مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

أهدي هذه السطور إلى كل من راسلني في الخاص في فيسبوك، وحدثني في العام يريد النصح، …

موجهات في كتابة الشعر

منذ 3 سنوات

591

0

أهدي هذه السطور إلى كل من راسلني في الخاص في فيسبوك، وحدثني في العام يريد النصح، والإرشاد، إلى كيفية إجادة الشعر، له ولغيره ممن يجدون في نفوسهم شيئًا من قول الشعر موهبة، أهديه لهم جميعًا تحببًا، وتودُّدًا.

تمهيد:

في أرجح الأقوال، هناك ثلاثة أمور إن توفرت أمكننا كتابة الشعر:

– القصد.
– الانزياح.
– الإيقاع.
لنتناول هذه الأمور الثلاثة بقليل من التفصيل غير الممل.

القصد:

ونعني به أن يقصد القائل قول الشعر، فلا يقع عليه عرضًا، ودون قصد. كالذي وقع عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – من ألفاظ في قوله:

“أنا النَّبيُّ لا كَذِب، أنا ابن عبدِ المطَّلبْ”

وهو من بحر الرجز، ذي التفعيلة: مُسْتَفْعِلُنْ.

ونقول القصد، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يقصد قول الشعر، لأنه لم يُعلَّم الشعر” وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ” والشعر في حق النبي – صلى الله عليه وسلم – صفة نقص تنزه عنها اكتمالا، في الوقت الذي كانت فيه العرب تحتفل بنبوغ شاعر بينها؛ وذلك لتأييد رسالته وإبعاد شبهة الشعر عن القرآن الكريم، وإنه لكذلك، أعني منزه عن مشابهة الشعر.

وحيثما لم يقصد المرء بقوله شعرا، فإنه لا يقال عن مقاله بدون قصد منه شعرا، وإنما حديثًا وافق الإيقاعات الموسيقية للشعر أيا كان هذا الشعر.

النقطة الثانية وهي الانزياح، فما هو الانزياح؟

الانزياح:

هو في أجمع تعريف وأوثقه:

“خروج التعبير عن السائد، أو المتعارف عليه قياساً في الاستعمال، رؤية، ولغةً وصياغةً وتركيباً”

ولعمري فقد نزل الرجل على الركن الثاني للشعر في تعريف موجز. فقوله “خروج عن التعبير السائد يخرج كل حديث عادي لا رونق له ولا بهاء ترقص له الأفئدة وأمثلة الضد من هذه الصفات من مثل قول أبي نُوَاس:

وَأخَفتَ أَهلَ الشِركِ حَتّى إِنَّهُ

لَتَخافُكَ النُطَفُ الَّتي لَم تُخلَقِ

أو قول المتنبي:

طَلَبتَهُم عَلى الأَمواهِ حَتّى

تَخَوَّفَ أَن تُفَتِّشَهُ السَحابُ

أو قوله:
يَهُزُّ الجَيشُ حَولَكَ جانِبَيهِ

كَما نَفَضَت جَناحَيها العُقابُ

أو قول بشار بن برد:
كَأَنَّ مُثارَ النَقعِ فَوقَ رؤوسهم

وَأَسيافَنا لَيلٌ تَهاوى كَواكِبُه

إنها باختصار الشاعرية التي اختُصَّ به قوم دون قوم، والنبوغ الذي لأجله كانت تحتفل العرب.

انظر إلى ما جاء به عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة في علم البيان):

“ويتصل بهذا الموضع حديث عبد الرحمن بن حسّان، وذلك أنه رجع إلى أبيه حسَّان وهو صبيّ، يبكي ويقول لَسَعَني طائر، فقال حسان: صِفْهُ يا بُنيَّ، فقال كأنه مُلْتَفٌّ في بُرْدَىْ حِبرَة، وكان لسعَهُ زُنْبُور، فقال حسّان قال ابنِي الشِّعر وربِّ الكعبة. يقول عبد القاهر الجرجاني: أفلا تراه جَعل هذا التشبيه مما يُستدَلُّ به على مقدار قُوّة الطبعِ، ويُجْعَله عِياراً في الفَرْق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعدّ له؟”

ففي قوله: لغة:

يذهب بنا إلى ضرورة تعلم اللغة التي يقال بها الشعر، وكيفية استخدامها عند قومها والناطقين بها للغرض الذي ينوي الشاعر تسخيرها له. ولا تتأتى اللغة لكل متمنٍ، وهذا ما جعل الشعراء الكبار يجمعون أجمل الشعر في مؤلفات، ينظرون إليه ليل نهار، رجاء بلوغ بعض تلكم المنازل الشعرية السامية. وقد تحدثت عن ذلك كثيرا، وقلت بضرورة اكتساب اللغة بقراءة الأدب العربي لمن شاء أن يكتب الشعر العربي.

وفي قوله “صياغة وتركيبا أمران:

الأول: الإتيان بالصورة الفريدة، التي تذهل المتلقي، لا الحقيقة العلمية ولا وصف الواقع كما هو، وإنما يعني الخيال البارع، وإعمال الذهن كل إعمال حتى يأتيَ بما يُعرِّفه بعضهم في زماننا هذا بالتغريب، وقد أوردت بعضًا من ذلكم التغريب، ويمكنني أن أزيد قول الشاعر السوداني إدريس جمّاع:
أنت السماء بدت لنا

واستعصمت بالبعد عنّا

فالمفردة قريبة والصورة متاحة، ولكن من يستطيع توليدها، وعرضها على المتلقي في صورة مدهشة كل الدهشة؟ ههنا يأتي دور الشاعرية.

وإن الانزياح هذا لا يتأتى لكل متمنٍ، وقد تحدثت كثيرا عن ضرورة الاهتمام بالانزياح وقلت بدوام الشِّعر على مر الزمان محل احتفاء وتقدير، ودوام الشُّعراء محل محبة وتبجيل، وتقدير، وما ذلك لمجرد ألقابهم، وإنما لما بلغوه من تفرد لم يأت على الموهبة وحدها، وإنما على الاجتهاد في تحصيل اللغة؛ ولتعجبوا من قول أحمد بن أبي طاهر أنه قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نواس ومسلمٍ، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثين سنةً. بالطبع لا يعني عبادتهما، وإنما يبالغ في صرف وقته لهذين الديوانين وإلهائهما إياه عن عبادة الله تعالى، مقرعًا نفسه. وتصوروا اهتمامًا بديوانين لمدة ثلاثين سنة! وهناك بيننا من يقرر أن يكون شاعرًا بين عشيةٍ وضحاها.

وهذا المتنبي (تلميذ البحتري وأبي تمام) يُطَوِّف في البوادي لينهل اللغة من أهل البداوة، ثم ها هو يتأبط ديواني البحتري وأبي تمام حيثما ذهب، ويبخل بهما على من سأله إياهما.

وهذا أبو العلاء المعري، يتعلق إعجابا، بأبي تمام، فيشرح ديوانه ويسميه (ذكرى حبيب)، ويتعلق بالبحتري إعجابا، فيشرح ديوانه ويسميه (عبث الوليد)، ويتدله بديوان المتنبي، ويبلغ به سلطان الطرب منتهاه فيشرحه باسم (مُعجز أحمد).

وها هو نزار قباني يرهق نفسه في الشرب من دنان الشعر العربي، ويبلغ به أمر البحث عن المفردة الشاعرة للاطلاع على الآداب الأخرى، فينتشي من خمرة الشاعر الإسباني فدريكو جارسيا لوركا، ويطلب الطرب من تجديد الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير، فيأتي بما لم يُتوقع منه ولَمَّا يشب عن العقد الثاني من عمره في ديوانه (طفولة نهد)، الذي طبعته له أمه ببيع صيغتها.

وحدّث عزيزي القارئ عن كل أديب ذاع صيته في الأصقاع، فإنك واجد وراءه كل جد واجتهاد في كسب اللغة وفنيات استخدامها، ومعرفة تراكيبها وموسيقاها.

وإني إذ أُصر على ضرب هذه الأمثلة لأثبت ضرورة الاهتمام بالموهبة، وصقلها بالتعلم، واكتساب أدوات الكتابة، ذلك أن الكثير من أدبائنا الشباب، مازالوا يعتمدون الشاعر والقصيدة، أو الديوان والطريقة الواحدة في تعاطي الشعر، منغلقين على نمط واحد، وأسلوب تكرار مجه السامع، فبعث ذلك السآمة في الكلمة الشعرية، وانصرف الناس عن الشعر إلا قليلاً ممن يؤملون في عودة الكلمة الشاعرة.

الموسيقى:

وأُصر على ضرورة وجودها، لأن كل الأمم تقول بذلك، وإن كثر مريدو أصحاب قصيدة النثر، والذي جهل مراده الكثير ممن تسلق سلمه شعرًا فخر صعقا، لا لشيء إلا لعجزه عن التفنن في اللغة، والإدهاش في العبارة، وهما ساقا شعر النثر الذي خلا منه شعر الكثير ممن نحا هذا النحو. وقلت في ذلك مقولتي: ” قصيدة النثر مدهشة، لافتة للسمع آخذة للبصر، لكنها كالبرق تمامًا، لا تتكرر في سماء المتلقي إلا مرة واحدة، وجل خُطابها لا قِبل لهم بمهرها.”

* كاتب سوداني

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود