الأكثر مشاهدة

أشواق فهد الرقيب*   إن الاهتمام بالواقع ورصد متغيراته، والوقوف على أبرز العلل في …

المكونات السردية لقصة يوسف إدريس (نظرة)

منذ سنتين

996

0

أشواق فهد الرقيب*

  إن الاهتمام بالواقع ورصد متغيراته، والوقوف على أبرز العلل فيه كان الشغل الشاغل للقاص والروائي يوسف إدريس. إذ تجلى في أعماله تصوير الواقع والمجتمع المصري بصورة بسيطة، لكن يتخللها عمق فلسفي، وهذا ما نلمحه في قصة ( نظرة ) التي استطاع القاص من خلالها أن يرصد أهم العلل التي تنهش جسد المجتمع المصري. وهو الفقر، وعمالة الأطفال التي حالت دون ممارسة حقهم الطبيعي في اللعب. ونظرة الطفلة الخادمة لمشهد الأطفال وهم يتقاذفون الكرة، هو ما جعل يوسف إدريس يبني قصته على هذه النظرة الخاطفة التي تحمل في طياتها كثيراً من تناقضات المجتمع المصري.
في هذه القراءة الفنية للقصة (نظرة) نرصد أهم المكونات السردية، ونقف عند الثنائيات الضدية التي برزت بشكل واضح في القصة. إذ عمد الكاتب إلى إبرازها ليعزز قيمة المشهد. ويدلل بصورة مباشرة على تناقضات الحياة لاسيما بين مسألتي: (الفقر – الغنى، والظلم -العدل) وغيرها.
جاء الحدث في هذه القصة بسيطا، فالقاص يصف مرور الخادمة بشارع مزدحم حاملة فوق رأسها صينية بطاطس وخبز لتصل بها إلى منزل سيدتها. ورغم بساطة الحدث إلا أنه استطاع بلغته الفنية وأوصافه الدقيقة وعنصر التشويق أن يعمق الحدث. ويظهر التفاوت الطبقي في المجتمع المصري ومعاناة الطبقة الكادحة. فالخادمة الصغيرة كانت تقبض بيد من حديد على الحمولة المرعبة ولعل الهموم التي تحملها هذه الفتاة أثقل من الصينية بكثير. لذلك نجد القاص ينظر باستغراب إلى قدرة هذه الفتاة مع نحالة جسدها على تحمل هذا الحمل الثقيل.
ويمكن تقسيم شخصيات القصة إلى:
*السارد: وهو الشخصية الرئيسة التي ساهمت في تصوير المشهد الحكائي والمشاركة بتعديل بعض المشاهد كتعديل وضع الصينية فوق رأس الفتاة وتتبع خطواتها إلى أن اختفت عن ناظريه.
*الطفلة الخادمة: وهي الشخصية الثانوية المساهمة في بناء القصة، بهيئتها الجسدية وحالتها النفسية المضمرة في القصة، استطاعت أن تستحوذ على حواس السارد، ليبني منها قصة إبداعية.
*السيدة: وهي شخصية غائبة لم تظهر في النص ولكن مشار إليها في تصرفات الطفلة، وتمتماتها باسمها متوجسة من العقوبة، واستطاعت أن ترسم ملامح هذه السيدة المتسلطة.
*الأطفال: وهم على نقيض مشاعر حزن وخوف الطفلة، فمشاعرهم الفرح والسعادة والاطمئنان.
و القاص بلغته الفنية أبرز هذه التناقضات سواء كانت ظاهرة أم مضمرة.
إن لغة القاص برعت في أن تضعنا أمام صورة حية لما يدور أمامه، من حدث، وشخصيات، وفضاء حكائي.
ولعلنا نقف عند شخصية الطفلة والقيمة الدلالية الإيحائية الت تكشف بها معالم الفقر والمعاناة والألم وما تعانيه الطبقة العاملة في مواجهة الظلم والاستبداد. لقد حشد القاص كل قدراته اللغوية بما تحمله من دلالات رمزية في وصف معاناة الخادمة يقول:
“ولم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين وراقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة وقد تتمايل بعض الشيء، ولكنها سرعان ما تستأنف المضي”
هنا القاص من خلال قدرته اللغوية يصور معاناة هذه الطفلة بثيابها البالية التي تشبه قطعة قماش للتنظيف، ورجليها اللتين تطلان كمسمارين رفيعين وهي كناية عن الفقر الشديد. ويعمق هذه الصورة عندما شبهها بمخالب الكتكوت وهي تنشب في الأرض، وهي كناية على حرصها الشديد على تثبيت أقدامها في الأرض حتى لا يقع ما تحمله فوق رأسها.
  يوسف إدريس من خلال تصويره لملامح هذه الفتاة يضع يده على قضية مهمة وهي استغلال الأطفال في الخدمة وتحميلهم مسؤولية لا يتحملها الكبار. فوصف عينيها بأنها دوائر سوداء ضيقة تنظر هنا وهناك. ورأسها الصغير الذي حجبه الحمل فلا يكاد يظهر. ويختم قصته باستعارة مكنية تظهر فيها الحارة بهيئة حيوان أو كائن ضخم يبتلع الفتاة. وقد نزع القاص إلى البساطة في الأسلوب، والتصوير المباشر للشخصية دون التعمق في نزعاتها النفسية. كما لاحظناه، ولكنه يترك للمتلقي بعض الإيحاءات التي يمكن أن يتلمسها من تصرفات الشخصية ونظراتها التي تدل على قضايا وهموم أكبر من مجرد وصف.
لقد لعب الفضاء الحكائي دورا مهما في بناء معالم القصة وتصوير الحدث مشهديا، حيث صور القاص زوايا مختلفة من الحارة كاشفا ما تحمله من تناقضات واقعية. فزاوية لعب الأطفال ومرحهم. تقابلها زاوية الشارع المزدحم الذي تعبره الصغيرة بثبات مع ما تحمله فوق رأسها . كما ساهم التصوير المشهدي في تعزيز فاعلية الحدث. ويتجلى ذلك في تتبع القاص لخطوات الفتاة فالصورة البانورامية التي رسمها أمام المتلقي خلقت جوا من الترقب لما سيحدث.
ركز القاص على عدد من الثنائيات الضدية التي بدت واضحة منذ أول عتبة في النص وهي العنوان. فالنظرة هنا لا تعني نظرة الفتاة لزاوية لعب الأطفال فحسب، وإنما هي كذلك نظرة السارد للفتاة، وما تحمله على رأسها من مسؤوليات وهموم تفوق طاقة جسدها النحيل. وهنا تبرز ثنائية ضدية تتمثل في نحول جسم الفتاة وثقل الحمل فوق رأسها مما أفقدها توازنها عدة مرات حتى كادت أن تتعثر وتسقط.
كما تتجلى الثنائية في افتتاحية القصة حين تسأل الفتاة الصغيرة الرجل الكبير أن يعدل من وضع ما تحمله، فالفتاة لم تعبأ بالرجل سواء كان كبيرا أم غريبا عنها، بل كان همها الشاغل أن لا يقع ما تحمله، والقاص قد وضع عددا من الإشارا ليدلنا على معاناة الفتاة أمام ظلم سيدتها. يقول :
“ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل. وتلمست سبلا كثيرة وأنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج فتميل الصينية. ثم ضبطهما معا فيميل رأسها هي. ولكن نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان، نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه.
ولست أدري ما دار في رأسها فما كنت أرى لها رأسا وقد حجبه الحمل وكل ما حدث أنها انتظرت قليلا لتتأكد من قبضتها ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة (ستي) …”.
إن كلمة ستي تشير إلى سيدتها، ويبدو أن الفتاة لم تستطع تخفيف الحمولة بأن تعود إلى الفرن كما نصحها الرجل، بل تحملت هذا الثقل لكي تعود في أسرع وقت. والقاص يحيلنا إلى صورة أخرى أكثر عمقًا حين وصف نظرة الفتاة للأطفال بأنها نظرة طويلة امتصت كل حواسها فلم تشعر بالوقت بالرغم من حرصها سابقا على الوصول سريعا.
وتتمثل الثنائيات الضدية فيما يلي:
( الكبر/ الصغر، الفقر/ الغنى، العمل/ اللهو، الصمت/ الصراخ، الثبات/ عدم التوازن، الاستعجال/ التريث).
إنها تقابلات تحيل إلى واقع مليء بالتناقضات والتفاوت الطبقي والظلم والاستبداد يتجلى في معاناة هذه الطفلة وحرمانها من حقها الطبيعي في اللعب واستطاع القاص بلغته الايحائية أن يصور كل هذه التناقضات، ويقدم للمتلقي مشهد توجيه وإرشاد.

*ناقدة سعودية.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود