مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د. جوزاء مفلح العنزي* شكلت القصة في الخطاب القرآني الكريم إحدى وسائله للتعبير عن …

مقومات البناء القصصي في القرآن الكريم

منذ سنتين

932

1

د. جوزاء مفلح العنزي*

شكلت القصة في الخطاب القرآني الكريم إحدى وسائله للتعبير عن هدفه الأصيل-ابلاغ الدعوة- ولقد شغلت مساحة واسعة في أغلب سوره،فالقصة فن أدبي تهواه النفوس، فهي تخاطبها بطريقة تتلاءم مع طبيعتها، فهي لا تثقل عليها بتوجيه مباشر لتلك العبر والعظات، بل توحي بها إيحاءً، من خلال سرد تجارب الأقوام السابقة، والقصة القرآنية تمتاز بكثرة إيحاءاتها وغزارة دلالاتها وقيمها، بجانب جمال لغتها ورقي أساليبها، فكل قصة من قصص القرآن ذات هدف جوهري منسجم مع هدف وسياق سورتها، فالقرآن الكريم كتاب دعوة دينية قبل كل شيء، والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها.

القصة القرآنية تاريخية ذات غرض ديني فهي حقيقية الوقوع، واقعية الأحداث تسجل تاريخًا للحضارات زمانًا ومكانًا وأقواما، كما أنها تسعى إلى التربية، والإعداد الروحي، والفكري، والنفسي، والاجتماعي، والسياسي السليم للأفراد والجماعات، مع متانة بنائها ومنهجها المتكامل المتسق في الشكل، المنسجم في البعد الدلالي.
وللبناء القصصي مقومات متماسكة متداخلة متوقفٌ أحدها على الآخر، تساهم في تحقيق الانسجام في الخطاب القرآني الذي يوظف كل عنصر حسب أهميته بالقدر الذي يناسب القصة ويحقق هدف السورة. ومن تلك المقومات:
أولًا: البنية الزمنية:
يُعدّ الزمان أحد العناصر المهمة في القصة، فهو يؤدي دورًا كبيرًا في صياغة شكلها وتحديد إطارها الخارجي، فالزمن هو الذي يجمع العناصر السردية؛ لأن حضوره في النص يجعله مشخصًا دلاليًا ومكونًا معماريًا يوضح شكل الوحدة السردية، ويُحمِّل الوحدات السرديات طابع الكلية والحركة والانسجام، كما يسعى إلى إضفاء درجة من المعقولية والمنطقية على المنجز القصصي.
والزمن في القصة القرآنية لا يظهر بشكل مباشر بل من خلال السياق القرآني والمعنى العام، وهو أحد العناصر الإجرائية المشكلة للحمة الخطابية في القصة القرآنية. فالخطاب القرآني مختلف عن أي كلام آخر، ومن ذلك توظيفه لتقنية الزمن، الذي يبرز “منذ اللحظة التواصلية الأولى المجسدة في آية (اقرأ) التي هي زمن مفتوح على التوالد، مما أكسب المتن القرآني شرعية التأصيل والتأسيس.
الخطاب القرآني خطاب رباني صالح لكل زمان، فالزمنية القرآنية تتجاوز حدود زمن التقويم الإنساني، فمهما نُظر وحُددت ماهيته لا يمكن التوصل لمعرفة خباياه واستكناه زمنيته، فهو أعمق مما نتصوّر في تجاوز الأزمنة البشرية، خالقًا له زمانًا خاصاً، تستدعيها خصوصية الخطاب القرآني، التي تجاوزت حدود الفكر الإنساني، زمنية إعجازية وظفت بشكل خاص توظيفًا قائمًا على الانسجام والتماسك البديع. فالزمان في القصة القرآنية يبدأ قبل الزمان الإنساني، قال تعالى: { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا }(الكهف:51)
فالزمان في القرآن أنواع أبرزها:
1- الزمن الكوكبي: وبهذا الزمان تتحدد أعمار الأفراد ومراحل السن، وتتحدد به العبادات اليومية والسنوية، وتاريخ الأمم؛ وهو الزمان الإنساني. في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) [يونس:5-6]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ )[يونس:67].
2- ما قبل الزمان الكوكبي: وهو زمان شهد خلق السموات والأرض بدأ منه الزمن الكوكبي، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ} [يونس:3]، فيوم في الآية الكريمة يختلف عن “اليوم” في الحياة الدنيا.
3- ما بعد الزمان الكوكبي: وهو زمان ما بعد الحياة الدنيا، يبدأ بفناء الكون، وينقسم إلى زمن الحساب وزمن الثواب والعقاب، قال تعالى: {وَيَوۡمَ يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِ} [يونس:45].
الزمان النفسي: وهو زمان يعتمد على إحساس الإنسان وشعوره نحو أحداث معينة، وهو زمان إنساني محض فلكل إنسان زمن نفسي خاص به؛ لذلك سُمِّي أيضًا بالزمان الذاتي؛ لأنه يصف إحساس الإنساني الداخلي تجاه مدة زمنية معينة. وفي القرآن مواضع كثيرة نجد فيها تقدير النفس الإنسانية للزمن وإحساسه به، ومن ذلك ما جاء في أثناء قصة ذهاب موسى للقاء ربه في سورة طه قال تعال:{وعجلت إليك ربِ لترضى}(طه:84)، هذا الآية الكريمة تكشف الحالة الشعورية التي يعيشها موسى عليه السلام وزمن السرور والطمأنينة التي يشعر بها لحظة الوحي إليه.
كما يصور الخطاب القرآني الكريم التقدير الخاطئ من قبل الكفار للوقت الذي قضوه في الحياة الدنيا، قال تعالى: {ويوم يَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَة} [يونس:٤٥].
فالكفار يظنون أنهم لبثوا ساعة من النهار، وهذا تقدير خاطئ لإحساسهم النفسي تجاه هذه الدنيا التي قضوها باللهو واللعب والغرق في الشهوات.
الخطاب القرآني يطوي الأزمنة طيا، ويضمر أغلب حيثيات القصة، مكتفيًا بذكر مواطن العبرة والعظة ا، وبالتالي تأتي الأنساق الزمنية مختلفة من سورة إلى أخرى حسب ما يقتضيه السياق القرآني، والنسق الزمني.
الزمن السردي للقصة القرآنية سرد اختزالي، يطوي الأزمنة، مكتفيًا بذكر مواطن العبرة وما ينسجم مع هدف السورة ومقصدها، والمدة الزمنية تشهد حركات زمنية سردية تحقّق التفاعل بين وحدات القصة وتحقّق الانسجام والتكامل، وتحدث تغييرات عدة من تعجيل وتسريع لحركة الزمن السردي أو إبطاء، وهي تأتي ضمن الأنساق الزمنية.
ثانياً : البنية المكانية:
للمكان أهمية كبيرة في البنية السردية بشكل عام، فهو القاعدة المادية الأولى التي ينهض عليها النص حدثًا وشخصية وزمنًا، والبناء المكاني يلتحم مع البناء الزمني بشكل متفرد في القصة القرآنية، مما يجعل القارئ وكأنه قائم في كل زمان ومكان، فالقرآن استوعب جميع الأمكنة التي خلقها الله تعالى، فمنها ما جاء مصرّحًا به، ومنها ما يدخل ضمن غيره على وجه الإجمال.
فالمكان في القصة القرآنية “هو أشبه بالوعاء للأحداث؛ لأنها تقع فيه وهو ملموس، كما تقع في الزمان وهو شيء موهوم، والبنية المكانية لا يمكن فصلها عن البنية الزمنية؛ لأنها تمتزج امتزاجًا عضويًّا في القصة القرآنية التي هي بدورها تمتزج وتترابط مع باقي عناصر السورة الواحدة في انسجام معجز فيه من القداسة والحركة والثراء الدلالي.
ومن ذلك ما ورد في سورة الإسراء من ذكر مكانين آمنين مقدسين هما المسجد الحرام والمسجد الأقصى في قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى }  (1:الأسراء )، فالتحديد المكاني في الآية الكريمة قام بدور بنائي عظيم في سورة الإسراء بما يتناسب مع طبيعة القصة المذكورة في السورة فكان لها أبعاد رمزية وإشارات دلالية .
عندما ُننعم النظر في السّوَر نجد التوظيف القرآني الدقيق للعنصر المكاني الذي استوحي قيمته التعبيرية ضمن سياق السورة ومقصدها، محققًا دوره في تحقيق الانسجام في كيان القصص الواردة في السورة، التي تنسجم مع البناء الكلي للسورة.
ثالثاً: بنية الشخصية:
تُعدّ الشخصية من المقومات المهمة في البناء القصصي، فهي المحركة للأحداث والوقائع فـ “المكان مكانها، والزمان زمانها، والحوار حوارها، ومنشأ السرد ينطلق منها وينتهي إليها. والقرآن لم يعنَ برسم الخطوط الشكلية للشخصية، وإبراز ملامحها الخارجية؛ لأن ذلك كله لا يخدم أي غرض ديني من أغراض القصة القرآنية، بل يحرص على تصوير الحالة النفسية للشخصيات، فاهتم بذكر انفعالاتها، ودوافعها، ورصد تحركاتها وأفعالها ومواقفها، فالشخصيات التي يقدّمها القرآن لا يمكن أن تقارن بالشخصيات التي يصفها البشر، كما أن الشخصيات ليست من نسج الخيال، بل هي شخصيات واقعية تُذكر عندما تدعو إليها حاجة القصة، فأي شخصية مهما بلغ دورها ومساحتها بالقرآن ووظيفتها تأتي استجابة لدواع دينية واقتضاءات سياقية.
والشخصيات في القصة القرآنية من نوع الشخصيات النامية، أي: التي تتطور وتنمو قليلًا قليلًا، بصراعها مع الأحداث أو المجتمع، فتتكشف للقارئ كلما تقدّمت في القصة وتفجؤه بما يخص جوانبها وعواطفها الإنسانية المعقدة، وهذا التصوير الفني للشخصيات يقدِّمه لنا القرآن بشكل مقنع، فلا يعزو إليها من الصفات إلا ما يبرر موقفها تبريرًا موضوعيًّا في محيط القيم التي تتفاعل معها، ومن تلك الشخصيات الرسل والأنبياء وأصحاب الكهف، وصاحب الجنتين وغيرهم كثير.
رابعاً: بنية الحوار:
أحد أساليب التعبير في القصة وأحد عناصر بنائها، فكثيراً ما يساعد في تطور الأحداث، والعمل على نموها وتصعيدها والكشف عما يعتمل في دواخل الشخصيات بشكل مباشر أو غير مباشر، ويجعل الأحداث حية نابضة بالحركة، والقصة القرآنية قصة هادفة سيقت لأهداف دينية لها خصوصية إعجازية متفردة بتفاصيلها الفنية، والحوار حاضر في سياقات الخطاب القرآني الكريم، ووظّف في كثير من القضايا التي جاء فيها لإقناع الناس بها، وتثبيتها في الأذهان والنفوس، فلقد كان الحوار بنية أساسية في الخطاب القرآني بشكل عام وتقنية رئيسة في القصة القرآنية.
وتتحكم في المشهد الحواري أمور عدة؛ منها: موضوع السورة، طبيعة الموقف والغرض من عرض المشهد، شخصية المحاور، وبالتالي ينتج عن ذلك اختيار الألفاظ وطبيعة الأسلوب.
ومن شواهد الحوار، حوار النبي موسى -عليه السلام – لفرعون وملئه في سورة طه في قوله تعالى:{ إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئتك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى. إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } (طه:47) إلى آخر الحوار الذي استخدم فيه نبي الله موسى الوسائل والحجج ليعظ فرعون، ولم تزده الموعظة الحسنى إلا طغيانًا وعناًدا وسخرية.

 

*كاتبة وأكاديمية سعودية.

التعليقات

  1. يقول Fatimah Al-Sharif:

    مقال رائع وثري … شكرا لهذا العطاء الرصين

    الآية الكريمة في مقول مؤمن آل فرعون
    ( وَقَالَ ٱلَّذِيٓ ءَامَنَ يَٰقَوۡمِ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُم مِّثۡلَ يَوۡمِ ٱلۡأَحۡزَابِ (30) مِثۡلَ دَأۡبِ قَوۡمِ نُوحٖ وَعَادٖ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلۡمٗا لِّلۡعِبَادِ) اعتقد أنها مثال للزمن السردي… كما يعد حواره مع قومه مثال في إقامة الحجج والبراهين على قومه..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود