مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

المعاني الغائبة -2- د. مقبل الدعدي*   في كتاب (نظام التفاهة) قدّم الكندي آل …

المعاني الغائبة-٢-

منذ سنتين

980

0

المعاني الغائبة -2-

د. مقبل الدعدي*

 

في كتاب (نظام التفاهة) قدّم الكندي آلان دونو تصورًا عن هذا النظام الاجتماعي، الذي تصدّره ما أسماهم بالتافهين، وما نتج عن ذلك من تأخر في مجالات الحياة: من تقهقر للجودة في الأداء، وتنحية للقيم، وانحطاط للذائقة، وانشغال بالتفاصيل، والبحث عن البهرجة، والشهرة، فالتفاهة كما يقول آلان دونو : “تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلًا من التفكير، النظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري، إنها تحيلنا إلى “أغبياء”، وفي مثل هذه البيئة لا تسل عن معالي الأمور، فالمعايير التي تحتكم إليها هذه الفئة هي المال، والشهرة (الانتشار، وعدد المتابعين، والإعجابات)، فتلك هي من تحدد قيمة الشخص في هذه البيئة، ومن أجل هذه الغاية سيتخذ كلّ وسيلة، حتى تلك الوسائل التي كانت تقع في دائرة المحظور، سيسهل عليه بعد حين الاستعانة بها، ثم يتحول – بطغيان المال، وما ينشره للجمهور من بذخ – إلى قدوة للنشء، ويُرسّخُ فيهم عبيثة الجد، والاجتهاد، والاشتغال بمعالي الأمور، فبات للنجاح ( وهو في الغالب قاصر لا يكاد يتجاوز المال والشهرة) مسارٌ آخر أقل تكلفة من المسار المعهود، فهذا المسار الجديد له قواعده الخاصة! 

وليس الإشكال في وجود هذه الفئة ممن يُعنى بسفاسف الأمور دون أشرافها، ومن لا همّ لهم إلا حقائر الأمور، ومن يختارون الركون والدعة والبطالة، ويميلون إلى الجهل والسذاجة، فهذه الفئة في كلِّ عصر، وفي كلِّ مجتمع، فإنّ طريق المجد له ضريبته من الجد والاجتهاد والكد والتعب، وليس كلُّ أحدٍ يطيق على ذلك، فكما قال الشاعر:

لولا المشقة ساد الناس كلهم         الجود يفقر والإقدام قتال

ولكنّ الإشكال في تصدير هؤلاء، وهذا ما ميزهم في هذا العصر عن أسلافهم في العصور الخالية، فأكثر تلك الفئة تفاؤلًا، لم يكن يدر في خلده مدح التفاهة، فضلًا عن تنصيبهم قدواتٍ للمجتمع، يشار إليهم بالبنان.

يُقدمون في المحافل، فأصبحوا والمنابر تحت أقدامهم، وجموع الناس تلتف حولهم، فما الذي يمكن أن يقدمه أمثال هؤلاء، و ” كل إناء بما فيه ينضح “!

  هذا ولو غشيت الناس في مجالسهم لسمعت نقدًا يحط من تلكم الممارسات، واحتقارًا لتلك الأفاعيل، وهم يعلمون أنّ الحديث عنهم، ومتابعتهم غاية ما يطمحون إليه، فالمجتمع صنّاع لهم، وهم مؤثرون فيه، وتكمن الخطورة في التطبيع مع تلك الوسائل، ومع ما يقدمه المؤثرون فيها، وعندها سيخفت صوت النقد، ويعلو صوت الإطراء، فنقدهم مع متابعتهم مصيبة، ولغة الأرقام التي تتعامل بها تلك الوسائل لا تفرق بين موافق ومخالف.

إننا بحاجة إلى العودة الجادة إلى ( منظومة الأخلاق )، وانتشالها من دعاة النسبية، وجعلها في مكانها الحقيق بها، ومحاولة ترسيخها في المجتمع، وعدّ المساس بها تعديا على هويّة المجتمع وقيمه، فما تصنعه تلك الأدوات فيه تدمير للمجتمع، وتدمير للفرد قبل ذلك، وكما قال إريك فروم:” العقل السليم يمكن أن يوجد في المجتمعات السليمة، وبناء عليه إنّ مشكلة الصحة النفسية للفرد والصحة النفسية للمجتمع لا يمكن فصلهما ببساطة بالنسبة للإنسان”، فهذا المثال عنده أدق من المثال المشهور: (العقل السليم في الجسم السليم).

وليس المقامُ مقامَ رصد لمحاسن التقنية بوسائلها التواصلية ومساوئها، وإنما كان الحديث عن شيء من آثارها، وما سينتج عنها من تغييب لمعانٍ لا يقوم المجتمع قياما حسنا إلا بها، وما سيتقبله المجتمع من ممارسات، تتحول إلى عادات لا تُمثّل قيم المجتمع وهويته، وتقوم مقام المعاني المغيّبة، المعاني التي تنتمي إلى المجتمع، وتشكل أجزاء من هويته.

 ثم إنّي لا أدعي ما ادّعاه الأول حين قال:

  وكان بعيد القعر من كل ماتح      فغادرته يُسقى ويُشرب باليد

ولكن حسبي الإشارة والتذكير، ودعوة المختصين وعقلاء المجتمع، من أجل الإسهام في ترشيد التغيير.

* كاتب و أكاديمي سعودي.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود