244
0247
0350
044
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11568
04674
04070
173230
03184
0بقلم: تشارلز ديكنز
ترجمة محمد عبد الرؤوف وفا
في ليلة شاتية، وتقريبًا مع نهاية عام 1800، أو ربما قبل ذلك أو بعد ذلك بعام أو عاميْن، جلس جرّاح شابّ حديث التخرج بجوار المدفأة، ليتلذَّذ بدفء النيران المنبعثة منها في قلب ردهته، وهو يستمع إلى عويل الرياح التي تسوق الأمطار سوقًا؛ فتتدفَّق على نافذته مُحدثةً صوتًا كالفرقعة، أو تحاول محاولةً يائسةً الدخول إلى قلب المدخنة. فجلس يتأمل يالها من ليلة مطيرة!.
لقد قضى الشاب طيلة النهار يتنقل سائرًا على الأقدام في وسط المياه والوحل، ولكنه الآن يسترخي مستمتعًا، ومرتديًا ملابس النوم ونعليْه. كان بين اليقظة والنوم بينما مخيلته تشغله بأمور شتى.
في البداية، كان يفكر في قوة الرياح التي تهبُّ، وكيف كانت قطرات المطر ستتساقط على وجهه بقوة إنْ لم يكن مسترخيًا الآن في بيته.
فكَّر كيف سيقابل روز ويخبرها أنَّ أول مريض جاء ليفحصه أخيرًا، ويحلم أنْ يأتيه المزيد من المرضى، ثُم يتزوج من روز.
كان يحلم أنْ تأتي معه لتخلِّصه من هذه الوحدة وتعمّ البهجة على منزله الموحش. ثم بدأ يحلم متى يأتي إليه أول مريض؛ أمْ أنَّ قدَرَه ألّا يرى أيَّ مريض في عيادته؟! ثُم بدأ يفكر في روز مرة أخرى، وما لبث أن انخرط في النوم ورآها في حُلمه، حتى بدأ يسمع صوتها الجميل في أذُنيه، وشعرَ بيديها الصغيرة والناعمة على كتفيه.
أحسّ بيد على كتفيه، ولكنها لم تكن يدًا صغيرة أبدًا ولا ناعمة، بل كانت يد شخص بدين ومستدير الرأس. كان صبيًا يعمل في مجال توصيل الدواء والرسائل للآخرين مقابل مبلغ زهيد من المال.
أيقظ هذا الصبي الطبيب وهو يهزُّه قائلًا بنبرة همس: “سيدة يا سيدي، جاءت سيدة”.
صرخ الطبيب بصوت عالٍ: مَن هذه السيدة؟ أين؟ ثم حملق فيه وهو لا يدري هل كان لايزال في حُلم، هل هذه السيدة هي روز؟
“هناك يا سيدي! وأشار إلى الباب الزجاجي الذي ينتهي إلى غرفة الجراحة. كانت نظرته نظرة إنذار، وكأنَّ زبونًا جديدًا قد أتى لتنشيط المكان.
نظر الجراح صوبَ الباب، ثُم بدأ يُخمّن مَن يكون هذا الزائر؟.
كانت سيدة طويلة، ترتدي ملابس حداد حالكة السواد، وكانت تقف قريبة جدًا من الباب حتى كاد وجهها يلامس الزجاج.
كان الجزء الأعلى منها مُغطًى تمامًا بوشاح أسود، وكأنها تريد ألّا تكشف عن شخصيتها، وكان وجهها أيضًا مُغطى بغطاء أسود سميك.
كانت تقف وقامتها منتصبة تمامًا. ورغم أنَّ الجراح شعر وكأنَّ عينيْها بدتا من تحت الغطاء مثبتتيْن عليه، وقفَت دون أنْ تتحرك فالتفت إليها قائلًا:
” هل تريدين أنْ تستشيريني؟ طرح عليها هذا السؤال وهو متردد فاتحًا لها الباب. ولكن لم تُغير دعوته هذه من وقفة السيدة، والتي كانت لا تزال متسمّرةً في نفس المكان.
حنَت رأسها ببطء وكأنها توافق على مَضض. فبادرها الجراح قائلًا: فلتتقدّمي يا سيدتي. ثم نظر إلى الصبي توم، والذي اتسعَت حدقتا عينيه إلى الحدّ الأقصى طيلة هذه المقابلة القصيرة.
قال له الجراح: “أنزِل الستار وأغلق الباب”، وأمره بمغادرة الغرفة.
قام الصبيُّ بإسدال ستار أخضر اللون ليغطي الباب الزجاجي، ثُم أغلق الباب خلفه، وما لبث أنْ نظر بإحدي عينيْه الواسعتين من ثقب المفتاح في الباب، وكأنما يحاول رؤية ما بالداخل.
سحب الجراح كرسيًا وقدَّمه إليها لتجلس عليه بالقرب من المدفأة.
تقدَّمت السيدة الغامضة إلى حيث أشار لها. وعندما لمع ضوء النيران على ثوبها الأسود، لاحَظ الجراح أنَّ الجزء الأسفل منها كان متشبّعًا بالطين والماء.
قال لها: “أنتِ مبتلة جدًا”
قالت له بصوت خفيض: “نعم، أنا مبتلة”. فردَّ عليه الجراح بنبرة عطوف: “كما أنك مريضة!” حيث لاحظ أنَّ نبرة صوتها كانت نبرة شخص يتألم.
ردت عليه: “أنا مريضة جدًا ليس بدنيًا، ولكن ذهنيًا.
لم أجئ إلى هنا من أجل نفسي، ولكن لأجل شخص آخر، لو تعرضتُ أنا لأقصى أنواع المرض لم أكن لأخرج في هذه الساعة، وآتي إليك من أجل ذلك، بل كنت سوف أرقد في بيتي وأدعو أنْ أموت.
جئتُ إليك أتوسَّل أنْ تساعدني من أجل شخص آخر يا سيدي. قد أكون مجنونةً لو طلبتُ ذلك، ولكني أقضي الليالي أبكي وأفكر، يكاد التفكير يقتلني، ورغم أنني أعرف استحالة تقديم المساعدة لذلك الشخص؛ فإنَّ مجرد فكرة أنْ يوضع هذا الشخص في قبره دون أنْ أحاول المساعدة يُجمّد الدم في عروقي”.
ثم بدأتْ ترتجف وهي تتحدث.
بدت السيدة وكأنها تحاول محاولةً يائسةً أثَّرت بعمق قي قلب الطبيب الشاب.
كان هذا الجراح جديدًا في مهنته، ولم يكن قد بدأ يشاهد مآسي الناس التي تتكرر كلَّ يوم، ولم يكن يشعر بما يعانيه البشر.
فردَّ عليها قائلًا: “لو كان هذا الشخص الذي تتحدثين عنه في حالة ميؤوس منها بهذا الشكل، فعلينا أنْ لا نخسر دقيقة واحدة، يجب أنْ نذهب إليه حالًا، لماذا لم تطلبي الاستشارة الطبية من قبل؟”
فردت قائلة: “لو فعلتُ ذلك لما كان له فائدة، بل إنها غير ذات نفع الآن”. ثم شبكَت أصابعها بطريقة تثير الشفقة.
حملق الجراح لوهلة في وشاحها الأسود، وكأنما يحاول التأكد من تعبير وجهها من خلف الغطاء، ولكن سُمك الغطاء جعل ذلك مستحيلًا.
قال لها: “أنتِ مريضة يا سيدتي ويبدو أنك لا تدركين ذلك، يبدو أنك محمومة ومتعبة، أنت تحترقين بداخلك الآن”. ثم صبَّ كوبًا من الماء قائلًا لها: “بلّلي شفتيْك بهذا الماء. حاولي أنْ تتمالكي نفسك ولْتهدئي بقدْر الإمكان.
ما هو مرض هذا الشخص؟ منذ متى يعاني منه؟ عليَّ أنْ أعرف لكي آتي معك، وأزور هذا الشخص وأقدّم له خدماتي، أنا جاهز الآن لأذهب معك”.
رفعَت هذه السيدة الغامضة الكوبَ إلى فمها دون أنْ ترفع غطاء وجهها، ووضعتْه دون أنْ تلمسه شفتاها، ثُم انفجرَت في البكاء.
وبدأت تقول وهي تبكي بصوت عالٍ: “أعرف أنَّ ما أقول لك الآن يجعلني أبدو وكأنني محمومة. قال لي كثيرٌ من الناس ذلك، ولكنك قلتَه لي بشكل أكثر أدبًا. أنا لستُ سيدة شابة. أعرف أنَّ الحياة معاناة، وأنه لا بد أنْ يموت أناس ويحيا أناس – أطفالٌ وكبارٌ – وأنَّ النسيان يطوي كلَّ شيء في نهاية الحياة.
أعرف من متوسط العمر أنني قد لا أعيش الكثير، لو كان ما أُخبرك به الآن ليس حقيقيًا لجلستُ في بيتي وأنا أشعر بالسعادة وأتمتع بالحياة، غدًا في الصباح، سوف يتعرَّض الشخص الذي أخبرك عنه للهلاك، وأعرف أنك لا يمكنك مساعدته”.
قال له الجراح: “أنا لا أريد يا سيدتي أنْ أزيد من آلامك، ومن محنتك بأنْ أُعلّق على ما قلتِ، أو أنْ أبدو متطفلًا لمعرفة ما تريدين إخفاءه، ولكنْ هناك تناقُض فيما تقولين. الشخص يموت الليلة وأنا لا أستطيع أنْ أراه بالرغم من أنني قد أستطيع نفعه، وأنت تعتقدين أنه لن تكون هناك فائدة غدًا، وعلى الرغم من ذلك تريدين مني أنْ أراه! لو كان هذا الشخص فعلًا عزيزًا عليك كما يبدو من كلامك وطريقتك؛ فلمَ لا نحاول في الحال أنْ ننقذه قبل أنْ يتفاقم مرضه، ولا نستطيع بعد ذلك أنْ نقدم له يد العون؟”
ردَّت المرأة بصوت عالٍ: “يا إلهي، ساعِدني!” وبكت بمرارة. “كيف أجعل الغرباء يُصدّقون ما لا أستطيع أنا تصديقه؟ لن تراه إذَن يا سيدي؟” قالت ذلك وهي تنهض فجأة.
ردَّ عليها الجراح: “لم أقُل ذلك أبدًا، ولكني أحذّركِ أننا لو تأخّرنا في مساعدته فسوف تتحملين مسؤولية موته”.
ردَّت السيدة بمرارة: “إنَّ مسؤولية موته سوف تكون على عاتق آخرين، وأنا على استعداد لتحمُّل أيِّ مسئولية على الرغم من ذلك”.
ردَّ عليها الجراح: “حسنًا، سوف آتي في الصباح لأراه كما تريدين، لو تركتِ لي العنوان حتى لا أنال نصيبي من المسئولية لو مات.
في أيِّ ساعة تريدين مني أنْ آتي في الصباح؟”
ردَّت السيدة الغامضة: “في التاسعة صباحًا”.
قال الجراح لها: فلتعذريني يا سيدتي على إلحاحي وكثرة أسئلتي “هل هو الآن تحت رعايتك؟”
ردَّت قائلة: ” لا، ليس عندي الآن”.
حسنًا يا سيدتي “لو أعطيتكِ تعليماتٍ لتعطيه علاجًا هذه الليلة، فهل يمكنكِ مساعدته؟”
بكت السيدة بمرارة وهي تجيب: ” لا أستطيع!”
وجد الجراح الآن أنه لن يكون من المفيد أنْ يطيل معها المقابلة؛ حتى لا يتسبب في مزيد من معاناتها؛ لذا أكَّد على وعده لها أنْ يأتيها في الصباح في الساعة التي حدَّدتها. وصفَت له الزائرة الغامضة عنوانًا في مكان غامض من ووالورث، ثم غادرَت منزله بالطريقة الغامضة نفسها التي دخلَت بها.
تركت هذه الزيارة عند الجراح الشاب انطباعًا غير عادي. لطالما سمع عن أناس ماتوا أو تعرَّضوا للأسى، ولكنه الآن يأمل أنْ تكون الحالة التي بيده غير ذلك.
هذه السيدة تكلَّمَت عن شخص آخر، عن رجل، ولم يتخيل الجراح أنْ يكون كلُّ ما قالته السيدة محض أوهام.
هل يمكن أنْ يكون هذا الرجل سوف يتعرض لعملية قتل في الصباح، وهذه السيدة تعرف هذا السرَّ وتخاف البوح به، ولكنها تريد تقديم المساعدة الطبية له لو حدث هذا؟ ولكن عقله سرعان ما لفظ هذه الفكرة التي يستحيل أنْ تحدُث في نطاق متريْن بالقرب من العاصمة، ثم بدأ عقله يفكر مرة أخرى في أنْ تكون هذه السيدة مختلة عقليًا، بدا راضيًا بهذا التفسير، ولكن ثمة أشياء أخرى بدأت تتداخل في عقله، وتؤرق عليه نومه طيلة هذه الليلة، ولم يستطع أبدًا أنْ يطرد صورة السيدة ذات الوشاح الأسود من مخيلته.
كان الجزء الخلفي من والورث بعيدًا عن المدينة. كان مكانًا بائسًا وحتى في هذه الأيام، ولكن منذ خمسة وثلاثين عامًا خلت كان معظم هذا المكان لا يختلف عن كونه مكانًا قذرًا يسكنه القليل من الناس المتناثرين هنا وهناك، ممَّن منعهم الفقر من العيش في مكان أفضل.
أغلب البيوت التي تنتشر هنا وهناك بُنيت بعد ذلك بسنوات في أوقاتٍ غير منتظمة، وكان منظرها فظيعًا وقبيحًا.
إنَّ رؤية هذا المكان الذي سار فيه الجراح هذا الصباح لم ترفع من معنوياته، ولم تطرد أيَّ شعور بالقلق أو الاكتئاب وهو على وشك هذه الزيارة.
سار في حاراتٍ غير منتظمة بها مستنقعات، ورأى هنا وهناك أكواخًا قد انهارت وسقطَت وكأنها أكواخ مُهمَلة، كانت هناك أشجار واهنة أو برك من الماء الراكد كونتها مياه الأمطار التي هطلَت أمس، كان المنظر يرسم بدقة مدى الفقر المدقع الذي يعيشه سكان هذه المنطقة. ومن حين لآخر، كانت تطل من أحد البيوت القذرة امرأة متسخة لتفرغ بقايا طعام من أحد الأواني وتُلقيها على قارعة الطريق، أو كانت تنادي على فتاة صغيرة نحيفة تنتعل حذاءً باليًا.
وبعد أنْ سار بتثاقُل وبضجر في الطين والوحل، وبعد أنْ سأل الكثيرَ عن العنوان، وحصل على الكثير من الأجوبة المتناقضة وغير المُرضية، وصل الجراح الشاب أخيرًا أمام المنزل.
كان مبنى صغيرًا ومنخفضًا. عبارة عن طابق واحد أرضيّ له مدخل منعزل. كانت هناك ستارة صفراء اللون تتدلي على النافذة العليا، وكانت النوافذ الخشبية في الصالة موصدة، ولكنها لم تكن مُثبتة بإحكام. كان المنزل منعزلًا عن المنازل الأخرى، ويقع في زاوية من حارة ضيقة؛ فلم يرَ أيَّ سكان آخرين.
تردَّد الجراح لمرة ومرات، وهمَّ بأنْ يعود أدراجَه، ولكنه استجمع نفسَه، ثُم رفع مقرعة الباب، كان يودُّ أنْ يُخبر شرطة لندن أنَّ ترْك هذا المكان على هذه الحالة السيئة سوف يجعله ملاذًا لأشخاص فاسدين، لقد تركوا هذا المكان دون تقديم أية خدمات.
لقد عمل هذا الطبيب لبضع سنوات في المستشفيات العامة، وقد يكون اعتاد على بعض صعاب الحياة.
لقد تردد ولكن لأنه كان رجلًا شابَا ذا عقل حادّ، متحليًا بالشجاعة، رجع للخلف خطواتٍ بخفة، ثم طفق يدقُّ على الباب بلطف.
سمع من الداخل صوتًا يشبه الهمس، وكأنما هناك شخصان يتحاورن خلسةً بالأعلى.
بدأ يسمع صوت نعال ثقيلة تتحرك على الأرض. تمّ فكّ سلسلة الباب بلطف وفتح الباب، وظهر أمامه رجل بائس طويل القامة، وله شَعرٌ أسود، ووجهه يبدو عليه الإعياء والشحوب؛ وكأنَّه رجل خرج للتوّ من قبره.
همس الرجل: “اتبعني يا سيدي”
دلف الجراح وراءه، وسمع صوت الباب وهو يُغلَق بنفس السلسلة، ثُم اصطحبه إلى ردهة مظلمة في آخر الممر.
سأله الجراح: “هل جئتُ في موعدي؟”
ردَّ عليه الرجل: “حالًا”
التفت الجراح بسرعة وهو يشعر بالتعجب، ولكن لم يبدُ عليه القلق.
لاحظ الرجل ردة فعل الجراح فبادره قائلًا: “لو دلفتَ إلى هنا يا سيدي؛ فلن تبقى معنا أكثر من خمس دقائق، أؤكد لك يا سيدي”.
دلف الجراح في الحال إلى الغرفة، وأغلق الرجل الغرفة وتركه بمفرده.
كانت غرفة صغيرة وباردة، خالية من الأثاث، باستثناء مقعدين رخيصين وطاولة من المادة نفسها. ثمة حزمة من الحطب تحترق، ولم يكن لها رفّ. تحترق فتنعكس آثار الرطوبة على الحائط وكأنها مساراتٌ متعرجة. توجد نافذة مكسورة وعليها آثار ترميم هنا وهناك، تطلُّ على قطعة أرض صغيرة كانت تقريباً مغمورة بالمياه.
لم يكن ثمة صوت لا في المنزل ولا فيما حوله.
جلس الجراح الشابّ بالقرب من المدفأة في انتظار نتيجة زيارته المهنية.
لم ينتظر كثيرًا حتى سمع جلبة أصدرتْها مركبة تقترب، توقفَت المركبة، ثم فُتح الباب الذي في الشارع، سمع صوتًا يشبه الهمس، يليه صوت نعال تمشي على الممر وتصعد السلالم، وكأنَّ رجُلين أو ثلاثة كانوا مشغولين بحمل بدنٍ ثقيل إلى الغرفة بالأعلى.
سمع صوت صرير الدرج؛ ففهم أنَّ مهمة الرجال قد انتهت، حيث بدأ الرجال يغادرون المنزل، أُغلق الباب مرة أخرى، ثم جثم الصمتُ مرةً أخرى على المكان.
مضت خمس دقائق أخرى، وقرَّر الجراح أنْ يستكشف المنزل؛ بحثًا عن شخص قد يشرح له المطلوب منه، ولكن فُتح باب الغرفة فوجد أمامه السيدة نفسها التي زارته ليلًا. كانت لا تزال متشِحةً بالسواد، ولا يظهر وجهها كما رآها من قبل تمامًا.
أشارت إليه أنْ يتقدَّم، أدَّت حركتها هذه وعدم تحدُّثها واتشاحها بالسواد إلى أنْ تقفز فكرة في رأسه؛ ألا يمكن أنْ تكون رجلًا متنكرًا بزيّ سيدة؟
ولكنَّ الدموع التي كانت تنهمر من عينيها من تحت الوشاح بطريقة جنونية، ومدى الحزن الذي كان يبدو عليها طردَ هذه الفكرة من عقله تمامًا؛ فتبِعها بسرعة.
قادته السيدة إلى الأعلى، ليصِلا إلى الغرفة الأمامية، ووقفَت ليدخل هو أولًا.
كانت الغرفة مفروشةً فرشًا قليلًا من نوع رخيص، وبها صندوق قديم والقليل من الكراسي، وسرير على هيئة خيمة، ولم يكن له قضبان أو ستائر. كان فراش السرير به رُقَع في كلِّ مكان. جاهَد الضوء المعتم للدخول خلال الستارة التي رآها من الخارج، ولم يستطع أنْ يميز ما بالغرفة جيدًا حتى انطلقَت السيدة كالسهم لتجري، وتجثو على ركبتيها بشكل هيستيريّ بالقرب من السرير.
رأى على السرير لفافةً من الكتان تمتدُّ بطول السرير، ويعلوها أغطية، وبداخلها جسد بشَريٌّ لا حراك فيه.
أظهر الرأس والوجه أنَّ هذا البدن لرجل مُغطى كله، ما عدا الضمادة التي على رأسه وتحت ذقنه.
كانت عيناه مغلقتيْن، وكان ذراعه الأيسر يتدلّى بثقل على السرير، وكانت السيدة تُمسِكها.
دفع الجراح السيدة برفق، وتناوَل يدَ الرجل ووضعَها في يده.
ثم صرخ قائلًا: “يا إلهي، إنه ميت!” ثم ترك يدَ الرجل لتسقط بلا وعي.
وقفَت المرأة على قدميْها، وأخذَت تضرب يديها وصرخَت: “لا تقُل هذا أبدًا يا سيدي”. كانت تصرخ بجنون. “لا يمكن أنْ أتحمَّل ذلك يا سيدي. ربما تُكتب الحياة يا سيدي لأناس قد حاول أناس غير ماهرين أنْ يسلبوهم حياتهم. لا تتركه يموت يا سيدي. أرجو ألّا تألو جهدًا في إنقاذه. فلتحاول يا سيدي حتى لا نفقده!. أتوسل إليك”. كانت مضطربة حتى اهتزَّ جبينها، وأخذ صدرُها يعلو ويهبط، ثُم بدأت بيأس تضرب يدي الرجل الميت الباردتين بقوة.
ردَّ عليها الجراح: “مستحيل يا سيدتي”، ثُم سحب يده بلطف من على صدر الميت، وهو يحاول أنْ يواسيها، وطلب منها أنْ تزيح الستار عن النافذة.
نهضت السيدة قائلة: “لماذا يا سيدي”؟
رد الجراح بصوت متهدّج: “من فضلك، أزيحي الستار”
قالت السيدة: “أنا أظلمتُ الحجرة عن عمد”، ثم ألقت بنفسها أمامه وهو يحاول أنْ يزيح الستار.
“فلترحمني يا سيدي! لو كان من المستحيل مساعدته لأنه ميت بالفعل؛ فلا تكشف ذلك لأخرين غيري”.
ردَّ الجراح قائلًا: “هذا الرجل لم يمُت ميتة طبيعية أو ميتة سهلة، يجب أنْ أفحص الجثة”. وبسرعة البرق تجاوز السيدةَ، وجذب الستار فتمزَّق في يده؛ فدخل ضوء النهار بقوة إلى الغرفة، ورجع إلى الجثة.
” لقد تعرَّض هذا الرجل لعنف!” وأشار إلى الجثة، ثُم بدأ يُحدّق بعمق في الوجه. انخرطَت السيدة في نوبة بكاء جعلتْها تُلقي بوشاحها الأسود، وغطاء رأسها، ووقفَت تنظر إليه بتمعُّن.
أظهرَت ملامحها أنها سيدة في الخمسين من عمرها، لا تزال بها مسحة من الجَمال تدلُّ أنها كانت سيدة حسناء يومًا ما. ترك الحزن والبكاء أثراً على وجهها، كان وجهها شاحبًا شحوب الموتى، وكانت شفتاها ملتويتيْن بسبب انهيارها، ونيران غير طبيعية تنبعث من عينيها، والتي كانت علامة تدلُّ على انهيار هذه السيدة بدنيًا ونفسيًا من جرّاء ما عانتْه من شقاء.
قال الجراح: “لقد تعرَّض هذا الرجل لعنف” واستمر في نظرته المدقِّقة ليصل إلى حقيقة الأمر.
ردّت المرأة: “نعم يا سيدي، لقد تعرَّض لعنف”
ردَّت المرأة ” نعم يا سيدي. أني أُشهِد الربَّ على ذلك. أُشهِده أنه قُتل بوحشية”.
أمسك الجراح السيدة من ذراعها متسائلًا: “مَن الذي قتله؟”
أجابت السيدة: “انظُر أولًا إلى الآثار التي تركها الجزار على هذا البدن، ثم اطرح عليَّ ما تريد من أسئلة”.
حوَّل الجراح بصره إلى الفِراش، وانحنى على البدن الذي ظهر واضحًا تمامًا تحت ضوء النافذة.
كان حلقه منتفخًا، وكانت هناك علامة دائرة تظهر بوضوح على عنقه، سطع ضوء الحقيقة فجأةً في ذهنه.
“هل كان هذا أحد الرجال الذين تمَّ شنقُهم اليوم؟” صرخ الجراح وهو يقول ذلك، وانتابته رعدة.
ردَّت السيدة: “نعم يا سيدي”، ثم أخذَت تنظر نظرة جوفاء لم تحمل أيَّ معنى.
تساءل الجراح: “مَن هذا الرجل”؟
أجابت السيدة: “إنه ابني يا سيدي” ثم سقطَت بدون حراك تحت قدميْه.
نعم صحيح. لقد تمّ تبرئة رفيق له لعدم وجود أدلة، ولكن أُعدم هذا الرجل لتوافُر الأدلة ضدّه.
فكَّر الجراح أنه لو حاول تذكُّر تفاصيل هذه القضية التي وقعَت من وقت بعيد، فسوف يثير آلامًا جديدة.
كانت هذه الأمُّ أرملةً، ولم يكن لها حظٌّ من الأصدقاء ولا من المال. لقد حرمَت نفسها من ضروريات الحياة لتوفّرها لولدها اليتيم. للأسف لم يراعِ ولدها كلَّ ما قدَّمتْه له الأمُّ من تضحيات، وتحمُّلها الجوع من أجله، فسلك سبيل الجريمة والانحراف.
لقد جنى ثمار فعلته؛ فشُنق على يد الجلاد تاركًا خلفه أُمًّا مكلومة تشعر بالخزي، وتكاد تُجنّ جنونًا لا يتحمله بشرٌ.
مرَّت سنواتٌ بعد ذلك الحدث، ورغم أنَّ الكثير من الرجال الأثرياء ينسون معاناة الأشخاص مثل هذه السيدة التعسة، لم يتقاعس هذا الجراح عن زيارتها كلَّ يوم؛ ليس فقط من أجل التخفيف من آلامها بوجوده معها وطيبته، ولكن أيضًا من أجل أنْ يُحسّن من حالتها المادية القاسية بإعطائها مساعدات مالية؛ لعله يستطيع أنْ يريحها بدعمه. لم يبخل عنها أبدًا بماله، ولا بمواساته لها.
كانت هذه السيدة قبل موتها تقابل كرمه وعطاءه بكثرة الدعاء له. كان لسانها لا يكفُّ عن الدعاء له بأنه يحفظه الربُّ، وأنْ يزيد من رزقه ويُعلي من شأنه. ويبدو أنَّ هذه الدعوات قد استُجيب لها.
لقد صُبّت عليه النِّعم، وحصل على أضعاف ما أنفقه عليها من خير، فتدفَّق عليه الخير، ووصل إلى أعلى شأن في مهنته، وصار جراحًا يشار إليه بالبنان.
ولكنه لم ينسَ يومًا هذه السيدة، لقد ماتت هذه السيدة، ولكن لا يزال قلبه يخفق بشدة عندما يتذكرها، ويتذكر أنَّ رحمته بها كانت سببًا فيما تدفَّق عليه من خير. إنَّ قلبه ومخيلته لن ينسيا أبدًا هذه السيدة، لن ينسيا أبدًا ذات الوشاح, ذات الوشاح الأسود.
“النهاية”
ONE winter’s evening, towards the close of the year 1800, or
within a year or two of that time, a young medical
practitioner, recently established in business, was seated by a
cheerful fire in his little parlour, listening to the wind which
was beating the rain in pattering drops against the window,
or rumbling dismally in the chimney. The night was wet and
cold; he had been walking through mud and water the whole
day, and was now comfortably reposing in his dressing-gown
and slippers, more than half asleep and less than half awake,
revolving a thousand matters in his wandering imagination.
First, he thought how hard the wind was blowing, and how
the cold, sharp rain would be at that moment beating in his
face, if he were not comfortably housed at home. Then, his
mind reverted to his annual Christmas visit to his native
place and dearest friends; he thought how glad they would
all be to see him, and how happy it would make Rose if he
could only tell her that he had found a patient at last, and
hoped to have more, and to come down again, in a few
months’ time, and marry her, and take her home to gladden
his lonely fireside, and stimulate him to fresh exertions.
Then, he began to wonder when his first patient would
appear, or whether he was destined, by a special dispensation
of Providence, never to have any patients at all; and then, he
thought about Rose again, and dropped to sleep and dreamed
about her, till the tones of her sweet merry voice sounded in
his ears, and her soft tiny hand rested on his
shoulder
There was a hand upon his shoulder, but it was neither
soft nor tiny; its owner being a corpulent round-headed boy,
who, in consideration of the sum of one shilling per week
and his food, was let out by the parish to carry medicine and
messages. As there was no demand for the medicine,
however, and no necessity for the messages, he usually
occupied his unemployed hours—averaging fourteen a
day—in abstracting peppermint drops, taking animal
nourishment, and going to sleep.
“A lady, sir—a lady!” whispered the boy, rousing his
master with a shake.
“What lady?” cried our friend, starting up, not quite
certain that his dream was an illusion, and half expecting that
it might be Rose herself.—“What lady? Where?”
“There, sir!” replied the boy, pointing to the glass door
leading into the surgery, with an expression of alarm which
the very unusual apparition of a customer might have tended
to excite.
The surgeon looked towards the door, and started
himself, for an instant, on beholding the appearance of his
unlooked-for visitor.
It was a singularly tall woman, dressed in deep
mourning, and standing so close to the door that her face
almost touched the glass. The upper part of her figure was
carefully muffled in a black shawl, as if for the purpose of
concealment; and her face was shrouded by a thick black
veil. She stood perfectly erect, her figure was drawn up to its
full height, and though the surgeon felt that the eyes beneath
the veil were fixed on him, she stood perfectly motionless,
and evinced, by no gesture whatever, the slightest
consciousness of his having turned towards her.
“Do you wish to consult me?” he inquired, with some
hesitation, holding open the door. It op
التعليقات