الأكثر مشاهدة

د.خلود عبد العزيز* تُعدّ دلالة السياق من أهم المباحث التي تناولها المفسرون والمح …

السياق المُنتج للدلالة

منذ 10 أشهر

251

0

د.خلود عبد العزيز*

تُعدّ دلالة السياق من أهم المباحث التي تناولها المفسرون والمحدِّثون والأصوليون لتعينهم على فهم النصوص والترجيح بين معانيها، والمقصود بالسياق: “ما يدل على خصوص المقصود من سابق الكلام المسوق لذلك أو لاحقه”، وهذا التعريف قد أفصح عن السياق وهو كونه متعلق بمجموع الكلام، ويعتبر فيه سابقه ولاحقه حيث إذا جُمِعَا تبين المراد منهما، وفُهِمَ الغرض وزال ما يَرِدُ على اللفظ من إشكال.

والقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان يخاطب الناس بمقتضى اللغة ويحيلهم إلى أساليبها، ومن أدلة اعتبار النبي – صلى الله عليه وسلم – للسياق دافعًا للإشكال الوارد على ذهن السامع قوله لعائشة – رضي الله عنها –  حين سألته عن قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون} (المؤمنون:60). قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَال:” لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُم وقال: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون} (المؤمنون:61) “.

فالآية إذا نُظِرَ إليها مفردة، نجدها تحتمل معنيين: أحدهما: ما ذهبت إليه عائشة، وهو أن الآية في أهل المعاصي الذين يرتكبون المعاصي وقلوبهم وجلة مما فعلوا، وإذا نُظِرَ إليها في سياقها تنتج لنا الدلالة التي بينها النبي – صلى الله عليه وسلم -، فاستدل النبي – صلى الله عليه وسلم –  بلاحق الآية، وهو ما يليها على تحديد الدلالة الظاهرة ودفع المعنى الناتج عن اللغة بمعزل عن السياق.

ومنه كذلك ما روى ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون} (الأنعام:82). شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} (لقمان:13)”.

فإن النبي حين دفع الاشكال والالتباس الدلالي الذي قد يرد على آية أخرى، فإنه يحيل إلى السياق المتقارب، وهو أن الحديث كله عن الشرك، فلذلك خصّ الظلم بنوع من أنواعه، فسياق الآيات كان عن قصة إبراهيم ومحاجته لقومه على شركهم ودعوتهم للتوحيد، فكان النبي – صلى الله عليه وسلم – في جوابه محيـلًا إلى السياق، وإن كان قد استشهد بسياق أوضح منه.

وقد التزم الصحابة نهج النبي – صلى الله عليه وسلم – في النظر إلى السياق المنتج للدلالة، واستدلوا به على أمور كثيرة، ورجحوا به بين المحتملات الدلالية المتعددة.

ويهتم المفسرون بالسياق القرآني؛ الذي يعدّ اللَّبِنَةَ الأساسية التي تنهض عليها قواعد التفسير؛ ولذلك كشف الإمام الطبري عن تفسيره للقرآن وأنه ما كان إلا سائرًا على النهج المعتبر للسياق فقال: “فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى”.

وللمفسرين جوانب عدة في استخدامهم السياق؛ سياق القرآن عمومًا، وسياق السور، وسياق المقطع، كما رجَّحوا به بين الأوجه المحتملة في تعيين المعنى المراد من اللفظ اللغوي الذي يستعمل لعدة دلالات محتملة، واستعانوا بهذا المنهج على ترجيح القراءات، ومن أمثلة ترجيح اللفظ المتسع الدلالة؛ لفظ الصلاة، فقد ورد بمعانٍ متعددة في القرآن كلها تتضح بالسياق، فقد ورد بمعنى الاستغفار كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} (التوبة:103). فهي هنا بمعنى الاستغفار، كما ورد بمعنى المغفرة في قوله تعالى: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون} (البقرة:157). أي مغفرة. والصلاة بمعناها الشرعي كما في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} (طه:14). فهي هنا بمعنى الصلاة المفتتحة بالتكبير المختومة بالتسليم.

وفي قوله تعالى: {…صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَات} (الحج:40). فالصلوات هنا المراد بها أماكن الصلاة.

وعليه، فقد عُني المفسّرون كثيرًا بدلالة السیاق لما لها من قيمة بالغة في تفسير كلام الله تعالى، فهي أصل ثابت من أصول هذا العلم.

أما فيما يختص بالسیاق القرآني الذي يظهر دوره في إنتاج الدلالة من خلال سیاق الآیة الواحدة حیث یأتي اللفظ مستقرًا في موضعه مع غیره من الألفاظ، فیكون من الألفاظ ما هو أنسب لمدلول السیاق تحقيقا للانسجام المعنوي. وتعدّ المناسبة صورة كلیّة إلى النص القرآني بوصفه متكاملاً، ترتبط أجزاؤه وتتكامل بعضها ببعض، إمّا على المستوى الشكلي أو على مستوى المضامين، 

كما أن للسياق دور في استنطاق العبارات وتبيان معانيها حسب مناسبة القول فمدلول لفظة واحدة يوجب العديد من المعاني التي تُكتشف عن طريق التفسير والتأويل.

 

* ناقدة وأكاديمية سعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود