الأكثر مشاهدة

رؤى في زمنية مجموعة «أمس» للكاتب حسن حجاب الحازمي -1- صالحة الحكمي*    هذه الدرا …

رؤى في زمنية مجموعة «أمس» للكاتب حسن حجاب الحازمي -1-

منذ سنتين

764

0

رؤى في زمنية مجموعة «أمس» للكاتب حسن حجاب الحازمي -1-

صالحة الحكمي*
 

 هذه الدراسة تتعلَّق برصد أحوال الزمن في مجموعة قصصية رشيقة (أمس)، ومحاولة بلورة رؤية خاصة باتجاه الأزمنة لا تعتمد على مصطلحات بعينها، بقدر اعتمادها على حقيقة الأدب الوحيدة، وهي تأثر الذائقة المدرَّبة بمنحى جمالي، وتقديم رؤية انطباعية عنه، في محاولة للحاق بالتجربة البشرية العامة، والانضمام إلى مئات الأصوات التي نادت ببحث الأدب من حيث قيمته الحقيقية، وهي أن يقدم رؤية مختلفة، وأن يحاول كسر التابوهات، ولو كانت حتى المعايير الأدبية التي درجنا عليها!!

      لقد أثار شغفي الزمن في هذه المجموعة القصصية الثرية، من حيث اختراقه لحواجزه النمطية المعتادة، ليس عبر عوامل الاسترجاع والقفز وغيرهما، وإنما عبر تطويع المؤلِّف له تطويعًا يتأتى من ربط عميق بالمجموعة ككل التي أطلق عليها (وللمفارقة) اسمًا زمانيًّا ينبغي التنبُّه له (أمس)، وكذلك عن طريق ربط كل قصة بمجموعة الأفعال المندرجة تحتها لا سيما من حيث الصيغ الفعلية الكاشفة عن حضور زمن ما على حساب غيره.

لقد انفعلت بهذا التداخل الزمني، وولعتُ بعدد من المفارقات الرمزية التي أحببت لفت النظر إليها، كما حاولت في المقابل أن أقدّم رؤية أصيلة، لا تتصادم مع قِيَمِنا الأكاديمية، لكنها لا تخضع لها باتباع أعمى وتقليد أجوف.

وقد قسَّمْتُ عملي هذا على سبعة تعليقات، أو سبعة انطباعات، إيمانًا بأن هناك سبع قصص رائدة في المجموعة، يمكن لكل واحدة منهن أن تمثِّل باستقلاليتها التامة نوعًا من الأنماط المستحدثة أو التقليدية في حركية الزمن، ودلالاته على معانٍ محددة.

وقد انشغلت بالقصة من الداخل بحيث لم أرغب في أن تؤثر عليّ أحكام من خارجها، فسعيت إلى ترتيب أفكاري من خلال النص نفسه، بأن أقرأه بتمعّن وأُعمِلُ فيه أدواتي، وأستخرج منه ما خفي عني للوهلة الأولى، وأن أصقله قدر ما أمكنني بما تعلمته من أساتذتي أو اطلعت عليه من قراءاتي، دون أن أترك هذا التوجه وحده يحكم على قيمة العمل أو على ذاتيته أو انفراديته بمعنى ما، وإنما عبر تشبيك هذا كله توصلتُ إلى عدد من النقاط قسمتها إلى أبواب سبعة، وضعت لكل باب عنوانًا منفصلًا يرمز إلى ملمح زماني ما، في إحدى القصص السبع المختارة.

وذلك كله في رحلة لتمجيد المقولة التي تشير إلى أن «كل شيء في المروي يتحقق عبر الزمان»، فالزمان بذلك هو عنصر تحقيق الأحداث، وصياغة الحبكة، والبحث عن العقد والحلّ معًا. وهو الخيط الذي يربط أجزاء النص، فالمتمسك به إذًا قابض على سردية موازية، وقيمة حقيقية مختزنة للعمل كله.

أولًا: ثنائية الزمن في «لمحوك».

قصة «لَمَحُوكَ» تبدو من عنوانها مرصَّعة بأفعال الماضي المتحقِّق، المنتهي بفعل اكتمال الحدث الزماني، لكنَّ أفعالًا مضارعة تنتصب في أجواء القصّة لتنغّص على الزمن الماضي سيرورته الطبيعية أو لنقل النمطية؛ فثمة «أحبك» تقولها بطلة القصة، وثمة «أحبك» أخرى يقولها البطل، وثمة شريط موسيقيّ بينهما يتراقصان عليه، غير أن طبيعة الأفعال نفسها، لا مقول القول تكتسب تلك الصبغة المربكة، ففي الوصف الماضي يقول الكاتب:

«لم تَكُن متأكدة مما يحدث؛ هل يمكن أن يكون ما يحدث حقيقة؟!».

درسنا أن (لم) حرف جزم ونفي وقلب؛ فقد برأ الفعل بعدها من شُبهةِ المضارعة، ولو جاء على صيغتها؛ ففي حقيقة الأمر تمحّضت زمنيته للماضي، فخرج من أي ارتباك متوهّم للمسيرة الزمنية الحاضرة أو المستقبلية، لكن الفعل (يحدث) الذي يدلّ على الحركة ، وقد تكرر ذلك الفعل في هذه العبارة مرتين، دلالة على استسقاء تجريدية جديدة للزمن، من كلام مبهم خلفها، ثم الفعل الناسخ (يكون)، المنصوب بـ(أن) المصدرية قبله، كلها أفعال تقلب المسيرة الزمنية المعتادة.

إذ بعدها يقول الكاتب:

«منذ زمن طويل لم ترَ ابن عمها الذي كانت تلعب معه صباح مساء، منذ أن تحجبت وهي تحلم باللعب معه من جديد، تتمنى لو تراه ويراها ولو لخمس دقائق، تلمس كفيه تسير إلى جواره مزهوة أمام قريناتها».

إنه استدعاء لخمس دقائق من رحم مسيرة سابقة، تريد أن ترى ابن عمها، ولكنه حتى في حكايته عن لعبها معه استخدم (كانت تلعب) و(صباح مساء) الدال على التكرار، والقابلية للمطّ، و(تحجبت) الماضي الذي يعاكس الفعل (تسير)، ثم إن استخدام الحال (مزهوّة) يدل على تجدد مضارع تدخل فيه الشخصية باختيارها.

أما في استخدامها للزمن الماضي مع اسم يدل على المضارع، في مثل قول الكاتب: «لو رآها اليوم» ترتبط خطية الزمن الماضي (رآها) بثابت المضارعة (اليوم)، وهي مزاوجة يحرص عليها الكاتب حرصًا تامًّا، لا سيما في هذه القصّة!

إنه إعادة جَذْب الانتباه التي مَضَتْ مع السجع، ومَنْحُ الكلامِ عُمقًا دلاليًّا أكبر من الطباق السطحي أو المقابلة، إذ إنها (الثنائية الزمنية) تنفذ إلى علاقةٍ ما مع الزمن، فيها مَنْح ومنع، إعادة استخدام زمنين يعزز كل منهما الآخر رغمًا عن اختلافهما، بما يسمح بأن يثير حالة روائية كامنة في قصة قصيرة!

يقول الكاتب:

«أنا عنكِ ما أخبرتُهُم لكنهم لمحوكِ تغتسلين في أحداقي، أنا عنك ما حدثتهم لكنهم قرأوك في حبري وفي أوراقي».

هي ذُروة القصة؛ تتكالب الأفعال الماضية على (تغتسلين) كأنه الفعل الطاهر الذي يحاول أن يتحرر من ربقة مذلَّة الانصياع لما مضى!

ويكاد يصبح هذا النمط (الذي تمتزج فيه دلالة المضارع بهيئة الماضي، أو هيئة المضارع بدلالة الماضي) نمطًا عامًّا في المجموعة القصصية كلها، غير أنه (وللغرابة) لا يذكر بتنميطات مماثلة، ولا يُشعِر بغياب المعنى أو تغييبه قصرًا، أو حتى الافتئات عليه لصالح الهيئة الشكلية، فالتجربة الشعورية تمحو ذلك كله، وتتربع مُمسكةً في يديها بهذه الصور الازدواجية الثنائية:

(رقصت طربًا وهي تقرؤها)

(تأكدت أنه يفكر فيها)

(لمحوك تغتسلين)

(حمل الإجابة التي ينتظرها)

(استحمّت وهي تغني)

(لمحوك أنت تغتسل)

(كانت ترقص)

(ليست هي التي تستيقظ)

فكل هذه العبارات تتزاوج فيها الأفعال الماضية مع المضارعة، أحيانًا بتتالٍ مدهش، وأحيانًا أخرى يفصل بينهما كلمة أو كلمتان على الأكثر، دون أن يُحَس بأنها خلطة متكلَّفة أو أن بها طعمًا لاذعًا، أو تجاوزًا لمنطقية الجملة العربيَّة، التي تسمح بمرونة حركة مفرداتها.

في ذُروةِ القصَّة تُصبِحُ المزاوجة أمرًا طبيعيًّا حتى يكتسي المشهد ببعض الكآبة، وإن جاءت متخفية في ثوب كامل من الانطلاق والسعادة، وهي مفارقة خاصة جدًّا، قوامها الربط بين حالة ظاهرة وحالات خفيَّة، فيما يشرحه الكاتب بأنها اجتازت عتبة الباب مسرعة، عَبَرَت الفناء، فتحت الباب، فتح السائق، دخلت مسرعة، أعطته ظهرها، رفعت نقابها، ردّ بعضهن، وبعضهن صفَّر، أعادت نقابها، جلست في أول مقعد فارغ، وضعَتْ حقيبتها في حِجرها، تنهّدَت، اخرجت جوالها، كتبت إليه وهي ترتجف: لمحوك.

لقد ازدادت وطأة الماضي الغارق في الفراق، «لمحوك» تنتهي بها القصة كما اشتعل به عنوانها، لا مستقبل ولا غد لهذه القصة، ليس ثمة فعل واحد جاءت فيه (السين أو سوف) التي تعطي انفراجة للأزمة، أو احتمالية اجتماع بعد افتراق، ثمة فعل مضارع واحد فقط في هذه المعزوفة (لا أقول المقطوعة)، وهو (ترتجف)، وكأن القاصّ يؤكد على معنى التوحّد والغربة والارتباك، فهي تنتفض مرتعشة، وهم يحاصرونها بحديثهم عن جمالها، واتخذت هذه المحاصَرة سلاح الفعل الماضي، في مواجهة فتاة مرتعشة هي كل هذا الحاضر الذي لا مستقبل له، هل يقول الكاتب إنه لن «يلمحها» ثانية، وأن هذا اللقاء محكوم عليه بالإعدام؟!

ثانيًا: الزمن وشبيهه في «شوق».

«منذ يومين كاملين» هكذا تفتتح «شوق» جملتها الأولى، تحديد زمني دقيق، ورغم أنه في عمر الكون قليل (مجرد يومين كاملين)، إلا أن إضافة الوصف إلى المثنى أعطى شيئًا من إطالة زمنية، وكأنه مقطع تغني فيه مطربة: «ويوم طويل»، فتزيد مد الواو في (يوم) والياء في (طويل) كثيرًا، فتُشعر بالإطالة، من هنا يعطي الأديب صورتين للزمن؛ الصورة المحددة المنطبقة على واقع الكون، والصورة النفسية التي هي انعكاس صورة ذلك الزمن في نَفْس المبدع وربما المتلقي معه، إذ ينصرف الذهن بطبيعة الحال إلى المراد بهذين (اليومين)، ويركز حولهما، وينتظر القارئ ذلك الفعل الناتج عنه بفراغ صبر، مؤمنًا بأنّ أي صورة تنطبق عليه، وأي فعل يستخدمه بعدها، سيستحوذ لا محالة على وجدان وانتباه وتركيز القرّاء. ماذا حدث أيها الـ«شوق»؟ ماذا حصل منذ يومين كاملين؟ يكمل الكاتب: «لم ترسل شيئًا»..!

ربما يُصعق قارئ القصة من هذه المعلومة التي لا تثير ذهنًا، ولا تسبب اندهاشة، إذ ما الضير في عدم إرسال شيء لمدة يومين؟ فإذا كان هذا المتلقي من جيل سابق، فإن انعدام الاكتراث يصير أكثر أخذًا، وأشد وطأة، فما المشكلة في انقطاع اتصال لمدة أسبوعين أو شهرين بله يومين، فإذا انكشف في المقطع الثاني من القصة أن المقصود هو عدم إرسالها شيئًا على (الواتس آب)، وأن بطل القصة وبطلتها الغائبة (لا شك) ينتميان إلى جيل (السوشيال ميديا) والفضاء الافتراضي، تصبح الآلام مفهومة. إنه ذلك الحب الذي عمره أسبوع؛ فالارتباط في ساعة والانفصال في ساعة، و«البلوك» في نصف ساعة! فيومان كاملان في علاقة فيه لا شك أنهما مدة انقطاع كبيرة.

(هو كل عشر دقائق يفتح الواتس أب على اسمها) إعادة استخدام لزمن محدد ودقيق، وينطبق على صورة فعلية معيشة من الواقع، وإذا كان حجم تغيُّبِها يومين كاملين، فإن العشر دقائق لا شك تتكرر نحو مائة وخمسين مرّة في هذين اليومين، مما يُعدّ تكرارًا كبيرًا لهذه الفتحات والإغلاقات انتظارًا من رسالة منها لا تأتي. ألا يشعر هذا بالمعاناة السيّالة، وبحجم الوجع، وملل الانتظار؟!

وإن كانت العشر دقائق في زمن الحياة مدةً ليسَتْ قليلة للغاية، فإن مرّات الفتح والإغلاق المشار إليها تشي بأنها مُدّة قصيرة ومتكررة، كما تعطي إيحاء نفسيًّا بالملل؛ إذ إن تكرار العمل بحذافيره انتظارًا لنتيجة مختلفة يُعدّ من هذا القبيل!

«بعد دقيقة أرسلت: اشتقت إليك)، الدقيقة زمن قصير نسبيًّا لكن الكاتب هنا يريد أن يعطيه جانبًا إيحائيًّا قائمًا على تصوُّر أن الدقيقة زمن ما، فنحن في هذه القصة نتحدَّث عن أزمنة أضيق من حدود الاستخدام التقليدية، العام يصبح يومين، والساعات تصبح دقائق، فلا بد أن الدقيقة تدل على زمن ما أطول من حقيقتها!

«لم يكن يريد أن يعود إلى مرحلة المراهقة بعد الأربعين» إذن هو ليس من هذا الجيل الذي يُخدع ب الحب الإلكتروني، وإن أوحت القصة بذلك في بدايتها، ولا من فئة الانجذاب عبر «الإنترنت»، لكنه يشعر مع تجاوزه الأربعين أن قصة حب جميلة يستحقها، وأنه لا ضير من أن يرجع بزمنه النفسي إلى ما قبل سنه الحقيقية، وأن ينظر على عالم المراهقة نظرة أوسع من لمحة وأقل من مشاهدة!

هكذا تستكمل القصة عنصر بنائها الزمني متشبثةً بالفرق بين العلاقتين: الزمنية الحقيقية الواقعية الطبيعة والزمن النفسي الداخلي الذي يدور في ذهن البطل، لعل ذلك هو ما قصده في نهاية هذه القصّة حين قال: (أرأيتِ الفرقَ بين عمرين)، لا بد أن أحدهما هو عمره الحقيقي، والزمان الذي يسير في خطيته الطبيعية، وأن الآخر هو العمر المتصوَّر، والطبيعة الخاصة للزمن الذي يعنيه!

.. يتبع

 
*ناقدة سعودية.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود