نجمة الشاكر
كانت الطبيعة منذ الأزل وما زالت هبة الله للإنسان، يستمد منها وسائل حياته وإلهامه، وفيها طرائق شفائه، ولها تأثيرها المباشر على صحة الإنسان النفسية، والجسدية، والعقلية، والحسية، وله في التأمل راحة وشفاء.
يتأمل ما حوله ويتطلّع محاسنها ومواطن الجمال فيها بكلِّ ما فيها، فإذا السماء لوحة بديعية ربانية بشمسها وقمرها والقناديل المعلقة فيها، وإذا الأرض روضة رحبة وحديقة غناء وجداول رقراقة تسلب الألباب وتستثير مكامن الروح وتدعوها لاستشعار الصلة الحقيقية بينها وبين بارئها بذكره والامتنان له حتى يفيض القلب حبًا لله سبحانه.
من هنا كان التأمل عبادة لأنه بطريقة أو بأخرى تقر في النفس وحدانية الله.
ومن هنا كانت الطبيعة منذ القدم مرتعًا لخيال الشعراء والفنانين، ومنبعًا لإبداعهم، وملجًأ لأفكارهم؛ فتأتي أعمالهم صورًا بديعية تتمثل فيها نفوسهم المرهفة واستغراقهم بمفاتنها، وإذا شمس الله تشرق من أعمالهم.
يقول علي عزت بيجوفيتش: “يؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة، إلى نوع من التطهير الجواني وتكريس النفس للأسرار والاستغراق في الذات للوصول إلى بعض الحقائق الدينية والأخلاقية والفنية، فالتأمل موقف مفكر شاعر أو فنان ناسك”
من هنا نجد الارتباط الوثيق بين التأمل والحالة الشعورية التي تدفع الفنان أو الشاعر للإبداع، فنجد هناك شعراء الطبيعة في الأندلس حين فتنوا بروعة طبيعتها وظهرت جليًا في قصائدهم حين قال ابن زيدون:
إِنّي ذَكَرتُكِ بِالزَّهراءَ مُشتاقاً
وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا
وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ
كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا
وَالرَوضُ عَن مائِهِ الفِضِيِّ مُبتَسِمٌ
كَما شَقَقتَ عَنِ اللَبّاتِ أَطواقا
يَومٌ كَأَيّامِ لَذّاتٍ لَنا انصَرَمَت
بِتنا لَها حينَ نامَ الدَهرُ سُرّاقا
وكما ظهر هناك شعراء الطبيعة في الأندلس ظهر أيضًا فنانو الطبيعة في فرنسا الذين استمدوا فنهم من سحر الطبيعة فيها، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ثار عدد من الفنانين الذين ضاقوا ذرعًا بالقواعد التقليدية والموضوعات الأسطورية والتاريخية التي كان يقوم عليها الفن التشكيلي في ذلك العصر وأعلنوا تمردهم على هذه القيود، إذ خرجوا من قيد المباني والبيوت للهواء الطلق فانطلقوا إلى أحضان الطبيعة ليصوروا البحار في سكونها وحركتها، ويصوروا الخمائل والأزهار في زهوها وذبولها، والمدن وضجيج الحياة فيها، وشرعوا في الرسم بعيدًا عن تأثير الخيال وكان العامل فيها السرعة في الرسم دون الدقة في التفاصيل قبل أن يتغير موضع الشمس أو القمر أو قبل تغير هيئة السحب ولون السماء.
فنشأت بذلك المدرسة الانطباعية التي تعتمد على نقل الواقع الطبيعي في لوحاتهم من الطبيعة مباشرة، إذ يعود الفنان من جلسته التأملية وقد أنهى لوحته ونقل فيها انطباعه عن المنظر كما تتراءى له بعيدًا عن خياله وبعيدًا عن الدقة في النقل، وفلسفتهم فيها أن مهمة الفنان هي التعبير عن رحلة الإدراك في عالم حركة الصور، وتسجيل الانطباعات العابرة التي تخلفها في نفسه بين الظل والنور وبين السكون والعاصفة، وقد أهملوا الخط واللون الأبيض الأسود والرمادي واستعملوا لمسات الفرشاة في التلوين وتأثيراتها، واعتمدوا على إبراز الضوء واستعمال الألوان المتكاملة في الظلال، من هنا جاءت (المدرسة الانطباعية أو التأثيرية) في الفن التشكيلي وكان اسمها مستمد من عنوان لوحة الرسام الفرنسي كلود مونيه: (انطباع شروق الشمس soleil levant) والذي كان أول من استعمل هذا الأسلوب في تصوير الواقع الطبيعي.
وقد قوبلت الانطباعية في بداياتها بالرفض الشديد والتنمر والتهكم إذ رفضت لجنة التحكيم للمعرض السنوي لعام 1863 أعمال روادها بسبب مخالفتها للذوق المحافظ الغالب آنذاك، لكنهم تمكنوا من استصدار مرسوم من نابليون الثالث لإقامة معرض آخر لهم في المبنى نفسه الذي يقام فيه المعرض الرسمي وقد أُطلِق عليه (صالون المرفوضين).
وأخيرا أثبتت المدرسة الانطباعية نفسها على الساحة الفنية بعد نصف قرن من ظهورها كإحدى مدارس الفن التشكيلي، وتُوِّجت بإدخال أعمال روادها إلى متحف اللوفر Le Louvre من قبل الحكومة الفرنسية في باريس عام 1937.
التعليقات