره ولن ينصفوه!
قلت آنفاً أن الذي يمنحك الأمن والأمان والدفء والأرض ويمنحك الحياة ويمنحك الحرية أولى بأن يكون كل مديحك له فإذا كان الشعراء يعرجون على الوطن في قصائدهم فالأولى بأن يكون الشعر كله للوطن.
الجانب الثاني -من وجهه نظري- أرى أن كل شاعر حتى وإن كتب في الموضوعات الوجدانية أو الإنسانية لا يخرج عن نسق الكتابة الوطنية لأنه مَنْ شكّله وشارك في نمائه وبنائه هو الوطن، الذي سكب في جوانحه هذا الوفاء وهذه الشمائل وهذه القيم الوجدانية والقيم النفسية، لذلك أقول إن من كان معجونًا بحب الوطن فإن كل حب ينجُم من وراء هذا الحب هو أصله بذار الوطن.
لا أستطيع أن أحصي كل ما قيل في الوطن من شعر وكتابة في جواب عابر وكلمات محددة حتى وإن كان في صفحات لأن لذلك كتباً تدون، فالشعر كان كثيراً والجهد كان طيبًا؛ لكن كما قلت حتى لا يغتم علينا أو أن نجعل أنفسنا في صورة من يستغفل أو من ينظر إليه بأنه لا يفرق بين الأشياء المتقابلة:
“وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلمِ”
إذا كان من يمدح الوطن بصورة أوضح ومن كان يمدح الوطن بقبح لا يستويان، كذلك نحن نعرف أولئك الذين ينتمون انتماءً صادقًا والذين يحيدون على الطريق:
وليس يصح في الأفهامِ شيءٌ
إذا احتاج النهار إلى دليلٍ
لن يخفى الدليل الواضح على أن قصائد كثير من الشعراء الذين قفزوا خارج الأسوار وأصبحوا بوقًا للأعداء لكن الذي نراه في صورة أكيدة لنا هو أن عدوك البيّن أفضل من صديقك الغامض.
العدو البيّن كما قال عبد الرحمن الناصر ذات يوم في الاندلس: “لأسد هصور أمام عيني أهون علي من كلب عقور خلف ظهري”.
الأعداء البينون هم نعمة لأنك تستطيع أن تتقيهم، لكن أولئك الذين ينغمسون في حياتك دون أن تعلم خطرهم هم أولئك الذين يؤذونك في وطنك أو قيمك بشكل أو بآخر.
الشعر أدى رسالته في الغالب وقضية الإنصاف لم تتم ولن تتم حتى لو قيل الشعر كله لأنني كما قلت أحقية الوطن أولى وأعلى من أن يكتب فيه شعر أو أدب.
وأول محطات إسهام الوطن في صناعة المبدعين هو هذه الكيانات العلمية والمؤسسات الوطنية التي قدمها الوطن من المراكز العلمية والثقافية، وتسهم في بناء المواطن فكرياً وعلمياً وثقافياً حتى إذا ما صادف روحاً مبدعة كان هذا التعليم وهذا التثقيف وهذا المِران والدربة متوافقًا مع هذا الإبداع الذي ينضح فيما بعد على هيئته نشاطاً أدبياً مستقلاً، فمن صنع هذه القيم و من قدم هذه المواهب إنه الوطن بلا شك، و من تحرر من هذه الرؤية فيُشك في صدقه وليس في وطنيته، صدقه مع ذاته و حياته. لأن الإنسان لا يعرف بما في داخله فهو كيان غامض أمامك.
أنت لا تدرك ذلك إلا من خلال علاقتك مع الأشياء من حولك، علاقتك مع الناس مع معلميك مع جيرانك مع وطنك مع أرضك مع ماضيك مع تاريخك مع موهبتك يخرجها ويبرزها هذا الصدق الداخلي لديك، فكيف بمن أسهم الوطن في صناعته وتكوينه وبذلك عند اختلاف سمات التكوين لدى كل فرد إنما تنبع من ذاته المبدعة وليس من تكوينه الأولي، فكل الناس فيه متساوون ولكنهم في الإبداع متفاوتون مختلفون ،إنك لا تعرف كيف تكون منصفاً لماضيك وحاضرك، فالبشر فعلاً متساوون في مسائل البناء والتكوين ولكن في مسائل الإبداع يفترقون بقدر ما لديهم من مظاهر النبوغ ومن استعداد فطري ومن قيم فنية ومن قدرات عقلية وذهنية ومن استيعاب هذه فيها يفترق فبها الأدباء. ويدخل في ذلك الميول والاتجاهات أقصد الميول الفنية والاتجاهات التي يعن إليها المبدعون ومنهم من لا يسير على خطى واحدة.
– الوطن يؤسس في بناء المبدع بلا شك وينتظر من هؤلاء أن يكون بارين أوفياء مع هذا البناء و هذه القيم الحضارية التي قدمها الوطن لأبنائه.
أما من حيث السؤال: كيف يسمو الأديب ليرد فضل هذا الكيان فأعتقد كما ذكرت لك أن الشعراء والمبدعين والأدباء عمومًا يتفاوتون في التعبير بل و يتفاوتون في مسائل القدرة، بعضهم لديه الجرأة أن يتكلم ولديه الجرأة أن يقول ويعبر عن وفائه لوطنه، وربما لأمر أو لآخر يحجم أصغر لدى بعض الأدباء الذين يتحررون ويبتعدون عن الكتابة للوطن خجلاً وحياءً، حتى على مستوى العلاقات الفردية هناك أناس لا يستطيعون أن يعبروا عن حبهم وعن وجدانهم عن مشاعرهم، يمنعهم الحياء يمنعهم الخجل وربما هناك شعراء يريدون أن يقدموا شيئاً للوطن لكنهم يخجلون من أولئك الذين يصنفونهم بشعراء المناسبات، وهذه الصفة التي لازمت كثيراً من شعراء الوطن عند بعض النقاد.
وفي يقيني أن الكتابة عن الوطن لا يعد من شعر المناسبات، هذا مخالف للواقع تماماً. المناسبة حدث عارض عابر أما الوطن فليس حدثاً عابرا.
الوطن حياة حياتك أنت، أنت تنعم في داخل هذا المكان تتفيأ ظلاله، وتنضوي تحت لوائه، الوطن هو الأم والأم أحيانًا تقسو على ابنها، تنهره، لكنها تحبه تحتضنه، لذلك أولئك الأدباء لابد أن يتعاملوا مع هذا الوطن وكأنه أم حنون لها الحق أن تجفو ولها الحق أن تعدو وأن تكشّر وأن تغتم وأن تهتم، هي كيان محب وينعكس عليه ما يحدث من أولئك الأبناء، لذلك الشعراء لابد أن يكونوا بارين بالوطن والمبدعون لابد أن يكونوا أوفياءً مع هذا الكيان الذي قدمهم للعالم هذا الوجه الذي يبتسم أمام الملايين من الجماهير أو المتابعين ما كان لهذه الابتسامة وهذه الإشراقه أن تكون بدون إشراقة الوطن.
أما إجابة السؤال الأخير: إنتاج الأدب العربي والكتابة للوطن. انتساباً ووجعاً موجود في جميع الأقطار العربية، وعلى مستوى العالم وليس فقط في العالم العربي حتى أولئك الذين عُرفوا بشعراء المهجر عندما خرجوا من لبنان وسوريا إلى دول أمريكا اللاتينية أولئك خرجوا بإرادتهم لم يخرجوا مطرودين كما فُعِل ببعض الشعراء العالميين مثل الشاعر الكبير بابلو نيرودا بين النمسا و تشيلي كيف كانت هذه القيم السياسية سبباً في تشرده وتشرذمه ثم في موته ولعل أمثاله كثر.
المبدعون العرب لم يقفوا عند حالة واحدة من الاغتراب أو الانتماء والانتساب لأننا بصورة واحدة قد نصف الإبداع بأنه لا يمكن أن يكون قادرًا على التعبير عن التماثلات أو الاختلافات أو التغايرات، وأضرب لك مثلاً بشاعر كبير مثل الفيتورى الذي تنقّل بين أكثر من بلد بل وحصل على أكثر من جنسية -كما تعلمون- ويحمل معه الغربة أينما سار وهذا أمر طبعي وتحدث عن غربته وهو يتنقل بين الأقطار. لكن ماذا عن البردّوني، وهو الذي بقي في وطنه لكنه بقي مغترباً بين جوانح اليمن ويشهد الكثير من شعره على أنه كان يعاني في وطنه؛
ماذا أُحدّثُ عن صنعاءَ يا أبتي
مليحةٌ عاشقاها السلُ والجربُ
وهذا من أشهر الأبيات السائرة لدى الناس وهناك أبيات كثيرة تدلل على هذه الغربة داخل الوطن.
هناك أيضا شاعر سعودي اسمه حمد الحجي عانى كثيراً من غربة الروح في داخل الوطن، وهناك شاعر وشاعرة اغتربا عن الوطن أخذا يقطران ألمًا وليس شعراً مثل فدوى طوقان ووالدها إبراهيم طوقان بعد رحيلهم وبعدهم عن فلسطين فلم يكن بعداً اختياريًا ولكنه قسري أما شعراء المهجر -كما ذكرت سابقاً-
فقد كانت هجرتهم اختيارية وليست قسرية يعني ذهبوا للبحث عن المعيشة للأفضل فذهب شعراء المهجر المعروفين إلى أمريكا اللاتينية من الشام ولبنان وغيرها مثلما يحدث في كثير من الدول تجد أن هؤلاء الشعراء يتفننون في الحديث عن الغربة بعضهم من يتألم وبعضهم من يتأمل. من الشعراء الذين عاشوا الغربة أيضاً بدر شاكر السياب كان قد قضى آخر حياته في الكويت، و الكويت والبصرة قريبتان بحكم أنه كان من البصرة لكن الغربة موجودة والشكوى من الألم وفقدان الأمل كانت معه أينما سار. كل الذين تحدثوا عن أوطانهم وعن قضاياهم كانوا يبدعون بمستويات فنية هائلة، إذاً كان الوطن بخيره وشره بضره ونفعه بوجوده وغيابه سبب خير على كثير من الشعراء. ولعلكم تعرفون وتدركون أن شاعراً كان يحمل طول حياته هم قضية الوطن. بل عده النقاد من أصحاب القضية الواحدة وبأنه حين تحل هذه القضية لن يكون شاعراً مبدعاً مثل ما كان وهذا غير صحيح وأتحدث هنا عن الشاعر الكبير محمود درويش الذي ظل في أكثر دواوينه يتحدث عن قضيته الكبرى الوحيدة فلسطين وكلام النقاد أو بعض النقاد عن أنه سيفقد قيمته الفنية حينما تحل قضية فلسطين، هذا كلام عار من الصحة، لأن بذرة الإبداع التي خلقها هذا المعنى لن تجف أو تقف عند الحلول، الشعراء الكبار لا يمكن أن تكون علاقتهم بالوطن وقفاً على المعاناة ولا من حيث الألم فقط، فإن حُلت القضية حتما سيكون الحديث الوطني في شعره وإبداعه عن جمال العودة عن الألفة عن رونق الحياة بعد الغياب؛ إذن لا يقف شاعر ولا تتوقف مسيرته لمجرد أن أمراً عسيراً كان يشكو منه قد تيسر وحُل وأستوى وعاد إلى ما يصنع الفرح.
الشعراء يتبعون ضمائرهم الفنية مثلما يتبع الظل جذع الشجرة.
أنا أعتقد أن الشعراء على مدار السنين الماضية والعقود التي مضت لديهم علاقة قوية بين المكان والإبداع
،فالشاعر و المبدع بينه وبين وطنه آصرة وثيقة، قد يكون ألمًا وقد يكون أملًا وقد تكون هذه العلاقة خفيّة قد لا تظهر في شعره لكنها تظهر في توجهه الفني على المستوى العام والمشترك الفني.
*الوطن يخرج عن دائرة الإنصاف
ويتغنى الشاعر الحسن الكامح من المغرب الشقيق بالوطن والانتماء لهذا الكيان المتجذر في أعماقه:
(وطني قلب نابض
لا حدود له
ممتد في القصائد التي تكتبني
ممتد في تاريخ الأرض التي سوتني
ممتد بين الآهات والكلماتِ)
الوطن لا يعرف بالمساحة والحدود، الوطن كل حفنة تراب، كل شجرة عالية متجذرة في تاريخ الإنسان، كل نبض يقودك من خارج الحدود إلى ركنٍ في بيت، إلى ذكرياتٍ في صمت، وإلى شاهدة قبر، الوطن لا كلمة ننطقها أو نكتبها هباء بدون إحساس، الوطن ليست خارطة على الورق نرسمها أو نشيداً نغنيه، وليس وثيقة الانتماء.
بل الوطن أكبر من ذلك، هو الإحساس المتجذر في كياننا منذ ولادتنا، نشم هواءه كي نعيش، ونشرب ماءه فيسري بين الضلوع يقوينا، هو ذا الوطن الذي نرتعش حين نذكره، ونشتاق إليه حين نبتعد عنه… ونتوق إليه إذا تهنا في المدارات.
الوطن حاضر في الكتابات منذ أن شعر الإنسان بانتمائه إليه أينما كان على وجه هذه الكرة الأرضية، لا فرق بين انتماء وانتماء لأنه انتماء للوطن ولا غيره، ولا انتماء لغيره ملفقاً بالإيديولوجيات.
الوطن قصيدة عشق تسكن الشاعر، معزوفة صامتة يرتوي منها عازف، عرض مسرحي إيمائي يتقمصه مسرحي على الركح، رقصة فلكلورية يعتنقها راقص بدوي..، ولا يجوز لنا أن نتحدث عن الإنصاف لأن الوطن لا يحتاج إلى الإنصاف لأنه فوق الإنصاف ويخرج عن دائرة الإنصاف.
الأديب أو الكاتب نقطة انتماء لهذا الوطن، وجوده هي كتاباته، فحين يعبر عن ذاته وانتمائه الإنساني يعبر عن هذا الوطن مجازاً واستعارات وصوراً شعرية، معاناةً وحلماً قائماً يسوي بين الخيال والواقع، لا يمكن أن نحدد هوية الوطن بالشكل الدقيق الخارج عن المفهوم الجغرافي والتاريخي، لأن المبدع غير مرتبط بالحدود والقوانين وكلما يقيد لذلك الوطن قد يكون عاشقةً ومعشوقًا، شاعرًا وقصيدةً، روائيًا ونصاً سردياً، نحن نتحدث عن الوطن الذي يحضنك ذاتاً وروحاً لا وطناً يحضنك جسداً؛ لأن الجسد يفنى أما الروح فتبقى راسخة في الذكريات وفي الوجود و الذات، تبقى مستقرة في الكتابات لا يمسها فناء ولا تلف.
الأديب جزءٌ لا يتجزأ من الوطن ولا ينفصل عنه، لذا يرتقي ويسمو بما يكتب من إبداعات تؤرخه وطناً ممتداً في الآفاق لا حدود له في الخيال، وحلماً يزاوج بين الحضور والغياب. ولا يفكر أبداً رد الفضل له، لأنه منه ومنه يتغذى.
(وطني قصيدة لا تراوحني
تحملني إلى البعاد البعادِ
تخرجني من عمق الرمادِ
عاشقاً إليه أنتمي بعيداً في الآفاقِ
أحلق فينقا من شط البدايات إلى منتهى البلادِ)
الانتساب ليس مرتبطًا بالولادة ولا ببطاقة وطنية أو جواز السفر، الانتساب انتساب الروح والذات، أينما نبض قلبك هو دليلك، وهو انتسابك الأبدي، وحين تشعر بأنك فارغ بلا انتماء وجداني هو الاغتراب في حد ذاته، قد تكون في وطنك المادي وتشعر بحرقة الاغتراب، وقد تكون مغترباً وتشعر بحميمية الانتساب، فبين الاغتراب والانتساب جسر قصير لكنه عالٍ، لا تحاول أن تقف في وسطه لأنك في النهاية ستسقط من الأعلى، ولكن انتسب لما تجد فيه ذاتك وطناً رحيماً يحن إليك كما تحن إليه، تشتاق إليه في قهوة سوداء أو خبزٍ حافٍ أو سريرٍ من حصير. ولا تنسب إلى ما لا يليق بك فتعش مغترباً ولو كنت على عرش وطن مجازي.
(وطني نبض ثابت بين الضلوع
فيه أستوي
لا نشيداً ملَّ المقام عابراً
وطني انتساب للماء
به أرتوي
لا حلماً ضلَّ الطريق فأضحى جائراً
وطني آيات الانتماء
ووثيقة الانتساب بين خضرة الاستعارات
لا بين اغتراب الرؤى والوقت ملَّ عقرباً حائرا).
*الوطن ملازم لكل نتاج دون تزمين أو تحديد
ويرى الدكتور والشاعر السعودي يحيى الزبيدي أن الوطن سيظل دَيْناً في عنق أبنائه من خلال حديثه:
الوطن شيءٌ عظيم وإلهام عميق وروح بديعة تتجلى في إحساس وتصوير وخيال كل أديب حقيقي..
وهو حاضر في نتاج الشعراء والأدباء والفنانين بشكل عام؛ من خلال الفخر بأمجاده والتغني بإنجازاته وإعلان المحبة والولاء لقادته وتجسيد روح الانتماء له وتشكيل تلك الروح الوطنية القائمة على ترسيخ المحبة ونشر الخير و إرساء السلام..
ويظل الوطن دَيْناً لا ينقضي في أعناق أبنائه مهما كانوا أدباء أو غيرهم؛ إذ أن حقه عظيم وفضله كبير على من سبقنا وعلينا نحن وعلى من يأتي من بعدنا من أجيال قادمة.
كما أن هناك أمراً جديراً بالذكر والاهتمام وهو أن الوطن لا يعني أن نصوره في المناسبات أو مرور يوم أو ذكرى معينة فقط، بل هو ملازم لكل نتاج دون تزمين أو تحديد؛ فهو حاضر في أدبنا – وكذلك ينبغي– فوق حدود الزمان وخارج إطار المكان.
ولا شك أن الفخر بالوطن والتغني به والحنين إليه من أعظم شِيَم الأدباء.
من هنا كانت رسالة الأديب سامية جداً؛ لأنه يمتلك زمام الحرف والكلمة والمعنى للتحليق بجناحي كتابته إلى آفاق أبعد وسمو أعلى حين يصور ويجسد هذا الوطن ..
وحول نوعية النتاج العربي في الانتساب والاغتراب يقول د. يحيى: الحقيقة أن هذا المحور بحد ذاته مفتاح للعديد من الدراسات والأبحاث الأدبية العميقة التي تُعنى بتتبع ذلك الإنتاج وتطوره وأبرز خصائصه وملامحه الفنية من منظور أدبي نقدي، ولعل المطلع على الأدب العربي بامتداد عصوره يجد الوطن حاضراً بقوة في مقدمة أغراض الشعر والأدب بدءاً بالعصر الجاهلي مروراً بالعصور الأدبية جميعها وانتهاءً بالأدب العربي الحديث، والأدب السعودي أنموذج مشرف لذلك..
ويمكن للمطّلع على أدب ابن الرومي والزركلي والبارودي والمهجريين وغيرهم – أن يلمح بوضوح كمية الاشتياق للوطن والشعور بألم الغربة والبعد عن الوطن والحنين لكل شبر فيه.
*الوطن هو الأرض التي نبتت فيها بذرة إبداع المبدع
وتؤكد الشاعرة السعودية هند النزاري بأن الوطن حاضر في أنفاس الأدباء وليس في إنتاجهم فقط!
ولكن هل تم إنصافه؟ بالتأكيد لا، فلو وقف الأدباء والشعراء كل حرف كتبوه على التغني بأمجاده والوفاء له لما بلغوا شيئا مما أعطاهم هو إياه..
يظل الوطن هو الأكرم والأسبق والأوفى، ويظل كل ما يكتب تغنيًا به ليس إلا بعض هباته وعطاياه.
الوطن هو الأرض التي نبتت فيها بذرة إبداع المبدع، هو السماء التي تنبسط فيها أجنحته، هو الثقافة التي ينطلق منها، وهو القوة التي تنبعث في روحه ليقتحم ساحة الأدب، وبالنسبة للاتجاهات فالوطن لا يشترط عليك اتجاهاً إجبارياً ؛ حلِّقْ حيث تريد، فقط احفظ له حرمته، وكن صورةً مشرِّفة عنه، أما ما عدا ذلك فهو بينك وبين قلمك، وللعروبة جراحها القديمة التي تنزف من كل قلم منتمٍ لها ولو كان بمنأى عن ساحات الوجع، إلا أن للسعودية مكانها المختلف؛ فهي فخر المنتسبين ومأوى المغتربين، حيث تبنت أقلام مبدعيها قضايا العالم العربي وكأنها قضاياها الخاصة، سواءً كانت قضايا عامة أو فردية؛ حتى أن وفاة طبيب مصري مثلاً تصبح قضيتنا ولا يبقى قلم سعودي إلا ويرثيه ويبكيه ويعدد مناقبه، طفل مغربي يتعرض لكارثة، تتجرد الأقلام السعودية لرثائه وكأنه نشأ بينها، وأمثلة كثيرة لا عد لها ولا حصر، الأديب السعودي حاضر عن كل الأوطان العربية بقلمه وقلبه، وهذا ما تعلمناه من حكومتنا العظيمة التي وجدناها منذ وعينا على الدنيا يداً ممتدة لكل عربي ولكل مسلم حيث كان وتحت أي ظرف كان.
*وطننا مظلة ثقافية تدعم المبدع
ويفيد القاص السعودي علي المالكي حول موضوع القضية بقوله:
مررت بكثير من إنتاج الأدباء وخاصة العرب فلم أجد كاتباً أو شاعراً إلا ويحمل في قلبه وطناً سواءً مقيم في وطنه أم مغترباً عنه، فكثير من الأوطان مازالت خالدة بما خلد عنها في إنتاج الأدباء كفلسطين في أعمال غسان كنفاني ودرويش أو السعودية في أعمال كتابها سواءً المقيم خارجها أو الحاضر على أرضها وما كتبوه من روائع إبداعهم وتبنته المؤسسات الثقافية والصحف المحلية.
لكننا لن نجزم بأن جميع الأوطان تبنت ودعمت مبدعيها فهناك من خالف سياسة وطنه ونفاه خارج حدوده وخاصة تلك الدول التي انتسب الأدباء فيها إلى أحزاب ومنظمات مخالفة، والحمد لله أن وطننا المملكة العربية السعودية لا تحتضن على ثراها مثل هذه الثقافات المزعجة، بل سعت وتسعى إلى خلق مظلة ثقافية واسعة ترحب بالمبدع وتحتويه وإنتاجه وتدعم من يستحق أن يكون إنتاجه مشرفًا، ولنا في الجوائز التي تبنتها وزارة الثقافة والأندية الأدبية خير مثال على ذلك.
*الأديب جندي مثابر بقلمه وفكره
ويشاركنا الحوار الأديب محمود عودة من فلسطين حيث قال:
سُئل الشاعر الفلسطيني محمود درويش ما الوطن فأجاب بعبارة بسيطة تعني الكثير فقال: الوطن أن أحتسي أنا وأمي القهوة في المساء تحت دالية.
وسأل مواطن أمريكي الرئيس الأمريكي جون كنيدي: ما قدم لنا الوطن؟ فأجابه: قبل أن تسأل ماذا قدم الوطن اسأل نفسك ماذا قدمت أنت للوطن.
في هذين الرأيين يتبلور محور الوطن في قلب الأدباء والشعراء والمثقفين وحتى المواطن العادي…؛ لذا يجب أن يُسئل من ذكرتهم جميعاً ماذا قدمتم للوطن..، وهنا يتبادر إلى الذهن هل قصيدة تمجد الوطن أو قصة تروي لمحة من أوجاعه أو رواية تسرد آلامه وهمومه.. كافية لتلبية طلبات الوطن.
من وجهة نظري يجب أن يكون الأديب جندياً مثابراً بقلمه وفكره، في البحث بأدبه وفكره عن حلول وأفكار وعن حل لكل مشكلة يعرضها ويخوض في تفاصيلها على الأقل من وجهة نظره وألا يكون متعصباً لرأيه وفكره وما يطرحه بل يجعله مائدة ثقافية للنقاش لتخرج بأفكار وبؤر منيرة وتقدم بطريقة أو بأخرى للمسؤولين أو أصحاب القرار، هنا تبرز مشكلة مع أصحاب القرار ومدى استيعابهم لآراء الغير.
وفي المقابل يحتاج المبدع أو المفكر فيما يقدمه من إنتاج فكري وثقافي إلى التشجيع ومن ثم التقدير والاحترام من أصحاب القرار في الوطن ثم من أفراد المجتمع، لكي يتجدد منهم دوماً الإبهار و الإبداع ، للفائدة والإمتاع.
ويبقى شيئاً أكثر أهمية ينتظره كل أديب أو مفكر أو مثقف أو مبدع من الوطن وهو الإحساس بالأمن والأمان في حياته ومعيشته، وأن لا يحاسب أو يعاقب على رأي أو وجهة نظر، طالما أنه يحافظ على مشاعر الآخرين ولا يتعرض برأيه إلى الذم أو القدح، لأصحاب القرار أو حتى الأفراد العاديين، وهو ما يسمى عدم تكميم الأفواه أو احترام الرأي والرأي الآخر.
واكتفي بذلك لأن الحديث عن الوطن والأدباء والمثقفين بحر واسع ليس له قرار.
*الإنسان غريب إن لم يجد الأمان في وطنه
وعن حب الوطن والانتماء تحدثنا الأستاذة فاطمة سعد الدين /رئيسة رابطة أديبات كاتبات ومثقفات المدينة المنورة، بقولها:
لاشك أن حب الأوطان فطرةٌ تُقَاسِمُ الإنسان أنفاسَهَ مهما كانت ثقافته أو دينه، ولأهمية الوطن لنا في رسولنا الكريم – صلى الله عليه و سلم- أعظم وفاء عندما كان الحنين في قلبه لا يفارقه إلى مكة ويغالِبُهُ ليلَهُ ونهارَهُ، فما أنعِمْ به من وفاءٍ، فعن ابن عباسٍ – رضي الله تعالى عنهما – قال:
(( لما خرجَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم من مكةَ قال: أمَا واللهِ إني لأَخرجُ منكِ وإني لأعلمُ أنك أحبّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأكرمهُ على اللهِ؛ ولولا أهلكِ أخرجُوني منك ما خَرجتُ ))
لأن حب الوطن والانتماء إليه حب فطري من خلاله يتم تعزيز الهوية والقيم الوطنية، فنجد حب الوطن حاضراً بمختلف فنونه ومنابره في تعزيز هذا الدور في كتابات الأدباء من خلال مختلف المجالات الأدبية كقصائد المدح والثناء أو من خلال الكتابات النثرية والقضايا الوطنية والاجتماعية وغيرها وما ذلك إلا دلالة على الانتماء الفطري والروحي حقاً..
الوطن حاضر في أغلب كتابات الأدباء السعوديين من خلال وطنيةٍ نجدها في المعاني والقيم، التي قامت عليها الدولة و ذكريات الأجداد، والاجتهاد والعطاء المتواصل، وهذا بلا شك ساهم في زيادة إبداع الأدباء عندما يتخلله حب وانتماء ودفاع والذب عن الوطن في مختلف مجالاته من وصف أو مدح وثناء في انتصارات الملك عبدالعزيز و قيادتنا السعودية في وصف إنجازاتها في مختلف مجالات عصورها، وهناك الكثير من النماذج الجميلة التي لا يتسع المجال لذكرها والتي تحمل الحس الوطني في الدفاع عن المملكة العربية السعودية وقادتها والذب عنهم بمختلف المجالات.
فالانتماء هو الانتساب إلى دين أو بلد أو قبيلة أو أسرة وهذا كما جاء في قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فالمسلم ينتسب إلى الإسلام ويصرح بذلك إنني من المسلمين، والله أمر رسوله أن يقول (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، فهذا هو رأس الانتساب وأفضله لأن الانتساب إلى الوطن والدفاع عن الدين ميثاق غليظ من الرحمة والأخوة، وعروة وثقى واستثمار بكرم جهد وفيض لبناء المجتمع الآمن وإن فُقد الانتساب للوطن فحتماً ستكون هناك الغربة بمختلف ألوانها وأشكالها، منها ما يأتي بملء إرادة الإنسان عندما يبحث عنها فيسطر غربته في قوالب مختلفة وقد تكون الغربة بإحساسه بالغربة في بلده ومسقط رأسه، فالإنسان عندما لا يجد الأمان في وطنه سيكون غريباً، وحين يصعب عليه إيجاد فرصته وتحقيق ذاته ولديه القدرة على إعالة نفسه ومن هم برقبته سيكون غريباً أيضا، وعندما يجد نفسه مهمشاً يكون غريباً وأعظم الغربة على المستوى الفرديِّ عندما يقع وطن الإنسان أسيرًا في أيدي أعداء يُحيطون به من كلِّ جانب، فيحمل هَمَّيْن: همَّ الغربة في المكان، وهم الغربة في الزَّمان، فنجد الأدباء والكتاب تناولوا كل ألوان تلك الغربة وعبروا عنها بمشاعر فياضة من خلال كتاباتهم وسطروها فيشعر بها القارئ من خلال تلك السطور المفعمة بالمشاعر صادقة نقية تلامس القلوب بكل دفء.
*لحب الوطن والغربة فضل في مسار الإبداع
وتتحدث رئيسة ديوان القلم بلبنان د. سلوى خليل الأمين عن وجود الوطن بين أقلام المبدعين وصفحات الإبداع بقولها:
الوطن هو الهوية التي نحملها، وهو العائلة التي تحضننا، وهو الهواء الذي نتنفسه، وهو الفكر الذي نتغنى به، وهو التراب الذي يؤانس موت أجسادنا. فالوطن هو العاطفة العميقة التي تستوطن المُهج، مهما بعُدت المسافات ومهما تغرب الإنسان، يبقى حنينه الدائم لأول منزل، أي الوطن.
وللأدب والشعر في ذاكرة أدبائنا وشعرائنا، الذين اضطرتهم ظروف الحرب المتعاقبة والاستعمار اللعين وظروف المعيشة الضيقة إلى هجرة الوطن، مكانها الأوسع والرحب، فالأديب والشاعر وأي إنسان مهما بلغت حولياته لا يمكن أن يستريح على مهود العيش الآمن في بلد ما، وينسى وطنه الأم، مهما استبدت به الأحوال، وطال الزمن، وتشعبت المسارات، فالحنين يبقى حاضراً في قلبه إلى وطنه، من هنا نتج ما سمي بالأدب المهجري في سلسلة أنواع الأدب وعصوره التي تهادت عبر الزمن. لهذا كان أدباء المهجر وشعرائه يتغنون بوطنهم عبر الالتفات في كل ما كتبوا، نحو ربوعه وطبيعته والحنين إلى تلك الربوع المكللة بالحب، الذي شكل في ذاكرتهم أجمل القصائد وأروع النصوص. فها هو جبران خليل جبران يكتب ويرسم حنينه لوطنه ولضيعته بشري بأحرف من ذهب، زينت الأدب بأدب رفيع المستوى و خلّاق، تتزاوج في سطوره وبين حروفه الشوق إلى الانعتاق من الألم، الذي سببته تلك الغربة القاتلة، فلا تستطيع حصر الوطن في مطاوي النسيان مهما هيأت من أمن وأمان، يبقى الحب الأقوى للوطن متفاعل أو بقوة في كل ما كتب، وشاسعاً كالمدى اللامتناهي، الذي كان يحسه بقلبه وروحه لذاك الوطن، الذي آلمه تركه و سفره إلى أميركا متغرباً إلا من قلمه وريشته، اللذان رسما وكتبا هواجسه وآلامه ونبض شوقه للوطن. وهو يقول عن غربته، عن ذاك الوطن الذي عاش في ضميره وقلبه، وأغمار نفسه المتماهية مع رب الكون: “… ومات قلبي في داخلي والتهبت دموعي في عيني“. من هنا نتحسس كم أن الوطن يبقى حاضرًا في مسارات الأديب أو الشاعر، لهذا كانت كتبه تستوحي عناوينها من وطنه: عرائس المروج، الأرواح المتمردة، النبي، الأجنحة المتكسرة والكواكب وغيرها.. من مؤلفاته، وكلها مستوحاة من اصطدامه بواقع الحياة المر الذي تركه خلفه، ومن الجور والاستبداد الذي عاشه مرغماً كمواطن، وهو ابن الطبيعة والجمال والفطرة، لكن بالرغم من سنوات البعاد و الهجرة، لم ينس وطنه الأم لبنان وبقي حتى وفاته ينشده في كتبه ورسوماته وأناشيده، التي ما زالت خالدة مع الزمن وحول العالم. فهكذا هو الكاتب إن كان أديبًا أو شاعراً فهو يستوحي من مآسي وطنه وأفراحه كل بما يجول في عقله ومساراته الجديدة والمتجددة.
إن إنسانية الإنسان وتفتح فكره وقلبه، وتنمية مواهبه وإبداعاته، يُسهم فيها بلا شك الوطن ككل، بناسه، بحاراته، برفاقه، بجميع من شكلوا له هذا الملاذ الجميل في نفسه وروحه، فانسكبت كلها آيات من حروف و كلمات، صيغت بأحلى العبارات، حين أصبح بعيداً عن الوطن، فالهواجس والعواطف تصبح مزامير ترن على الخاطر لتوقظه، فيكتب أجمل النصوص الأدبية، وأروع القصائد الشعرية بشرارات وهّاجة من فكره، وتلاويح قلبه المفعم بحب الوطن، وتأملاته في حياة الغربة وشؤونها، وشجونها، حيث تقيم للإنسان أوزانًا يضيق بها الزمان والمكان.
إن للغربة عن الوطن فضل كبير في مسار الإبداع، بحيث يتعرف الكاتب والأديب والشاعر على حضارات جديدة و عادات وقيم مختلفة، تتداخل في عقله وفكره فتبتدع أنماطاً من الأدب تتراءى كعمود نور يضيئ على الخير والشر والحق والجمال وكل ما في البشرية من أمور تتفاعل عبر الكون، كي تخط لهذا العالم درباً رقيقاً ورفيع المستوى و مدهش في حوليات دروبه، ويدمجه تلقائياً بالشوق لوطنه الآمن، الذي غادره مرغماً، ومتفاعلا ًمع الصدى الداخلي في حياته العابقة بكل حوليات الحياة، فالأدب فن يلتصق بحياة الناس، ويخدم أغراضهم، ويواسي عذاباتهم، ويهدهد آلامهم وأحزانهم، ويواسي معاناتهم، لهذا يولد فيهم حب الوطن، الذي لا يمكن استبداله بأي حب في الدنيا، مهما تطورت الأحوال، يبقى حب الوطن في القلب والعقل والضمير، معلق على أوردة ينمو معها الشعور بالمسؤولية والشمولية والتوحد الإنساني.
قال ميخائيل نعيمة – أحد أعضاء الرابطة القلمية التي تشكلت في المهجر في نيويورك في العام 1920م-، وكان من أعضائها جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وغيرهم وجميعهم كتبوا للوطن الذي لم يبارح عقولهم وفكرهم، وقد قال الأديب ميخائيل نعيمة عن الأدب: ” الأدب والحياة توأمان لا ينفصلان، وإن الأدب عميق كالحياة، بعيد الأغوار” وهو لذلك مارس في كتاباته النزعة التأملية والحنين إلى الوطن وإحساس الأديب أو الشاعر بما يدور في وطنه من كوارث، ويتألم لابتعاده عنه، فيتملكه إحساس قوي وقاسي بالزمن الذي يعيشه مهاجراً وغريباً في ديار لا يتآلف عضوياً مع مكوناتها، ولا يأنس لجوها النفسي، فيلجأ إلى الترميز في كتاباته، عله يفي وطنه بعض الحق.
إن الأدب العربي لم يتأثر رغم كثرة من كوارث وحروب، منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر، عصر الضعف والانحطاط، حيث لم يهزم الأدب، ولم يتعثر وجود الشعراء، ولم يتلكأ النتاج الأدبي عن الصعود، رغم كثرة العراقيل والمطبات، وقد ساهم أدباء المهجر في أوائل القرن الماضي بما سُميَ عصر النهضة، وذلك لإكثارهم من النتاج الأدبي والعمل على تأسيس الصحف، واللجوء إلى الرمز في كتاباتهم وقصائدهم لما له من دلالات، لم يمكنها أن تجف أو تنضب، وبقي أدباء وشعراء الوطن العربي يتماهون في نتاجهم ويسلطون الضوء على حدود الحياة في زمانهم الماضي والحاضر، وهم يبغون من كل ذلك نشر الوعي والحرية والتوحد و الفرح الدائم، والانطلاق نحو حياة أفضل.
فالأدب العربي إن ترنح في عصر الانحطاط، إلا أنه سرعان ما استعاد وهجه بفضل كتابه وشعرائه و أدباءه الذين ينتسبون إليه بالروح والفكر والعقل، والحب الذي يوحدهم، ويجعلهم أحسن أمة أخرجت للعالمين.
وكان لأدباء وشعراء المهجر الحيز الأكبر في شرعنة الانتساب لهذا الوطن العربي الكبير، عبر نتاج ثرّ وصل إلينا و اهتممنا به وأدرجناه ضمن سلسلة الأدب بعصوره المختلفة.
وهكذا نرى أن الأديب والشاعر والكاتب لا يمكننا فصله عن وطنه، مهما ابتعد عنه، لأن مشاعره تبقى حاضرة في عقله وفكره يحركها وجع الاغتراب، ويحدو به إلى التذكير بوطنه عبر شعره وليس أدل من قول الشاعر المهجري إيليا أبو ماضي في حنينه لوطنه:
يا ويح قلبي إنه في جانبي وأظنه نائي المزار بعيدا
ومن ثم يتغزل بوطنه قائلا:
وطن النجوم أنا هنا حدق أتذكر من أنا
ألمحت في الماضي البعيد فتى غريراً أرعنا
إلى أن يعود للقول، والقصيدة طويلة:
لكنه مهما سلا هيهات يسلو الموطنا.
التعليقات