مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

د. يوسف حسن العارف* (1) فاتحة واستهلال: … وفجأة وجدتني أحد شخوص الرواية، ف …

رواية “صــالون “.. من العتبات إلى السياقات “مقاربة نقدية”

منذ سنتين

850

2

د. يوسف حسن العارف*

(1) فاتحة واستهلال:
… وفجأة وجدتني أحد شخوص الرواية، فكتبت للمؤلفة:
“لقد أسعدتني الرواية أيما سعادة، خاصة عندما وجدت أحداً يشبهني من الشخصيات: ناقد ومثقف ذواقة في الحديث ومعلوماته قيمة وخبراته معتدلة” ص143، تواصل.. وتخاطر روحاني وتناص إبداعي…”.
كتبتُ ذلك فأجابت:
“أنا معتنية جداً بحضور كهذا، ولهذا لم أركب الشخصيات عبثا… كنت حاضراً معي حيث كنا في عالم يضج بالكثير.. صدقاً لم تكن بعيداً أبداً وأنا أكتبها…”.

(2)
عفواً : هذه حوارية خارج السياق الروائي الذي نحن بصدد تفتيقه وقراءته جمالياً!! فـ(صالون) رواية أولى للأديبة/ القاصة/ عقيلة آل حريز بعد (خمس) مجموعات قصصية، و(ستة كتب) متنوعة بين مقالات ونصوص وتأملات تفاجئك – كقارئ – حالة التماهي النادرة بين الكاتب وما يكتب، بين الرواية والروائي، بين المبدع وما أبدع!!
فـ(عقيلة آل حريز) – وهي المؤلفة/ الروائية/ الكاتبة – صاحبة هذا العمل الروائي (صالون)، شديدة التماس مع روايتها، فهي/ أعني الرواية، ليست رواية خيالية، ولا رواية واقعية، وإن كانت كذلك، فهي توثيق لتجربة كتابية (ما) في عالم الكتابة، وربما هي توثيق لتجربتها (هي) الكتابية مع الناشر والمثقف والصديق. ولهذا جاء عنوانها الفرعي: (ثلاثية الثقافة والحب والصداقة).
ومن هذين العنوانين؛ الرئيس (صالون) والفرعي المدون أعلاه، ستبدأ القراءة النقدية بوقفة أولية مع العتبات، التي يعتبرها كثير من النقاد من أهم المباحث النقدية في الدراسات المعاصرة، ذلك لأنها من الحداثة التنظيرية الجديدة التي تمس كل ما يحيط بالنص الأصلي من عناوين وإهداءات ومقدمات، وعلاقة ذلك كله بالمتن النصي ومدى التعالق بينهما أو التفارق!! وفي حالتنا القرائية هذه سنلحظ أن العتبة الأولى هي العنوان الرئيس والعنوان الفرعي حيث سنقف معهما نقدياً فيما يلي:
(صالون)… عنوان لافت، جاء نكرة بدون (ال) التعريف، تبحث عنه (كقارئ) فلا تجده إلا في ص15 حيث سيعرف (القارئ) أن (صالون) أحد عناصر ومكونات المكتبة العريقة في دار النشر التي ستطبع كتاباً للمؤلفة/ الروائية، وهو “صالون أدبي ثقافي يحتاج لمن يحركه بصورة جيدة من باب التواصل مع الكتاب والمثقفين ونشر الثقافة…” ص15.
ثم نجد مزيداً من التعريف عندما قال الأستاذ (نادر): “سيوجد معك فريق كامل للعمل في الصالون وستتعرفين عليه، وهو مكون من بعض طاقم المكتبة…” ص27.
وعندما قالت – وهي الموظفة الجديدة في المكتبة والدار الناشرة: “حاولت فهم النفسيات الصامتة، نوعية العقول التي تكتب ومداركها وفي حلقة القراءة التي يعقدونها بالصالون وجدتهم يقرؤون بعض الكتب لكن قراءتهم صامتة…” ص31.
وقولها: “هل يمكنني المشاركة معهم في حديث الصالون؟ قال بالطبع المكان مفتوح للجميع…” ص 31.
وقولها: “فكتبتُ هذه الخاطرة هنا بهذا الفضاء الأخضر في مجموعة الصالون وتركت الحروف تحلق إلى هنا أرقب تأثيرها ومداها.. لم أتوقع الكثير كان يكفيني بعض القراء كنوع من ارتدادات التفاعل الأول…” ص31.
ومن مجمل هذه الأقوال يمكن التعرف على (الصالون) فهو مكان حقيقي داخل المكتبة ودار النشر، مكان يجتمع فيه موظفو المكتبة والدار يقرأون ويتناقشون ويتحاورون فيما قرأوا… ويزوره بعض رواد المكتبة ودار النشر فيجلسون ويتطارحون الحوار والمداخلات والتعليقات.
ثم هو مكان افتراضي عبر الدائرة الحاسوبية وعبر الفضاء الأثيري الأخضر يلتقون فيه كمجموعات “تربو على المئة شخص وجميعهم ليسوا أدباء ولا حتى قراء مهتمين” ص36.
من هذه المقتبسات التي تعرف بـ(الصالون) وتحدد ملامحه وسماته وما ينتظر منه في ظل إدارة جديدة المطلوب منها تفعيله، وهذا ما سنعرفه من مجريات الرواية وجمالياتها فيما بعد.
أما الجزء الثاني من العنوان/ العتبة الموازية التي جاءت تحت العنوان الرئيس: ثلاثية الثقافة والحب والصداقة وفي هذا النص الموازي تعالق نصوصي أو تناص مع الثلاثيات في أدبنا المعاصر وخاصة الروائي منه، والذي فتح نموذجه الأول نجيب محفوظ في ثلاثية القاهرة، وسار الروائيون بعد في هذه الاستراتيجية الروائية حتى وصلت إلى مشهدنا السعودي فعرفنا ثلاثية تركي الحمد (أطياف الأزقة المهجورة) وثلاثية سلمان الطياري الموسومة بـ(الثلاثية الصفرية) وثلاثية محمد آل سعد (العودة إلى قبالة- جيفرسون ستريت، قوبالينو)(*).
وعبر هذا الأفق التناصي تأتي ثلاثية (الثقافة والحب والصداقة) لمبدعتنا الروائية عقيلة آل حريز التي تتماهى مع هذه الوسوم الإنسانية في أبعادها ودلالاتها القيمية لتتحول عندها إلى رمزية روائية تستدعي كشفها والتواصل مع معطياتها عبر أحداث الرواية ومجرياتها.
إن الرمزية التي تحيط بالعمل الروائي الذي بين أيدينا وتحاول كشفه هذه القراءة الناقدة هي حاصل الارتباط الضمني بين الرمزية واللغة السردية لأنها اللغة السرية والكاشفة والمرتبطة بشكل محكم ودائم بالفن عموماً والفن السردي خاصة بوصفه جسراً بين الاعتيادي والنفسي، وبين القيمي والمجتمعي، اللذان يشكلان الأبعاد الثقافوية والتي يعدها كثيرون نسقاً متقدماً من الرموز المختلفة (حسب تعبير بودلير) فالعالم ليس سوى غابة من الرموز ومنبع للزمن تتكشف المفاهيم والمعاني(*).
وهنا تنبئ العتبة العنوانية الفرعية عن مداخل قرائية للرواية ففيها (الثقافة)، وفيها (الحب) وفيها (الصداقة) وكلها قيم تتداخل وتتعاضد وربما تتصارع داخل تلك البيئة المكانية، أو الفضاء الأثيري المسمى (صالون) وهو الجزء الأساس من العتبة العنوانية.
وهذا ما ستأخذنا إليه الرواية وجمالياتها وفضاءاتها التعبيرية.

(3) وفي السياق (العتباتي) بعد (العنوان) نجد جملة من النصوص الموازية – كمداخل للرواية – أحصيتها فوجدتها (تساعية)، ولأول مرة في تاريخ الروايات التي قرأتها ألحظ مثل هذه المداخل – وهي بالتأكيد ذات حمولات ودلالات ترفد النص الأساس للرواية وخاصة المداخل 2، 3، 5، ففيها نجد التعالق النصي، والتشظي مع متن الرواية، وفيها بعض الإشارات والإلماحات الموجهة للقراءة على النحو التالي:
في المدخل الثاني ص6 وتحت عنوان (تحذير) نجد رسالة (تحذيرية) – وفي نفس الوقت (تحفيزية) – أن هذه الرواية ليست للقراءة العادية وكأنها تتحدى القارئ وتحفزه لإعمال الذهن والقراءة الناقدة!!
وفي المدخل الثالث ص7 رسالة تعريفية واعتذارية عن تشابه الأحداث والشخصيات الخيالية مع الأحداث والشخصيات الواقعية.
وفي المدخل الخامس ص9 نجد (الإهداء) وهو عتبة نصية، ونص موازٍ تحتفي به الدراسات النقدية كأحد سياقات النص العتباتي. وفيه نجد الإهداء لأسماء محددة وهي: (غدير وجواهر وأماني وجبير) وهي الشخصيات الحقيقية التي دفعت وحفزت الكتابة الروائية، ومنها جاءت شخصيات الرواية بنفس الأسماء والدلالات تقريباً كما نجد الإهداء إلى روح الوالد وروح الوالدة (الخالدين في ذاكرة قلبي للأبد..” كما تقول ص9.
من هذه المداخل/ العتبات الثلاث يمكن الانطلاق نحو المتن الروائي لنلحظ هذه العتبة وكيف تشظياتها وتعالقاتها وبالتالي تتماشى مع العنوان الفرعي للرواية (ثلاثية الثقافة والحب والصداقة) وتتعالق معها نصوصياً ودلالياً.
وهنا لابد من القول أن باقي المداخل (1، 4، 6، 7، 8، 9) يمكن دمجها في المتن الروائي في الأماكن المناسبة للنص فهي مقولات فكرية عن الصدق والصادقين ص5، وعن الحكايات الصغيرة التي تتحول إلى رواية ص8، وعن الكتابة وتجلياتها وضرورتها ص10، وعن المصلحة الفردية والاستنفار من أجل تحقيقها ص11، وعن الأمور الصغيرة في حياتنا التي لا يمكن الحديث عنها ص12ـ وعن العوالم غير المنتظمة التي يفاجأ بها الإنسان ولابد من التأقلم معها والتقاطع مع ما فيها ص13.
كل هذه التراكيب اللغوية تحمل جمالياتها القولية ودلالاتها الرمزية ولكن مكانها ليس في المداخل، وإنما في المتن الذي يستوعب هذا الإسراف اللغوي كمَعْلَمْ من تجليات الرواية التي تحتمل فصولها ومحاورها وتفريعاتها هذا (الكَمَّ) من فضول القول وتداعياته الاستطرادية.

(4) تأخذك رواية (صالون) إلى الكثير من الملامح الجمالية، والفضاءات التعبيرية، والخطابات السياقية والفيوضات السردية، مما يشكل مبحثاً خاصاً عن الجماليات والتي يمكن تقسيمها إلى الثلاثية التالية:
1/4 البيئة.. والفضاء الروائي:
يعتبر الفضاء الروائي أحد مقومات الخطاب الذي تقوم عليه الرواية وبنيتها النصية، فالفضاء الروائي يحمل الدلالة المكانية وربما الزمانية. وهناك فضاءات كلية، وفضاءات جزئية، وهناك فضاءات واقعية ومثلها أسطورية/ عجائبية.. والروائي المتميز هو الذي يخلق في روايته فضاءات متنوعة متعددة ومتنامية لا نهائية!!
وفي هذه الرواية (صالون) نجد الفضاء الروائي غير المطروق سابقاً في كثير من الروايات التي اطلعت عليها والمؤلفة/ الروائية: عقيلة آل حريز تجترح فضاءً روائياً جديداً وهو فضاء الثقافة والفكر والإبداع عبر ثيمة المكتبة ودار النشر والصالون الثقافي الافتراضي حيث تجمع الأفكار والأدباء والمفكرين وحيواتهم الإبداعية، وحيث المقالات والكتب والحوارات والنقاشات الأدبية والفكرية، وهي بذلك تخلق عالماً موازياً/ إبداعياً أنجزه الواقع الحقيقي وارتقت به روائياً الجوانب اللغوية والفضاءات الخطابية، والإحالات الفكرية.
نجد في هذا الفضاء الروائي تناصات جمالية مع العديد من الآفاق الثقافية والإبداعية: “علي الوردي بمهزلة العقل البشري، وخوارق اللاشعور، كان هناك يراقبني وعلى مقربة منه كانت رضوى عاشور بثلاثية غرناطة تتصفح وجهي المضطرب بعض الشيء، رافقتني بعض مؤلفات يوسف زيدان لمحت من بينها عزازيل…” ص22.
كما نجد في هذا الفضاء الروائي تعاريف بالكتب والعناوين الإبداعية: “مرت زائرة بالقرب مني وسألتني عن رواية ساق البامبو، قلت لها إنها متوفرة”… “ثم مددت لها رواية سيدات زحل للطيفة الديلمي”… “وأرشدتها لرواية حوض السلاحف ورواية أرض البشر” ص32.
كما يبرز في هذا الفضاء الروائي تعالقات الأدباء والمفكرين والقراء والمبتدئين، حدسهم وفوضاهم جمالياتهم وقبحهم، واقعهم وخيالاتهم فينتشي القارئ بهذه العوالم الفسيحة والمتباينة ممن يتعاملون مع هذا المكان.. هذه البيئة الثقافية بكل تجاذباتها وإرهاصاتها وتقلباتها. وبذلك فالرواية (صالون) ومؤلفتها يضعان القارئ المثقف أمام ذاته أمام نرجسيته وانهزامه، أمام بؤسه وانتصاراته في لغة روائية ناضجة ومتفتحة.
2/4 الخطاب الوصفي والتصويري:
ومن الجماليات اللافتة في هذه الرواية (صالون) والتي استرعت انتباهي (الثقافة الباذخة في فن الوصف والتصوير) التي أبدعت فيها المؤلفة/ الروائية رسماً للملامح وتفتيقاً للأيقونات الشخصية المواربة وامتلاكها للمهارات اللغوية والتشكيلية الفنية.
الوصف والتصوير من الأدوات الروائية والفنون الخاصة بالاتصال اللغوي، حيث المفترض في كل راوٍ أو قاص أو سارد أن يمتلك هذه الخصوصية حيث القدرة والمهارة لتصوير وتجسيد المشاهد والأحداث، وتقديم الشخصيات والتعريف بالأماكن، والتعبير عن المشاعر والانفعالات باللغة الإبداعية الموصلة للمعنى وتقرب المشاهد من ذهنية القارئ.
الوصف والتصوير – عند كثير من النقاد – من أبرز أسس وجماليات السرد، ويقوم مقام الديكور في العمل المسرحي والموسيقى الداخلية في النص الشعري الحديث. وهذا يستوجب من الروائي والقاص امتلاك المهارات اللازمة لهذه الثقافة الفنية من شدة الملاحظة ودقة التفاصيل، والعمق في التصوير والتمكن اللغوي.
ولعلي هنا أقف عند بعض النماذج الجمالية في هذا الباب (الوصف والتصوير) وفي رواية (صالون).. تقول الروائية مثلاً عن (نادر أحد شخصيات الرواية): “بدالي من أول وهلة رجلاً فخماً وأنيقاً بابتسامته الرزينة وبعطره النافذ والمناسب لرجل على مشارف الخمسين.. سماته بدت جادة، بشرته حنطية اللون وقامته معتدلة…” ص21 بهذه الأوصاف والتصاوير تجعلنا – كقراء – نتصور ذلك الرجل المسمى (نادر) ونرى شخصيته رأي العين عبر اللغة التصويرية التي أتقنتها الروائية/ المؤلفة.
وتقول عن (أبو رافع)، أحد شخصيات الرواية أنه “رجل يقترب من السبعين، نحيف طويل أشيب الشعر به مسحة جمال من أيام الشباب…” ص33.
وتقول عن (السيد ضيف): “كان رجلاً مهندماً في منتصف العقد الخامس أو قريب السادس، معتدل الطول أبيض البشرة تعلوه حمرة العافية ونضارتها، لحيته بيضاء متوسطة، عيناه صافيتان وابتسامته وديعة ومريحة..” ص ص96-97.
وفي مشاهد تصويرية جمالية تقول الروائية: “الخلافات تعلو رائحتها بينهما كدخان السيجارة المحروقة”. وتقول: “بقيت أراقبه وهو يعاود الجلوس لطاولة مكتبه الغريبة جداً يتناول سيجارته وفنجان قهوته السوداء المركزة بجانبه، يفتح كتابه الذي يحمله ويبدأ بالكتابة على جهاز الحاسوب القديم…” ص111.
وفي جانب آخر تصور لنا الكاتبة مشهداً منزلياً فيه الكثير من الصور والجماليات اللغوية، تقول: “عدت للبيت محملة بالقلق، كانت القطة تعبث حولي في المكان تبحث عن بقايا طعام أفرغت وجبتها الجاهزة وضعتها بصحنها الفارغ فراحت تأكلها بشهية وجددت لها ماء الشرب راقبتها حتى انتهت تماماً وجاءت تموء لي كأنا تشكرني…” ص118.
وفي هذا السياق من الصور الوصفية تقول الكاتبة: “حتى هذا الصباح الساحر الذي كان يتسلل من مياه الساحل الرملي بشاطئ رأس تنورة.. طالعت مساحات المياه الزرقاء ونقطة تلاقيها مع السماء.. انتبهت لانسحاب الغيمات اللطيفة قليلاً عن السماء فبدت أشعة الشمس أكثر سطوعاً ووهجاً..” ص124.
ونموذج تصويري/ وصفي جميل ومبدع يوضح لنا بجلاء امتلاك المؤلفة/ الروائية لرصيد كبير من فنيات الوصف والتصوير وجمالياته تقول: “حملت معي الكتاب وأنا أقرأ سيرة كافكا وعلاقته مع ميلينا المرأة التي خصها بمشاعره العميقة من خلال رسائله والتي كانت تحرك أجواء الأدب حولها، كان يكتب بشعور مختلف، شعور يبدو عفوياً وطبعياً، شعور الحب والشغف والاحترام والتخصيص لركن فيها فهي محطته القلبية… يرينا كيف كانت الأزهار تتفتح في عالمهم فائضاً من الصمت.. كثيراً من التأمل.. محطة للنجاة إن رغبنا…” ص147.
وأخيراً نعيش مع المؤلفة هذه الصورة الوصفية المجسدة للأفكار واللغة بطريقة مؤثرة وجاذبة للحدس والقراءة والتصور: تقول فيها: “بقيت في سريري في مواجهة السقف أطالع تفاصيل معجون السقف وأفصل منه رسومات وأشكالاً متخيلة، كأني أكتشفها لأول مرة ضحكت وأنا أتصورها مكتبة مكدسة بالكتب، فقط، حيوانات مختلفة بعضها خراف ومن ثم صور للجبال…”.
ثم تقول: “وجلست قبالة النافذة على حافة السرير أحضن ركبتي، كانت نخلتنا تظلل بأغصانها الكثيفة نافذة غرفتي المطلة على فناء الجيران الجانبي..” ص236.
من هذه المقتبسات وجدنا تعدداً في زوايا النظر المشهدي/ التصويري فهناك، وصف الشخصيات، ووصف المشاعر، ووصف الكيانات، ووصف الذات وكلها تحمل جماليات التصوير لغة وخطاباً. وعبر هذا التدفق الوصفي/ التصويري/ اللغوي، يتصور القارئ ما يقرأ ويرسمه في ذاكرته وذهنيته القرائية عبر لغة بيانية دالة على دقة الملاحظة وروعة التفاصيل، والتقاط المسافة التصويرية المناسبة والمعبرة في مشهد تكاملي وجمالي وإبداعي.
وبذلك يتضح لنا كم هو الوصف والتصوير جمالية مميزة وأيقونة فنية سردية حتمية في النص الروائي/ السردي، بل هو من أبرز الجماليات وله وظيفتان: إحداهما جمالية لغوية، والثانية توضيحية تفسيرية ورمزية دالة ومعبرة.
كما يتضح لنا أن الروائية/ الكاتبة قد أجادت التعامل الفني واللوني مع هذه الجمالية الكتابية ولمست أبعاداً وفضاءات متعددة داخل المتن الروائي فهناك وصف للزمن، أو ما يسمى الوصف الكرونولوجي، ووصف للمكان والبيئة وهو ما يسمى الوصف الطبوغرافي، ووصف الأشخاص والذات والناس وهو ما يعرف بالوصف البروزغرافي، إضافة إلى الأسطورة والفانتازية ورسوماتها الوضعية وهذا ما يعرف بالوصف اليوطيوبي(*).
2/4 المتن السردي وحبكة الرواية:
ومن المظاهر الجمالية في رواية (صالون) تلك الحبكة الروائية التي جاءت نتيجة للمتن الموضوعاتي السردي الذي اختارته المؤلفة/ الروائية، إذ يحمل في طياته ثلاثية (الثقافة والحب والصداقة) وهي ما تمثل جسد الرواية ومتنها المتنامي عبر منظومة من اللغة المكثفة والأفكار الدرامية، والمعطيات الحيوية في أشكال ومظاهر متعددة نلمس أولى معطياتها في الموضوع الذي اختارته الروائية مسرحاً لأحداث الرواية (دار النشر والمكتبة) التي انبثق عنها (صالوناً) ثقافياً واقعياً وافتراضياً وعلى هذا المسرح تتحرك شخوص الرواية بأفكارها وثقافاتها، وتطلعاتها وانكساراتها، بهزائمها وانتصاراتها.
ففي الجانب (الثقافي) نجد تلك المحاورات والنقاشات الفكرية عبر الصالون الافتراضي بحمولاتها الجمالية والإبداعية فمثلاً ما كتبته بطلة الرواية (أغادير) – والتي تمثل هنا الراوي العليم!! – تلك الخاطرة الأثيرية “بهذا الفضاء الأخضر في مجموعة الصالون وتركت الحروف تحلق أرقب تأثيرها ومداها والتفاعلات الأثيرية حولها فيما بعد..” ص31.
نجد توصيفاً بليغاً لثقافة البعض من منسوبي الصالون وتجاربهم الثقافية: “فالكاتبة هالة التي تكتب بالصالون كتابة حرة لكنها تكتب باستعراض.. تعليقات تقتصها من كتاب وصحافيين.. الكل يصفق لها ولإنجازاتها ولا تفهم أنت لم تبد مختلفاً وبعيداً عن دائرتهم…” ص51.
تجد رتماً حوارياً مختلفاً بين (نايف) و(أنس) وينضم إليهم (بكر): “تركتهم يموجون في بحر الحديث.. حين عدت وجدت كلاماً كثيراً لم أستوعبه كله…” ص129.
وأخيراً قول المؤلفة: “افتتحت جلسة الصالون اليوم بعنوان ظل يشغلني.. من يقيم الكتاب ومن يقيم الكاتب نفسه؟ من يصنع الكتاب حقيقة؟! لا يوجد في مجتمعنا من يقيِّم…!! ثم تسرد ردود الآخرين وحواراتهم (هالة) (نايف) (مختار) (عابد) (عزيز) (الدكتور أحمد).. ص ص132-135.
ومن هذه المقتبسات نلحظ التداولية الفكرية التي تقوم بين المثقفين عبر حساباتهم التواصلية والتي يجسدها (صالون) ثقافي أثيري تقوده وتشرف عليه بطلة الرواية (أغادير)!! التي هي في حقيقتها المؤلفة الروائية وهي بذلك تجسد لنا الجانب (الثقافي) في ثلاثية (الثقافة والحب والصداقة)!!
أما جانب (الحب) في تلك الثلاثية فيتجلى في كثير من مناحي الرواية (صالون) وعلى صور متعددة وبأشكال وفعاليات مختلفة.
فهذا (زهير) ابن خالة (أغادير) الذي رحل من حياتها والذي من المفترض أن يكون خطيبها.. ص10. هذا الحب الذي لم يتأسس إطلاقاً على علاقة حب حقيقية بين طرفين بل كان صدى لعادات وتقاليد اجتماعية. تقول أغادير: “أنا بالأساس لم أحب زهير ولم أشعر تجاهه بأي عاطفة ما” ص40 وتتنامى حكاية الحب هذه عبر الصفحات 38-41.
وتظهر ثيمة (الحب) مرة أخرى في حوارية عبر (الصالون) بدأها (عابد) ورد (ماهر) و(مختار) و(هالة) و(نايف) و(أجياد) و(غالب)… وأجمل ما في هذه الحوارية تلك المقولة اللافتة التي بدأ منها الحوار: “الحب مجرد شعور ليس حقيقياً تماماً إنما له علاقة بالمحب وبرغبته وميوله وهواه، فلا حب أزلي ودائم، هو مجرد مشاعر متحركة تابعة لهرمونات محددة تزيد وتضطرب وتنقص…” ص ص139-142.
تعود متتاليات (الحب) في الظهور عندما يقودنا المتن الروائي وحبكاته المختلفة إلى صور من (الحب) غير المتكافئ ولا المتجانس!! (الحب) من طرف واحد والآخر في عذابات الخوف والانتظار. هنا نجد (سكر) إحدى بطلات الرواية وهي تعشق وتحب (أنس) أحد شخوص الرواية وأبطالها. بينما (أنس) هذا منصرف عنها بالكلية في (حب) آخر لـ(أغادير) التي لم تُكِن له هذه المشاعر. هذه الإلماحات والتجاذبات تؤطر المتن الروائي عبر الصفحات 177-179، 181-182، 199-205، 206-208-210.
ومازال (الحب) ومفرداته يستحوذ على مكان كبير من متن الرواية لنجده متعملقاً في ختام الرواية حيث تعترف بطلة الرواية (أغادير) وهي (الراوي العليم)، وهي المؤلفة الروائية عقيلة آل حريز أنها شعرت وأحست بمنابع الحب عن بعد فـ(أنس) “أحب أغادير بكل قلبه” لكنها لم تبادله هذا الحب، و(نادر) كان يعرف ذلك ولم يحتفظ بها” ص261.
وعبر هذه المقتبسات تبدو ثيمة (الحب) ودلالاتها ورمزيتها، وتبدو اللغة الصافية التي كتبت بها والصور الحركية التي أنتجتها فتشعر – كقارئ – أن الروائية/ المؤلفة جعلت من المتن السردي جمالاً يحتفي بكنيونة (الحب) وتشعباته وفلسفته الوجودية وتجلياته مما يؤكد أحقيته بالوجود على سطح العتبة العنوانية الفرعية!!
وأما جانب (الصداقة) في تلك الثلاثية العنوانية فيمكن رصد تجلياتها وانعكاساتها عبر زمن الرواية الممتد منذ وصول (أغادير) والتحاقها بالمكتبة وتعرفها على القراء والكتاب والمثقفين، وعبر الصالون الذي يجمعهم عبر الأثير الفضائي الأخضر والشاشة الحاسوبية ووسائل التواصل الاجتماعي.. وحتى خروج (أغادير) من المشهد وطباعة روايتها في دار نشر منافسة للدار التي عملت فيها.
تلك الصداقات ودلالاتها، ومعانيها، وتشعباتها تبدو كجماليات تزين المتن السردي والأحداث الروائية مما يجعلها ثيمة عنوانية لها تشظياتها في المتن الروائي، فمثلاً لقاؤها بـ(نادر) صاحب المكتبة والدار وتعريفه لها بفريق العمل أنس، سكر، نائلة، والعم أبو رافع، وهذا أول تشكيل للصداقة في مفهومها العملي ص ص23-29.
كما نجد الصداقات البيئية بين رجالات الدار ونسائها العاملين فيها ص45، وبين أعضاء الصالون والمشاركين في حواراته صداقة ظاهرية وخلافات باطنية تحول الصداقة إلى معانٍ وقتية مصلحية ربما!!(*).
ونجد نوعاً ثالثاً من الصداقات البيئية التي تجمع الناس في بوتقة عمل واحدة ولكن النفوس متنافرة والأفكار متباينة والأوجه على مسحات من مساحيق الزيف والسُّتُر المواربة “تحت رداء الصمت” ص ص 89-92.
كما نجد الصداقة مع الكتب واعتبارها المأوى اللذيذ و”الصديق الوفي الذي يشعرك بالألفة وعمق الإضافة لأجندة عقلك…” ص130.
وتبرز ثيمة الصداقة بشكل أكثر وضوحاً في الحوارية عبر الصالون الذي افتتحتها (أغادير) بقولها عن الصداقة: “أن تجد صديقاً في الحياة يتقبلك كما أنت تماماً بنواقصك وعيوبك… بانكساراتك وانهياراتك.. يحتضن تعبك وشغبك… إلخ” ص149 وتنامت الحوارية بعدها بين أعضاء الصالون وكلٌّ يدلي بدلوه واستغرقت هذه الحوارية الصفحات 149-153.
وهكذا كان المتن السردي محملاً بآفاق (الثقافة والحب والصداقة) كثيمات أساسيات تتوج العمل وتسوق لمادته وفكرته الروائية، وهي في صيرورتها تعبير جمالي، ومتون تحمل المعنى وتغذيه في قوالب من اللغة المكثفة والدالة وفيها تجليات الزمن والتحولات الطارئة وهذا ما يؤكده الناقد المغربي الكبير الدكتور سعيد يقطين الذي يرى “أن البناء الدائري للعمل الروائي هو الانتقال في الزمن ومعاودة النظر في التحولات الطارئة على الأحداث والشخوص، الأمر الذي يجعل المتلقي والقارئ يكتشف عناصر جديدة في كل مرة لم يسبق له مثلها…”(*).
وتأكيداً لهذه البنيوية الدائرية في العمل الروائي نقف عند نهاية الرواية وخاتمتها حيث نجد (نادر) الشخصية المحورية في الرواية وصاحب الدار والمكتبة يخاطب (أغادير) بنفس الخطاب الأول الذي قاله لها عندما بدأت خطواتها العملية في هذه الدار الناشرة والمكتبة المحترمة حيث قال لها: “بدءاً (ص25).. ويقول لها ختاماً: “نحن لا نحصل على كل ما نريد في هذه الحياة، ليس ما نريده دوماً”!! ص262.
(5)
*ختاماً:*
فقد أخذتنا الرواية (صالون)، والروائية، وبطلة الرواية (أغادير) التي هي (الراوي العليم).. كلهم أخذونا في رحلة ماتعة، جميلة إلى آفاق وفضاءات روائية لها جمالياتها وشخوصها، لها تشكلاتها وإبداعها، لها جاذبيتها الموضوعية واللغوية والسردية، ولها أبعادها الحكائية المتزنة والفاتنة.
حقيقة لقد جذبتني الرواية ولغتها منذ القراءة الأولى فكتبت تعليقات أولية على النحو التالي:
عندما وصلتني الرواية واستلمتها من البريد كتبت هذه الأبيات:
وصل (الصالون) فمرحباً بوصوله
تاق الفؤاد لرحلة عقلية
فلتسلمي أخت الثقافة والأدب

والشكر للغالي الذي أهداني
فيما احتوى من رائع التبيان
ولتهنئي باليمن والإيمان

***

وبعد أيام من القراءة قلت عن الرواية:
صراع الفكر والقلم والناس (ثيمة) هذا العمل الروائي!! تحمل جمالياتها عبر أيقونات الوصف والتصوير للحالات النفسية، والمشاعر الإنسانية والتقلبات المعنوية. كما تتنامى الحقول التصويرية عبر الوصوف الجسدية، والشكلانية للشخوص الروائية!!

***
وعند ختام القراءة كتبت هذه الرؤية النقدية:
رواية شيقة جداً تعيش فيها مع الكتاب والكتب، مع الثقافة والمثقفين، تستبطن أدوارهم وتكشف عوارهم!! رواية كاشفة، فاضحة،ـ فيها كل ألوان الطيف الثقافي والإنساني!!

***

 وفي ختام هذه الورقة النقدية – أقول مؤكداً: لقد كسبت الساحة الثقافية عملاً روائياً جاداً وجميلاً في موضوعه الجديد والمعاصر، ومعالجته الفنية، وقوالبه اللغوية والتعبيرية والأسلوبية، ومكاشفاتها الذاتية عبر البوح التأملي، والإبداع الشاعري وكل هذا يزيد من رصيد وتألق الرواية، وكاتبتها الروائية (آل حريز)!!
***
وإذا كان ثمة ملحوظات، فسأكتفي بثلاث فقط لعلها تؤكد مقولة العماد الأصفهاني: “إني رأيت أنه لا يكتب أحداً كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل” مما يعني أن الكمال المطلق في كل ما يكتب الإنسان ليس مطلوباً ولا متحققاً ولابد من الهنات والأخطاء التي تعني سبق قلم أو اجتهاد جانبه الصواب!!
وما هذه الملحوظات إلا شيء من هذه الإشكالية:
الأولى: توزيع الرواية وتفريعها أو كما يقال ترتيبها إلى أبواب أو فصول أو محاور رقمية أو أجزاء تسلسلية تعطي للقارئ مجالاً للتحقيب الروائي، والانضباط القرائي.
والثانية: كما ختمت الرواية بالحمدلة (الحمد لله)، كان الأولى أن تبدأ بالبسملة (بسم الله).
والثالثة: بعض الأخطاء الأسلوبية والطباعية والنحوية مثل:
ص6 تنط في رأسي = تقفز
ص17 أستاذتنا تشكر بواجبي = تشكرني على واجباتي
ص23 يستدعي حسد ما = يستدعي حسداً ما
ص29 تبدو في البداية مترجلة حتى تمحك… = مرتجلة تجرب وتختبر
ص52 لست أعتقد يأتي يوماً = أن يأتي يوماً
ص71 ضبطه يراقبني = ضبطته يراقبني
ص101 الذي تضيفينه =تضيفيه
ص102 حتى يسلم من مطبة هذا الأمر = مغبة هذا الأمر
ص134 إذ لماذا يتوقف = إذاً لماذا يتوقف…
ص262 لا يزال يدخن سيارته بالخارج = سيجارته
ومع كل هذا.. فقد كنت في متعة قرائية فريدة، أورثت هذه المقاربة النقدية أرجو أن تكون مفيدة وسديدة، عبر انطباعات شخصية ومعالجات منهجية ومداولات معرفية!!

 

*كاتب وناقد سعودي.

التعليقات

  1. يقول Aqeela Al Huriz:

    لبعض الأمنيات نصيبها
    كنت أخشى أن أقود الحكاية لطريق مسدود وأني لم أرتب التفاصيل بطريقة صحيحة، وربما النهاية تقودنا حتما للنهاية، لكننا نكتشف صدفة أنها فقط البداية

    هل تتحقق الأمنيات .. نعم تحصل وبطريقة مدهشة نكاد ننساها.. كانت من ضمن أمنياتي أن تقرأها .. كنت أتوق لهذا وأخشى أنها لم تروق لك..

    بعض الأشخاص يملكون جمالا ساحرا في استحضار النصوص ولديهم ذكاء واتقاد ذهني حاضر في نقد النصوص، وبراعة تحليلية تدهش المؤلف نفسه .. وبمنتهى العمق في حديثهم عن النص .. فهل هو حظ المؤلف أم حظ النص، لكنه بالأخير شيء يرمز للفرح في الطرق الضبابية ..

    ممتنة لك جدا دكتور يوسف الأستاذ والشاعر والناقد والصديق، ولعلك الوحيد صدقا الذي ملأني بهذا الحبور وتفاعل معي في الرواية بطريقة احترافية مهنية، حملت الكثير من تفاصيل النقد الموضوعي ..

    لا عدمتك ..

  2. يقول بيداء محمد:

    قرأت النقد كاملًا يا صديقتي
    وإني لأجد صاحبه منصفًا نزيهًا، لا يميل مع الهوى، ولا يؤطر نقده بمعرفة أو علاقة، وهذا الأمر جعلني أتابع المقال بشغف، ماذا سيقول هنا، وماذا سيعلق بهذا الخصوص و هل لاحظ هذا و ذاك و و
    وأحببتُ كثيرًا -بجانب تعداده لإيجابيات الرواية وجمالياتها-ذكره للأخطاء الصغيرة التي قد لايلتفت لها الشخص العادي، ولكنها لاتمر هنا مرور الكرام، لأجل من كتبها و من لاحظها وكان له حق النقد فيها..

    سعيدة جدًا بهذا النجاح الذي أحسبه نجاحي..
    ليورق قلبكِ
    وتخضرُّ أيامكِ يا صديقتي
    وليملأ الله حياتكِ بأُناس عدول محبين كـ د. يوسف

    ♥️♥️

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود