الأكثر مشاهدة

إعداد_حصة البوحيمد_عائشة عسيري تكريم المبدع بعد رحيله يكاد يكون سمةً سائدة في ال …

تكريم الأدباء بين روتينية التأجيل وحتمية الرحيل

منذ سنتين

1541

1

إعداد_حصة البوحيمد_عائشة عسيري

تكريم المبدع بعد رحيله يكاد يكون سمةً سائدة في المشهدين الثقافيين: المحلي والعربي حيث يتسابقان لتكريم المبدعين بعد رحيلهم والاحتفاء بهم وتسمية الشوارع والميادين بأسمائهم ونشر إبداعاتهم مجددًا، فعلى المبدع العربي أن يموت حتى يكون له وجود على خريطة الاعتراف والاحتفاء رسميَّا، في حين أن الثقافات الإنسانية المتقدمة تحتفي بالمبدعين الحقيقيين في حياتهم ونجد أن الجوائز الأدبية الكبرى في هذه الثقافات لا تُمنح إلا لمبدعين أحياء «احتفاءً بالحياة لا بالموت»، كجائزة نوبل وغونكور وبوليتزر وغيرها من الجوائز الأدبية التي يمثِّل الحصول عليها تتويجًا واحتفاءً بالمبدع في حياته، ذلك التكريم المؤجل يعكس خللًا أزليًا ويولد العديد من التساؤلات التي رصدتها فرقد الإبداعية وطرحتها على نخبة من الأدباء والمفكرين ملخصة في المحاور التالية:

– ما وجهة نظركم نحو هذه الظاهرة وأسبابها التي جعلت الجهات الثقافية تتجاهل الاحتفاء بالأدباء إلى  ما بعد الرحيل؟

– ما مدى انعكاسات هذا التكريم المؤجل على مسيرة الأدباء والمثقفين، وهل في هذا التكريم المُخجل مواساة لذوي المثقف؟

– ما هي نصائحكم كمثقفين وأدباء لجهات الثقافة في البلدان العربية لإقامة تكريم حقيقي للمثقف أثناء حياته؟

*زامر الحي لا يطرب

يرى الشاعر السعودي إبراهيم الألمعي أن ظاهرة التجاهل والتكريم المؤجل: هي ظاهرة عربيةوإنسانية غالباًقديمة. ومن أسبابها الإنسانية أنه لا كرامة لنبيّ في قومه، وأنّ زامر الحيّ لا يُطرب، وحين ينطفئ عمر المبدع أو المثقف أو العالِم يأخذ مكانته اللائقة. سقراط مثلاً: ظهرت مكانته بعد محاكمته وإعدامه، والحلاج صار منهجه معروفاً مشهورا ًمحبباً بعد إعدامه..

أما على المستوى العربي فقد زاد تجاهل مبدعيه ومثقفيه وعلمائه بصفة إضافية أخرى تخص الثقافة العربية منذ أن كثرت المذْهَبة باستخدام الدين من عهد الخلافة الأولى حتى اليوم، ولم تزل تتكاثر انشطاراتها بشكل عجيب، فانشغلت الشعوب بتشتتها عن النظرة إلى الإبداع والعلم والفلسفات، وأشغلتها لعبة سياساتها التي تسوق عوامّها سَوقًا إلى ما يخدم تسنمها القيادات، ولم تكن تحمل همّاً موضوعياً تجاه تلكم الفئات التي خُلقت لتبدع علماً أو أدباً أو فلسفة خارج نطاق القطعان المسخرة، ومن يرى ما حولنا من تجييش الشعوب باسم ثقافات البكاء والملاطمات على قوم ولّوا وولى زمانهم منذ قرون طويلة يعلم أنها مجرد شعوب قطيعية..

وفي وطننا كانت الثقافة معتمدة على مؤسسات عتيقة كالأندية الأدبية، ثم حدثت هناك نقلة نراها جميعاً ونراقبها، ويؤمل منها التجديد ضمن الرّؤى المطروحة الجديدة التي بدأت، غير أن وزارة الثقافة حتى اليوم بدأت بشباب فهموا أن التجديد والرؤية قد يعني تجاهل أهل الأدب والفكر ممن كان ضمن المنظومة العتيقة، فركّزوا على الأعمال التقنية التي توصل إلى الآخر، متجاهلين الفاعلين الذين كانوا نواة ودعاة التنوير الذي طبقته القيادة حالياً..

ومن هنا ستزيد قطيعتها مع هؤلاء الرواد لو استمرت على هذا المنوال، تكريم الميّت هو مجرّد اعتراف منّا بقصورنا وهذا جميل، فالاعترافات بدايات العلاج، حتى وإن مات المبدع دون شعوره بأن وطنه عرف له قدرًا من قدْره، ولو أمكن وزارة الثقافة وضع هيئة مثلاً أو إدارة ضمن زحمة الهيئات فيها تهتم بهذا في كل منطقة من مناطق المملكة، ومنحت المناطق صلاحيات لتكريم مبدعيها باسم الوطن بالتفاعل مع الرعاة الذين يرعون بسخاء مهرجانات الترفيه لخفف هذا من وطأة المركزية المخنوقة التي لا تدركها الجهات العليا في هذه الوزارة..

أعتقد أن تمركز كل شيء في بعض مكاتب مبنى الوزارة عائق لا يدركه المخطط الأعلى أمام وطنٍ بهذا الحجم والتنوع..

ولا أجد الآن نصائح مجدية لما نطلق عليه العالم العربي الذي ترزح كثير من أقطاره تحت نير المجهول وانعدام القيادات ذات القرارات..

توصيتي قد تفيد مجلس التعاون الخليجي ومصر وبعض دول المغرب العربي مثلاً لو حصلت الإرادة : خلق آلية ثقافية تواصلية بينها ووضع قاعدة بيانات بالمثقفين والعلماء والفلاسفة والفنانين تحوي إحصائيات بهم وبإبداعاتهم وطريقة للتبادل المستمر الثابت الذي لا يخضع للنتوءات السياسية المؤقتة التي تقطع العلائق ثم تعيدها كلما انتهت تلكم النتوءات.

*تأجيل التكريم فوت الكثير من الإبداع

.

وتدلي الأديبة شمسة العنزي من الكويت برأيها حول قضية التكريم المؤجل بقولها: هي بالتأكيد مجحفة بحق المبدع الذي قضى حياته وهو لا يشعر بقيمته الحقيقة وقدر شخصه في حياته حتى رحل، فنحن لا نعلم بما عاناه نفسياً من هذا التجاهل، الأديب ليس شخصاً عادياً ولا شك شعر يوماً ما بعدم جدوى ما لديه من ثقافة وعلم وبعدم جدوى ما يكتبه وما يقدمه من أدب، وهذا الشعور بحد ذاته مؤلم ومحبط، قد لا يمنعه من الإبداع والعطاء فهذه طبيعته التي وهبها الله له، ولكنه سيشعر بأن عمره ضاع منه بلا فائدة في حين أن تكريمه في حياته ينزع منه هذا الشعور ويحفزه للمزيد دون أن ينتابه تأنيب سواءً من نفسه لنفسه أو من أسرته له.

فكم تُراه سمع عبارة؛ لماذا تكتب ولا أحد درى عنك! أو عبارة؛ ضيعت عمرك تكتب وتقرأ وتبدع بدون فائدة! وغيرها من العبارات المحبطة المؤلمة، كان سيكون التكريم دواءً له من كل هذا الألم، وتأخر الجهات الثقافية أثناء حياته مؤكدًا خذله كثيراً في حياته، وقد يكون فوت علينا الكثير من إبداعات الأديب الراحل التي قد تزدهر وتنمو وتتألق قريحته لو كُرم في حياته.

والتكريم المؤجل لا بأس به من تدارك هذا التجاهل في حياته، فهو على الأقل لم يُنسَ تماماً وتسليط الضوء على انجازاته بعد رحيله قد يجعل الجهات المعنية تهتم وتتدارك من بقي من المبدعين قبل رحيلهم، والتكريم للراحل أيضًا يشفي صدور ذويه ويزيدهم اعتزازاً بأن فقيدهم الغالي تم تكريمه بعد رحيله ويعوض فقدهم له، ومحفز على ولادة مبدعٍ آخر في أسرته فلا يخشون تجاهله، ويتحملون طقوسه الغريبة المتعبة فهو بالنهاية فخر واعتزاز لهم، فوجود مبدع في أسرة ما ليس بالأمر الهين، وهو فخر للدولة أيضًا بأن هذا المبدع من مواطنيها. نعم قد لا يشعر الراحل بالتكريم ولكنه يورثه لأسرته. وهذا أقل ما يمكن فعله وتداركه في حق فقيدهم.

والجهات الثقافية عليها عبء هذا الحدث أو لنقل هذا واجبها الحقيقي ودورها الأساسي في تكريم المبدع في كافة المجالات، وتسليط الضوء على إنجازه ودوره في الحياة الثقافية في عصره؛ فهم يعملون لحاضرهم وللتاريخ، وما أجمله من تاريخ يحتفي بالإبداع وأهله قبل فوات الأوان.

لا يكلف التكريم شيئاً، فالمبدع الحقيقي ليس مادياً، فهو كرس حياته لهذه الموهبة ولا شيء أثمن من الحياة، فهو يكفيه أن تفخر به بلاده ويزيده فخراً أن يمتد تكريمه للدول الأخرى في محافلها الثقافية، فنحن بالنهاية نفتخر بعروبتنا وكل مبدع في أي دولة عربية هو فخر للعرب كافة، أقول لا يكلف تكريم المبدع شيئاً فهو يكفيه كتاب شكر مثلاً، يكفيه أمسية تقام على شرفه في حياته يسمع أثناءها كلمات جميلة تجعله يحلق في سماء الإبداع ويعطي المزيد، وإن كان هناك تكريماً مادياً أنا على يقين أنه سيجعله في سبيل العلم والمزيد من العطاء والإنجاز وبالتأكيد سيخفف عنه أعباء كثيره تكلفه مادياً فيزداد عطاءً وإنجازاً وإبداعاً، وبلا شك تكريم الجهات الثقافية للمبدع قبل رحيله يشعره بأن عمره لم يذهب هباءً، وإن هناك من يقدر جهوده، وأنه ليس غريبًا في وطنه أو بين أهله، لو سألت أي مبدع ما الذي تشعر به سيقول: أشعر بالغربة!

لماذا هذا الشعور يلازم المبدعين حتى في أوطانهم وبين أهليهم؟ أجزم بأن السبب هو إحساسه بعدم التقدير و التجاهل وعدم الجدوى مما يقدمه، المبدع والأديب شخص غير عادي و سيظل يشعر بالغربة إلى أن يرحل من هذه الحياة، وإن احتفوا بعد رحيله هم فقط قدموا العزاء لأنفسهم وخففوا عنهم تأنيب تقصيرهم بحقه ليس إلّا، وقد يواسي ذويه بأن فقيدهم سيذكره التاريخ وبأن كل ما قدمه سيخلد وهذا بعض العزاء، ونصيحتي أن تهتم الجهات المعنية بما لديهم من مبدعين في حياتهم قبل فوات الأوان فهم لا يعلمون كم يؤثر تجاهلهم له على نبع عطائه وكم سنخسر من هذا التجاهل من منجزات كانت ستثري الساحة الثقافية فقط لو منحوه بعض ما يستحق من تكريم في حياته.

*التكريم قائم وليس كل أديب يستحقه

ويؤكد الأديب القاص محمد الشقحاء أن التكريم للأحياء قائم بقوله: من خلال تجربتي كرمتُ في منتدى الإثنينية بجدة بعناية خاصة من صاحب المنتدى الأستاذ عبدالمقصود خوجة، وكُرمت من نادي القصيم الأدبي أثناء ملتقى القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا.

وهذا التكريم جدد روح العطاء في داخلي ككاتب وأديب قاص، كانت لدينا جائزة الدولة التقديرية وتم تكريم شخصيات عامة على قيد الحياة، وفي مهرجان الجنادرية تم تكريم شخصية سعودية على قيد الحياة وفي معرض الكتاب الدولي بالرياض تم تكريم شخصيات على قيد الحياة.

كل هذا قائم وهل كل أديب أو مفكر أو صاحب منجز يجب أن يكرم. ؟

ما يحدث من تكريم لبعض الأموات هو تقدير لمنجزهم ووفاءً لمشاركتهم كأصدقاء.

المبدع المثقف جاء من خلال تنميته لهوايته والحرص على إثبات وجوده وقدرته على العطاء؛ لتنمية المجتمع والحس الإنساني بما يسعفه قرينه بخيال وأفكار خلاقة، نحن بحاجة لبقاء النادي الأدبي والجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون وتعدد الكيانات؛ لإثراء ساحتنا الأدبية المتحركة والثقافية المتجددة بكل الفنون.

والتكريم الحقيقي يأتي بالتقدير المعنوي والإنساني أولاً وهذا المهم ثم المادي الذي يوفر له حياة كريمة،

كان الاتحاد العام للأدباء العرب المشكل من الجمعيات والأسر والروابط الأدبية المشكلة في الأقطار العربية ملتقى عام، يتناول هم الأدب وهموم الأدباء وتجمد هذا الكيان ولم يعد للشؤون الثقافية بجامعة الدول العربية صوت، وإن تكفل كل قطر عربي بمناسبته الخاصة مع جوائز خاصة نجدها في دول مجلس تعاون دول الخليج العربية برزت بمقدارها المادي على جودة المنجز.

*لابد أن يعيد المجتمع ترتيب أولوياته

وتبدي الكاتبة غادة صلاح الدين من مصر أسفها على تدني تكريم  الأدب والأدباء في عهدنا الحاضر بقولها:

تتحكم الأولويات الخاطئة في بنية المجتمعات العربية المعاصرة، الناظر إليها يجد أن القرن الفائت شهد في بداياته حالة من الزخم الإيجابي الكبير في تقدير الأدب والاعتراف برجالاته على مستوى كافة الأصعدة، استمرت هذه الحالة الصحية الرائعة حتى نهايات الستينات، ثم تدهورت بشدة فيما بعد وصولًا للصورة الحالية، فنجد أن المجتمع يعتني بأنشطة ومجالات لا تشكل فارقًا مع الناس ولا تغير من سلوكياتهم كما يفعل الأدب ولا يرتقي بأوضاعهم الإنسانية، يكفي للتدليل على ذلك أن نشير لمقارنة سريعة بين وضع الأديب ولاعب الكرة، والمؤسسات الثقافية هي نتاج طبيعي للبنيات المجتمعية السائدة، التي توقّر الموت على حساب الحياة، تضع للفرد قيمة بعد موته، فلا غرابة أن تسير هذه المؤسسات على نفس النهج.

الأدب هو باختصار حالة من الإبداع البشري، بعض منه موهبة رُزقها الأديب، الباقي جهد وتطوير مستمر سواءً ذاتي أو بالانخراط في دراسات من هنا أو هناك، أو قراءات مستفيضة لسنوات قد تستهلك عمر الأديب شأن أي من يمتهن مهنة، فالأديب بحاجة للتقدير المعنوي، أن يستشعر أن المجتمع يراه، أن وجوده يشكّل فارقًا مع الناس والمؤسسات، يُرضيه بشدة أن يتم تقديره في أثناء حياته، بالطبع كلما تدنّى  تقدير الأدب كلما استشعر الأديب حقيقة وضعه بين الناس، حتى أنه يعود كل ليلة إلى بيته يردد بينه وبين نفسه مقولةقد أسمعت لو ناديت حيًّا…”

ولدي نصيحتان لا ثالث لهما:

الأولى: أن يعيد المجتمع الكبير ترتيب أولوياته، بحيث يضع قضية الثقافة و الأدب على رأسها، أن يقتنع أولوا الأمر في المؤسسات الثقافية أن الأدب هو قاطرة قوية قادرة على الأخذ بزمام المجتمع نقله من نقطة ساكنة إلى أخرى أكثر حيوية وحراكاً.

الثانية: أن نولي الأحياء أهمية إبان حياتهم، أن نكون أكثر حرصاً على تكريم وتقدير الأدباء وهم أحياء وألّا  ننتظر أن تبادر الكيانات الثقافية الغربية بلفت نظرنا لقيمة الأدباء لدينا.

*نحن أمة أموات وماضي لا أمة حاضر

ويضع الشاعر زكي العلي من العراق أسباباً لظاهرة التكريم المؤجل من وجهة نظره بقوله: أعتقد أن هناك أكثر من سبب لهذه الظاهرة وأسميها ظاهرة لأنها سياق تعامل عام وليست حالة، أقول ذلك ولست معنياً بالأمم والحضارات التي تشاركنا الوجود على الأرض، وإنما عن الأمة التي أنتمي إليها. وأرى أن مردّ ذلك عائد إلى طبيعتنا وتركيبتنا الثقافية، فنحن أمة أصنام وأموات وماضي لا أمة حاضر، نجد ذلك واضحاً في كتبنا وإعلامنا المرئي والمسموع، نسخر من عباقرتنا ومبدعينا ونهملهم ونغض الطرف عنهم حال حياتهم ونُقدس منجزهم ونجيّره لأهداف شخصية غالباً بعد وفاتهم نتركهم يصارعون العوز والفقر والمهانة والمرض وهم أحياء ونقيم احتفالات ومهرجانات وتماثيل لهم بعد رحيلهم نغمط حقهم في امتيازات التكريم أحياء ونعطيها لطفيليات بشرية أعلى شرفها أنها مرتبطة بهم باليلوجيا تحت مسمى الأقارب والأهل، في مجتمعاتنا الاحتفاء بالمبدع بعد موته أمر شائع ومتسالم عليه بينما تكريمه حال حياته لتعزيز واستنهاض طاقاته الإبداعية وتحفيزها هو الاستثناء، أضف إليها الشللية والمحسوبيات والحسد والاستثار وغياب النزاهة في التقييم، التي عادة ما تحتاج إلى التملق وتطوير العلاقات والمدح والتطبيل للجهات المعنية بالتكريم حكومية كانت أم اجتماعية وهذا ما لا يجيده المبدع بل ويشمئز منه غالباً نظراً لطبيعته النفسية المغايرة التي لا تساعده على الانخراط في لعبة النفاق هذه لتكتمل بذلك تراجيديا المشهد الذي ومن المؤسف أنه يزداد رسوخاً في الوعي الجمعي كلما تقدم الزمن، ويحظرني هنا قول قاله عَبيدُ بن الأبرص فيما خلّده الدهر من شعره:

لا ألفينَّكَ بعد الموتِ تَندُبُني

وفي حياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي.

*التكريم تعويض عن ضعف المردود المادي  

ويعلق الناقد والقاص د. ساعد الخميسي على محاور القضية بقوله:

ليس لهذا أسباب بينة ولا ما يمكن أن يكشف لنا عن نوايا ما قبلية، ولكننا نعتقد أنها الطبيعة البشرية التي تأنس فتنسى، ويدخلها ذلك في مرحلة من الإغترار بطول الأمد. إلى وجوده في إطار العادي والموجود، حتى تفقده.

إذا ما فقدته فإن فقدانه يسلط الضوء على غياب أثره، وعليه تلجأ إلى محاولة التكفير عن الخذلان وعدم الانتباه عن طريق الاحتفاء بالراحلين. وتخليد ذكراهم وآثارهم.

وهذا يحدث حتى على مستوى الأفراد لا المؤسسات والمشاهد الثقافية فحسب، دعنا نفلسف الأمر بعض الشيء أنها لعبة التكرار والكف،، كل ما تكرر وتوافر ووجد يصبح غير ملحوظ إلا بفقدانه، إننا لا نتذكر النهر إلا عندما يجف.

وأعتقد أن غياب الاحتفاء والتكريم له أثر بالغ على نفسية المثقفين، ذلك أن الاشتغال بالحقل الثقافي معروف عنه تواضع المردود المادي فيه، لذلك فالتكريمات من شأنها أن تربّت على هذا الجانب لدى المثقف معنوياً وتعيد له الأمل، وغيابها قد يجعل المثقف يشعر باللاجدوى ويعاني الإحباطات التي قد تؤدي إلى انصرافه عن الشأن الثقافي إلى شؤون أخرى، بالنسبة لأهالي المثقفين وذويهم حتماً سيسعدهم أن يُلتفت لمنجزات فقيدهم ولو بعد حين، لكن أثره عليهم لن يكون بأي حال من الأحوال كما لو رأوا فقيدهم يشاركهم بذلك الاحتفاء في حياته، فينال كلمة شكر وعرفان عن ليالي السهر والكد والتعب، إن أثر التكريم على أهالي الفقيد هو كأثر من يحمل لك قدراً عظيمًا ولا يجعلك تعرف هذا، ويحرص على الآخرين ألا يصلك من ذلك شيء، عظيم ومؤلم في آن واحد.

ينبغي على القائمين في المشهد الثقافي العربي أن يخصصوا المزيد من الجوائز التقديرية التي تمنح للمثقفين في مختلف المجالات عن مجمل أعمالهم، وينبغي أن تخصص هذه الجوائز للأحياء الذين استطاعوا أن يشكلوا رصيدًا منظورًا من الأعمال له أثره في الحياة الثقافية.

وإشراك هؤلاء المثقفين في صناعة المشهد والقرار الثقافي بتعيينهم مستشارين لدى وزارة الثقافة وفي مختلف المؤسسات الثقافية كالمسارح والهيئات الثقافية والمنابر الإعلامية، الرصيد الثقافي الهائل هو مكون من مكونات مشهد صناعة الثقافة في أي بلد وكفى بذلك تكريماً واعترافاً بالمثقف ومسيرته.

*التكريم بعد الرحيل باهت لامعنى له

ويوضح د.عصام خلف كامل أستاذ الأدب العربي ووكيل كلية دار العلومجامعة المنيا أهمية دور المبدع والأثر السلبي في تجاهل عطائه بقوله: تعد الدوائر الثقافية في المجتمعات العربية من الدوائر المهمة عند المبدعين والأدباء والنقاد وكل من يهتم بالأمور الثقافية والحياتية في عالمنا العربي.

ومما لا شك فيه أن المبدع هو الوجه الآخر لصورة المجتمع حيث أنه يبعث فينا كل القضايا التي نغفل عن تبيانها عبر قوالبه السردية، أو الشعرية، أو المسموعة، والمرئية.

ومن هنا تتجلى قيمة المبدع بين أرجاء وطنه، وتبرهن الكتابات بشتى أنواعها على مدى خطورة هذه القضايا أو مدى إيجابياتها.

ومن هنا لمعت الأسماء التي سجلت بأحرف من نور سيرة عطرة بين المفكرين والنقاد وأهل البحث العلمي عبر دراساتهم المتخصصة كل عبر مجاله وتوجهه.

لذا أفردت الهيئات والمؤسسات والدوائر الثقافية الرسمية والدولية جوائز لتكريم هؤلاء المبدعين.

بيد أن اللافت للنظر أن التكريم يأتي في أغلب الأحيان تكريماً لمن رحلوا عن عالمنا المعايش، وأصبحت الجوائز بكل ما فيها مجرد جائزة جوفاء، بل إن التكريم بات باهتاً لا معنى منه، فالمكرّم رحل عن عالمنا تاركاً خلفه كل ما أنتجه من نتاج أدبي أو ثقافي بوجه عام، وكافة المؤسسات تسوق الحجج تلو الأخرى عن سبب تأخير التكريم لما بعد الوفاة بعلة اكتمال الدائرة الإبداعية عند المبدع.

وفى هذا إجحاف كبير على المبدع لما له من أثر سلبي يتمثل في فقد المبدع لكثير من جوانبه الإبداعية وإحساسه بعدم جدوى ما يكتبه وتجاهل المؤسسات الثقافية له ولإبداعه.

وهو ما يؤدي إلى حالة من النكوص عند الكاتب أو المبدع وفقدانه الإحساس بقيمته في المقام الأول. لذا وجب التنويه إلى أن دور المؤسسات الآن لابد أن يتوجه توجهاً مباشراً وسريعاً إلى تكريم المبدعين والمثقفين في حياتهم وأثناء وجودهم لأن ذلك سيعطى دافعاً أكبر في إظهار جوانب أخرى في حياة المبدع وكتاباته أو المثقف العربي وأعماله، كما أن التكريم الحياتي أعطى دافعاً لدى المثقف بأن نتاجه أصبح مرغوباً فيه، فيأتي ذلك بمثابة الحافز الذي يعلي من قيمة المثقف ومن ثم يأتي العطاء على قيمة المعطى، وعليه فإن كل الدوائر الثقافية عليها أن تقوم بالتكريم للأحياء لأن ذلك سيكون دافعاً لمزيد من العطاء.

*احتفوا بأُدبائكم ليفوح عطر إبداعهم 

ويبدي الكاتب والقاص أحمد إسماعيل زين استياءه من التجاهل للمبدعين ويأمل من الجهات المعنية الاحتفاء بهم في حياتهم حيث قال: هذا في السابق كان الموت يذكر الجهات الثقافية لتكرم الأديب بعد رحيله! أمًا في الوقت الحاضروبالذات بعد الألفية الجديدة- فحتى الرحيل عن دنيانا لم يعد شفيعاَ لحصول الأديب على التكريم من الجهات الثقافية، وأعرف نماذج لأدباء معرفة شخصية لها ثقلها الأدبي والثقافي كانت سيوف مسلولة ـ شعراً ونثرا ـ في وجه كل عدو وحاسد وناعق ضد الوطن وولاة أمره، وكانت بلابل صداحة في التغني والتمجيد بحب الوطن ورجالاته عاشوا معنا في حاجة ومرض متعب وقلة تقدير لدرجة أن بعضهم كان ولايزال ورحل بالموت وهو يستجدي الجهات الثقافية أن تؤمن له سرير في مستشفى أو تطبع له كتاب أو توجه له دعوة لحضور مناسبة ثقافية، وبعضهم الآخر رحلوا عن دنيانا و لم يكرمهم أحد !!.

ومن وجهة نظري هذا تجاهل مهين من الجهات الثقافية للأديب وللمكانة التي ينبغي أن تكون له بالمجتمع، وإلاًّ ما فائدة قبلة على جبين ميت، أو دمعة على قبره، أو حتى قصيدة في حفل تأبينه ؟!.

الأديب بصفة عامة والمثقف المبدع على وجه الخصوص إنسان حساس وشخصية مرهفة الحس يتأثر بكلمة عابرة وينعكس تأثيرها على إبداعه وحالته النفسية وحتى على علاقته بمجتمعه، وهذا التكريم المؤجل والمشروط بالموت. والرحيل من الحياة للحصول عليه، وفي قرارة نفسه قد يحصل على هذا التكريم المؤجل المشروط، وقد لا يحصل عليه، ينعكس تأثيره على الأديب المثقف المبدع بجعله شخصية انطوائية مكتئبة منطوي على نفسه، ومقل بالإنتاج الإبداعي، والكل يظن به ويحكم عليه أنه يعيش في برج عاجي عن مجتمعه ـ أثناء حياته ـ إلى أن يرحل بصمت عن الدنيا بهمومه وأوجاعه وفي قلبه غصة مما حصل له من تجاهل ونسيان، ربما كانت ـ الغصة ـ هي سبب ـ مباشر أو غير مباشر ـ في رحيله عن الحياة، وأيُّ تكريم يواسي عن مصيبة رحيل صاحبه ؟ الذي كان يرجو ويتمنى أن يفتخر وهو يحتفل به مع ذويه أثناء حياته. 

نصيحتي هي: احتفوا بأدبائكم ومثقفيكم ومبدعيكم أثناء حياتهم، واحتفلوا بهم ومعهم ليفوح طيب إبداعهم معطراً للحياة، كرموهم وهم أحياء ولو بوضع أسمائهم على شارع فرعي في قرية.. ليفرحوا وذويهم حين يتعمدون ومعارفهم المرور من خلاله، فالحياة قصيرة متسارعة، والأديب المثقف المبدع يستحق أن ترسم البسمة على محياه وهو يشارك ويشاهد تكريمه بعينيه.

*التجاهل يفرغ الساحة من الإبداع الحقيقي 

ويشاركنا الشاعر يزن السقار من الأردن الرأي حول ظاهرة التأبين للأدباء بقوله: منذ الأزل و لأن الإنسان عجول بطبعهِ و يرى ظاهر الأشياء أكثر من عمقها، لا يعرف قيمة الأشياء إلا بعد زوالها و ذاك للمساحة الفارغة المتروكة بعد الزوال؛ لأنه يفترض أن الكون مخلوق على مقاس احتياجاته و أن المدخلات الخَليقة هي كذا لأنه يريدها كذا، و لأن الفكر و الإبداع من أهم مدخلات الحياة و أكثر الأسباب تأثيراً في تكوينه لا يلاحظها البشر إلا بعد زوالها فيرى ما تركته من فراغ في الساحة المعرفية و هنا الكارثة؛ لذا أصبح شائعاً جداً وخصوصا في المجتمعات المشغولة بلقمة الحياة أكثر من تطورها لا يتم تأطير قيمة المبدعين إلا بعد فقدانهم مما يعني أنهم لن يلحظوا أنهم في مجتمع يعرف قيمة المعرفة فيكونوا قد خرجوا من الحياة بثروة أقل مما يستحقون وهي معرفة قيمتهم، حتى بات هذا الأمر درساً حقيقياً للمبدعين الذين لازالوا على قيد الإبداع الأمر الذي يجعل الكثير منهم لا يبالون باعتصار كامل إبداعهم لمعرفتهم اليقينية أن الأمور لن تُغير شيئاً.

و هذا يأخذنا إلى أننا نفقد كمّا لا بأس به من الإبداعات و المبدعين و يترك الساحة في فراغ أكثر من الإبداعات الحقيقة،

وهنا تظهر كارثة أدبية جديدة على الساحة العربية خاصة و هي: تقاعس المبدع الحقيقي عن الحراك؛ لاقتناعه المطلق أن الأمر بات لا يعتني بالقيمة الحقيقة للمبدعين  فظهر أرباع المبدعين و آلاف المصفقين ليخلقوا حالة كرنفالية هشة تطفوا على الساحة العامة للأدب و الثقافة مما يشكل وجهاً هشاً للإبداع العربي، فلابد من وجود مخارج حقيقية يقوم عليها المثقفون الحقيقيون تبدأ بفصل الغث من الجميل والحقيقي من المزيّف وإعادة الثقة للمبدع العربي بأن الساحة فيها أمل لتكون ساحة حقيقة لا تتسع إلا للإبداع المتميز و أن المبدع له شأن يليق بما ينزف من روحه.

التعليقات

  1. يقول إبراهيم عمر صعابي:

    محور جميل وآراء وجيهة . أرجو ممن يهمه الأمر قراءة هذه الأفكار المضيئة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود