مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

وحيدة المي* تجلس سجود كامل الوقت في غرفتها، يعانق وجهها الجميل هاتفها المحمول، ت …

علبة العجائب

منذ سنتين

423

0

وحيدة المي*

تجلس سجود كامل الوقت في غرفتها، يعانق وجهها الجميل هاتفها المحمول، تنتقل أطراف أصابعها الصغيرة بخفّة ومهارة على الشاشة المضيئة، وبين الحين والآخر تصدر عنها شهقة إعجاب واندهاش فتغرق أكثر في عوالم الانترنت العجيبة.
منذ اشترت والدتها الجوال هدية عيد ميلادها السادس، وهي لا تتوقف عن استخدامه.

في عطلة نهاية الأسبوع تلزم غرفتها وتجالس الشاشة السّاحرة على امتداد اليوم، و خلال الأسبوع كلما عادت إلى المنزل بعد انتهاء الدروس تهرول إلى هاتفها بشغف كبير.
لم تعد سجود تطالع قصصها التي اختارت عناوينها من المكتبة رفقة والدها، لم تعد تُطيل النظر في مسبح السمكات الملوّنة داخل قاعة الجلوس، ولا تكتب رسالة بخط اليد لأفراد العائلة تعبّر فيها عن حبها لهم أو غضبها من بعض الأشياء.
منذ دخل الجوال غرفتها تغيّرت عاداتها، أصبحت قليلة الكلام ، والحضور، لا شيء من أشيائها الجميلة يشدّ انتباهها حتى زقزقة عصفور الكناري في الشرفة.
انتبهت الأم لهذا التغيير المفاجئ ،وكانت في كل مرة تدعو سجود إلى التقليل من استعمال الهاتف الذكي وممارسة الرياضة أو مشاركتها تنظيف مسبح السمك كالعادة ،لكنها كانت تؤجل كل شيء إلى وقت لاحق حتى الاستحمام وتناول الأكل.
– هذا الوضع لا يُطاق أنت تُبالغين في استعمال الهاتف ،سأنتزعه منك ولن أعيده ثانية!!

تنتبه الفتاة إلى تحذيرات الأم، تكتفي بالصمت، وتتوقف عن استعماله فترة قصيرة  ثمّ تعود إليه من جديد.
كانت في أيام العطلة تقضي اليوم في غرفة العجائب بين الألعاب، فهي طبية تزيل الأسنان المسوّسة، و طباخة تطهو الأطباق اللذيذة، ومصممة أزياء تَخيط أجمل الفساتين، وهي مجمّلة بارعة في تثبيت مشدّات الشعر ومساحيق الزينة،  وهي في نفس الوقت فتاة مقاتلة تتنقل بخفّة ورشاقة لتهزم خصمها.

كانت وهي تتقمّص هذه الأدوار مثل ساحر ينقر على الشاشة فتفتح غرفة العجائب بابها.

كانت بين الحين و الآخر تتلوّن وتتغيّر و تشعر أنها فتاة خارقة للعادة، بسبَّابتها تحرّك الشاشة وكأنها عصا سحرية فتشعر بسعادة لا مثيل لها.

لم تعد تصرخ بالبيت ولا تحتج ولا تقاسم إخوتها اللعب أو تساعد والدها في سقي الأزهار وشجرة البندق في الحديقة.

رن الهاتف بين يديها، جاءها الصوت حزينا:
-صباح الخير سجود
– من معي؟
– أنا صديقتك السّمكة، أشعر بوحدة في مسبح الزينة، أنا حزينة لغيابك كان حضورك كل صباح يؤنسني، أطلب منك إعادتي إلى البحر.
– انتظري …
اختفى الصوت وهي تتلفت حولها تحاول فهم ما يحدث
رن الهاتف من جديد، جاءها صوت الكناري باكيا:

– أنا حبيس لأجلك في قفص داخل الشرفة، تركت أعشاشي وسمائي الرحبة ورضيت بسجني لأجل سعادتك ،جعلتني وحيدا، هيا أرجعيني إلى الغابة…

ينسحب الصوت، ليرن الهاتف مرة أخرى وهي في حيرة شديدة:

– أنا شجرة البندق التي سقيتها بيديك ،نبتت أزهاري مثل العناقيد، ها هي تتدلى على نافذة غرفتك صفراء وحمراء وأنت لا تنتبهين، منذ أيام وأنا يقتلني العطش، ستموت فاكهتي ولن تجدي ما يزين حديقتك ويجعل أطباق الحلوى لذيذة.

لم تُمهلها الأصوات الوقت لتفهم ماذا يحدث؟.
رن الهاتف من جديد:

– أنا دفتر الأعداد حزين لأجلك كل علاماتك وأعدادك تراجعت فأنت في مرتبة أخيرة.

كانت أختها دعاء  تغيّر صوتها في كل مكالمة وهي في غرفتها،  فقد اتّفق أفراد الأسرة على إنقاذها من خطر الإدمان على الهاتف، و غرقها داخل هذه العلبة العجيبة.

ألقت هاتفها جانبا وغادرت غرفتها مسرعة تتفقد عصفورها ومسبح السّمك، خرجت إلى الحديقة كانت شجرة البندق السّامقة تستقبل دخول الرّبيع بأزهارها الجميلة…
تلمّست ريش عصفورها، غمست أصابعها في ماء المسبح تُطمئن سمكاتها، استنشقت رائحة زهرة البندق وتحسّست أوراقها الخضراء المستديرة.

كانت تشعر بسعادة  وكأنها عادت بعد غياب طويل.

جاءها صوت أمها هادئا:
– كل هذا الجمال الذي يحيط بك لن تجديه في علبة العجائب ولا داخل تلك الشاشة الوهمية يا عزيزتي …
قفزت سجود في أكثر من اتجاه تستنجد بأمها لتغيير ماء المسبح، وتنظيف قفص الكناري، وريّ شجرة البندق، ومراجعة دروسها حتى تتدارك ما فاتها.
منذ ذلك اليوم أدركت أن الهاتف الجوال يفتح أمامنا العالم المدهش لكنه يغلق الباب عنا و يعزلنا عن أحبابنا ويفتكّنا من عاداتنا الجميلة.

أصبحت أكثر انضباطا في مراجعة دروسها، ومطالعة قصة اليوم، وممارسة الرياضة والالتقاء بسمكاتها الملوّنة وعصفورها الطروب  وشجرة البندق التي تزيّن حديقة المنزل.

كاتبة _ تونس
https://www.facebook.com/elmay.wahida

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود