الأكثر مشاهدة

صالحة الحكمي* رابعًا: «نسيان» قصة في زمان لم يأتِ. ما يوافق المنطق أن النسيان ير …

رؤى في زمنية مجموعة «أمس» للكاتب حسن حجاب الحازمي -2-

منذ سنتين

561

0

صالحة الحكمي*

رابعًا: «نسيان» قصة في زمان لم يأتِ.
ما يوافق المنطق أن النسيان يرتبط بفعل تامّ، ومبلغ صعوبة النسيان يكمن في هذه النقطة تحديدًا، أعني أن الفعل تامّ ومُتَذكَّر، وحرّ الحركة، وأن محاولة تخبئة تفاصيله هي ما نقصده بالنسيان، أو تحويله إلى النقص الذي يودي بأركانه الأساسية، بما يجعله مهتزًّا مغبشًا، مرتبكًا، فتضيع أجزاؤه.

وباختصار، فإن ما نقصده أن النسيان مرتبط بالماضوية، من حيث إنها فعل حدث قبل وقت التكلم، ويربط بين النسيان والفعل التام ندمٌ يستدعي محاولة التناسي، إن كان النسيان فعلًا متعمدًا، أو كِبَر سنّ وضعف في الذاكرة، إن كان فعلًا لا إراديًّا.

الكاتب يعلم ذلك، لكنه يثور عليه، ثورة العارف بتقاليد الكتابة، لا المتجاهل لها عن ضعف بصيرة وسوء طوية وقصر الأداة، كما يظهر..!

أقول: لقد ثار الكاتب على نمطية النسيان، وأخرج قصة في بنيتها حبكة زمنية مختلفة، تعتمد على أفعال لم تأتِ، ومواقف يتوقعها ولم تحدث، وأنماط تستقبل ريح الأفعال دون الالتزام بواقعيتها، كل ذلك مُضَفَّر في قصَّة استثنائية.

يقول الكاتب:

«لن تنطبق السماء على الأرض.. لن تتوقف الحياة، ولن يحدث أي شيء مما توقعه. سيبكي أمه طويلًا طويلًا، سيبكيها بحرارة وسيلوم نفسه كثيرًا لأنه لم يكن بارًّا بها كما ينبغي، استسلم للغربة، وترهات العمل، ومشاكل الحياة، ومشاغل الأبناء ونسي أمه، نسي شوقها اللاذع في كل مكالمة هاتفية، ولهفتها الدائمة»، أفعال مستقبلية، تُعنى بالغد، القريب والبعيد، لا بالأمس الذي يكلل جميع قصص المجموعة، فهذا توقُّعُ قصةٍ، وليس قصةً حقيقيةً، وإلا فكيف كنا نبرر قوله: «ولكنه بعد ثلاثة أيام سينسى»، هل ماتت أمه أم أن ذلك من المتوقَّع، وهل هيمنة الكاتب على حبال السرد، وإمساكه بحيادية الزمن، تعني اطلاعه على غيب الشخصية، ومكنون القدر الكتابي والأسطر التالية لأبطال العمل؟! وهل له أن يكسر الإيهام بهذه الفجاجة، وأن يفاجئ القارئ بواقعية سحرية لكنها تخالف الواقعية الماركيزية أو اللاتينية بالكليّة، ذلك أنها تنحو إلى ما سيحدث وإن كان يخلو من الفانتازيا العجائبية!

خامسًا: «الشاعر» قصة ثابتة الزمن

من أنماط قصص «أمس»، ثمة نمط نلمحه في قصة «الشاعر»، وهو زمن النبتة (النخل والحشائش وأشجار الزينة)، وهو زمن لا يتحرك للأمام ولا يعود للخلف، إنه زمن يشبه النبتةَ واقف مستسلم، يعبث به من يعبث، وهو يئنّ أنينًا خافتًا لا يسمعه الناظرون إليه من شرفاتهم العالية، في مفارقة مقصودة بين علوّ النخلة في التراث العربي، وارتفاع المباني المطلّة عليه.

ثمة صوت لحشيش الأرض الذي دهسته الأقدام المثقلة بالمادية، وثمة أيضًا بكاء لأشجار الزينة (الجماديّة) مع التقام مقص المشذِّب قاماتِها التي بدأت للتوّ في الارتفاع.

هو مشهد طبيعي يغيب عنه الزمان، فليس هناك حدث ينتمي بالكلية إلى أحد الأزمنة المعروفة. إنه نوع من السكون والثبات الزمني، ومشهدية تفرض سطوتها الجمالية الموحشة (إن جاز التعبير)، في الحديقة الغنّاء التي استحالت على أيدي أعداء الجمال إلى صورة متكلَّفة، وزينة مجلوبة بتطرية (مع الاعتذار للمتنبي)، ويبقى الأنين سيد الموقف، أنين ربما ينبه إنسان العصر إلى أن الزمان يرفض المضي والإمعان في المرور ما دامت الطبيعة تتألم من عبث سيدها وفساده فيها، وتحويله كل نبتة صالحة إلى مظهر جمالي مُترَع بالمبالغة!

سادسًا: الزمن البسيط في «انتقام»

في قصة «انتقام» يأخذ الزمن سيرورته الطبيعية، ويمضي بسيطًا مطمئنًا غير متكلَّف، يسير نحو المستقبل مجيئًا من الماضي متوقفًا قليلًا في الحاضر الذي يشبه استراحة محارب، يقف فيها بعد أن قطع شطر الطريق، ليستعد إلى مسيرة شطره الثاني. البطل مجهول.

يقول الكاتب: «وهو عائد من المسجد – بعد صلاة العصر رأى ابنته نورة، الناجحة للتو من الصف الثالث المتوسط تنظر من نافذة غرفتها إلى الشارع، استعجل في خطواته وطوى أوراده في نفسه سامحًا للشيطان بالوسوسة».

رغم مرور الزمان بطبيعته المعهودة، فإننا نلمح اعتراضات متنوعة ما بين جملة اعتراضية (بعد صلاة العصر) أو (الناجحة للتو من الصف الثالث المتوسط)، واسم فاعل يحل محل المضارع والمستقبل (سامحًا).. ألا يوحي المقطع كله بالريبة والارتباك..؟!

إننا لنتوقف أمام نَقْل الكاتب عبر هذا المقطع السريع نمطًا من الانفعالاتِ الداخلية لدى البطل نفسه، وصليل وسوسوات الشيطان القاهرة بداخله؟!

«اقتحم غرفتها وسألها – بنبرة حادة – وهو يهوي بالعقال على جسدها، دون أن يتيح لها فرصة اتقائه: (ليش فتحت النافذة؟) قالت مرتبكة وخائفة ومندهشة: (أشم هوى، أغير جو الغرفة)».

إنها نورة ابنته التي تعاني من سطوته وقلاقله، وارتباكاته التي تظهر في وصف شخصيته، وفي اندفاعاته ومسارعته إلى ضربها، والتي ما إن أغلق النوافذ بالأبلكاش أرسلت صور قهرها وزنزانتها إلى العالم كله، وما نلمحه في الفقرة السابقة، هو استمرار لظاهرة الجمل الاعتراضية (بنبرة حادة)، و(دون أن يتيح لها فرصة اتقائه) (مرتبكة وخائفة ومندهشة)، وهو تحرك زمني منطقي لكنه سريع ورشيق، يشير إلى تغيُّر مضامين سلوك الرجل وتوجهاته وانتقالها بسرعة مدهشة، ما يشي باضطرابه النفسي. لا سيما وهو يميل بجذعه من النافذة ويبحث عن رجل كانت تنظر إليه ابنته (في ظنه). إنها وساوس الشيطان التي ترتبط بالمضطرب القلق.

سابعًا: (أمس) مربط الفرس ومجتمع الأزمنة

تخير الكاتب لمجموعته اسم «أمس»، وهي قصة تقبع في منتصف المجموعة تقريبًا، والناظر إليها من حيث تموضعها الزمني يشهد اجتماعًا قلَّ أن تجد مثله في قصة قصيرة لجميع الأزمنة وتمثُّلاتها الفعلية، ومواقعها من الوصف، في مكان واحد، يكفي أن نطلع على الفقرة الأولى:

«سأعيد ترتيب أمس، لن أمد إليك يدًا مرتعشة، وأصافحك بكف غارقة في العرق والتردد، لن أسمح لكل تلك الأعين في صالة الانتظار بأن تقرأ فرحة الطبيب وربكة الزائرة».

أليس هذا تلخيصًا لمقولة إن القصة «عالم مهول من العلاقات المتشابكة يلتقي فيها الزمن بكل أبعاده، حيث يتأسس في رحم الماضي وينشق عن الحاضر ويؤهل نفسه بوصفه إمكانية مستقبلية للتداخل مع نصوص آتية».

كيف يجتمع «الأمس» الدال على تمام الماضي و«سأعيد» و«لن أمد» المستقبليتان مع «أصافحك» المضارعة؟!

إنها مشهدية تتضافر فيها جميع الأفعال لتصل إلى ذروة الحكي، وتعطي خصوصية شديدة واستثناء كبيرًا في السرد، لا سيما أنها لم تأتِ عفو الخاطر، إذ إن هناك إصرارًا كبيرًا عليها، تأكيدًا على أهميتها وحرصًا على زيادة إظهارها في أجواء القصص، ففي الفقرة الثانية، يقول الكاتب:

«لن أسمح لكفك بأن تنسحب بكل تلك السرعة، سأتركها تستريح طويلًا في كف هادئة غير مرتبكة، كانت تنتظر منذ شهر هذه المصافحة، سأترك لأصابعك فرصة الحديث، ولأصابعي فرصة طويلة للإنصات».

إنه مزيج من المستقبل (لن أسمح) و(سأتركها) و(سأترك)، والمضارع (تنسحب) و(تستريح)، و(تنتظر)، والماضي (كانت) المعبر عن الأمس المقصود في جوّ القصة!

إنه الطبيب الذي يراوغ معشوقته بأكاذيب متتالية، من أجل أن يطمئن إلى مراجعتها له وأنها في كل مرة ستعود إليه محملة بحبها لباقات الزهور الحمراء التي يزين بها الغرفة قبل زيارتها، حتى يصل إلى منتصف القصة في انتظاراته لها كل موعد، فيقول: «لكنك أمس قلبت كل شيء! جئت قبل موعدك بخمسة أيام، وثلاث ساعات وعشر دقائق».

لقد عاد الزمن الماضي إلى الظهور من بعد المستقبل الذي شغل أكثر القصة والمضارع الذي يطل برأسه بين الحين والآخر، كما يلاحظ هذا الكم من التحديد العاكس لانتظاره موعد زيارتها بالدقيقة والثانية (خمسة أيام وثلاث ساعات وعشر دقائق)، وإذا بها تخبره بأنها لن تعود إليه وأن بعثتها إلى الولايات المتحدة قد جرى قبولها، ويظل هو نادمًا على التفريط فيها ببساطة، فيعتزم أن يعيد ترتيب «الأمس» في صورة مستقبلية، وهنا تشي القصة بالمفارقة بصورة لا تخطئها عين.

إن القصة إعادة تموضع الماضي في حيز المستقبل، أو هي تصوير جديد لماضٍ يتقاطع مع ماضينا جميعًا الذي نندم عليه، بحيث يمكن تصحيح المسار، وإعادة ترتيبه بما يسمح بأن يكون مستقبلًا مختلفًا عن المآل الطبيعي للماضي الذي فعلناه، أو بمعنى أدق، إنه (بتعبير الكاتب) إعادة ترتيب الأمس.

الزمن في هذه القصة هو اشتراك عدة روافد زمنية، منها المستقبل الذي يحلم الكاتب به لا سيما بعد أن أخبرته حبيبته بأنها ستسافر؛ فتشتعل صورة الزمن المستقبلي في ذهنه، ويقول إنه سيرتب وسيحجز لها عيادة وسيحافظ عليها وسيخبرها بجمال عينيها وفتنتها، وسينتزع منها وعدًا بالبقاء، ومن الروافد رافد الماضي المتمثل في الأمس الذي كانت وطأته ثقيلة على الطبيب المحبّ؛ إذ سمح لها بأن تقنعه بالرحيل، واكتفى بإعطائها «الإيميل» للتواصل، ولم يتمسك بها ويقنعها بأن بقاءها فيه الجدوى العظيمة، والحاضر الذي هو محطّ إعداد خطة الاستبقاء، وموطن ترتيب أفكار المستقبل، لتنتهي القصة عنده بقوله:

«آه من أمس، هل يمكن استعادة أمس؟».

ألا يفضح الكاتب بهذا مراده من الزمن في المجموعة كلها، بأنها تعني الماضي السيئ المستحق للندم؟!

وأنه ما من سبيل إلى استعادة أمس إلا بتصحيح مآلاته المستقبلية؟!

ألا يعني بذلك أن الشاعر يتمسّك بإعادة استشراف المستقبل وتغيير الموروث الذي فرضته قوة قاهرة، وأن إمكان تحسينه في الغد موجودة ما دام أن الأمس ليس بالمستطاع استعادته كما هو؟!

كلها تأويلات مفتوحة على مصراعيها، ما دام الأديب قد قدم رؤيته هذا واختفى، واكتفى بأن يجلس من المشاهدين ليتلقى معهم الثناء على هذه القصص الطيبة.

 

*ناقدة سعودية.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود