الأكثر مشاهدة

محمود سليمان*  اللغة هي إحدى مقومات النص، والشاعر الحديث يفهم كيف أنَّ اللغة هي …

لاتجرح اللغة: قراءة في قصيدة ” لا تجرح الماء” للشاعر أحمد قران

منذ سنتين

732

0

محمود سليمان* 

اللغة هي إحدى مقومات النص، والشاعر الحديث يفهم كيف أنَّ اللغة هي المقوم الرئيس للعبة الشعرية وأنها البناء الذي يمكن أن تؤول عليه أكثر من غيرها، فأخذ على عاتقه تهذيب هذه اللغة وتطويعها لأن تكون حاملة الدلالات وفقاً لإدراكه الحسي والجمالي الخاص دون تناقض مع مدركات الواقع المعاش، لأنَّ هَم الشاعر وهدفه الرئيس عند كتابة نص حداثي جيد هو أن تصل مشاعره وعواطفه الجياشة عبر لغةٍ جديدة وناجزه تستطيع أن تثير فينا عواطف مماثلة.

وكما يقول الناقد حاتم الصكر في كتابه “الاستهلال”(1) أنَّ نظريات نقدية كثيرة عالجت القصيدة الحديثة، وكيف تحورت الكلمة الشعرية من معناها القاموسي ومن صياغتها التقليدية، وكيف بنت علاقات جديدة عندما تحولت علي أيدي الرومانسيين إلى علاقة خارجية ونفسية، فاحتوت التبادلات، وحملتها كما لو أنها تكشف عن علاقات دفينة بين الإنسان ومحيطه، وكيف أصبحت في الشعر الحديث محوراً فاعلاً في التفعيلة عندما اقترنت بالنبرة العالية الهادئة حتى أنها تحولت في هذه الحالة إلى صياغة مكانية للصوت، وضمن هذا السياق شُحنت الكلمة بمعطيات العصر وثقافته وتحولاته وقَيّم الشعر نفسه فأصبحت مركزاً للصورة.

واللغة هي التي تصوغ الصورة لتشكّل الواقع لا من خلال الاتساع المجازي ودلالاته فقط وإنما من خلال قدرة اللغة ذاتها على رصد ذلك الواقع والتأثير فيه والتعبير عنه بحياديةٍ دون إغراق أو جفاف، فإذا كانت الصورة الشعرية ملاذاً آمنا للتعبير الجمالي فإن اللغة وحدها هي التي تهندس ذلك الجمالي وتُمنتجه دلالاتٍ متحركة فضلاً عن “أنَّ الانفعال في الشعر لا يتوسل بالكلمات وإنما يتوسل بوحدة تراكيبية معقدة لا تقبل الاختصار نطلق عليها الصورة”(2)

 في الممرات شيخٌ يلملم ما ظل من وجههِ، 

نسوةٌ لم يثرثرن بعد، 

وطفلٌ يداعبُ أشياءه، 

فتيةٌ آمنوا بالغوايات، 

كوبٌ رديء الصناعة، 

سلسلةٌ من ملفات ثبتُ الهويةِ، 

نملٌ يُخَزِّن قوتَ الشتاء، 

وقولٌ ركيك لساعي البريد المُحَمَّل بالأغنيات، 

وظلٌ شحيحٌ يداعب أنثى على حين شكٍ مريب، 

وجسمٌ كئيب كقينة الحبر، 

يرمقُ حسناءَ تلمعُ في خدها قبلة الحب 

في حين يشعلُ سيجارةً بامتعاضٍ لذيذ / “أبواب مشرعة للتأويل” ص 59.

كذلك إذا ما اتفقنا عليه من أنَّ اللغة ظاهرة فسيولوجية معقدة لعلاقتها بحركة اللسان والفم وإيماءات الجسد وتعبيراته وحركاته وما إلى ذلك، كما أنها ذات علاقة مباشرة وحادة في إثارة المشاعر والأحاسيس والأفكار فإنَّ اللغة في هذه المجموعة كائنٌ له تفاصيله ودهشته.

مذ غوتني في متاهاتي

إلى أن أثخنتني بالهوى حُمَّاي،

واشتقتُ رفاتي،

لا تلومي الريح لو تغدو سرابي،

كلُّ ما وجهتُ نبضي نحوها أدمت فؤادي،

خاصمتني الريحُ،

والصوتُ المنادي بُحَّ،

والليلُ الموالي لا يراني في كتاب الوجد،

والنورُ المغالي شَحَّ، . تواشيح ص 64.

لقد جاءت الأنثى بكامل أشكالها وتجلياتها حاضرة بقوة في ديوان ” لا تجرح الماء” ، ليظل الآخر” أنثوياً” يقدمه الشاعر كذات جامحة وكصورة للذوات جميعاً وقناعاً شفافاً يكشف أكثر مما يخفي ليصير النص عند أحمد قران الزهراني فضاءً رحباً لعدة نصوصٍ دفينة ومتراكمة داخل النص الواحد.

لا علم لي أنَّ بعض الوجوه لها سحنة العارفات، كاريزما جميلات هوليود، سحر فرعون، عمق الكتاب المقدسِ،والراهبات الـ يغنين في مولد الأنبياء. ص ـ20

صوت الأنوثة في مبتدا الليل

القصيدة أنثى تراقص مرآتها

صورةُ الأنثى الخطـيئةُ

لربما أخذتك صورةُ نسوةٍ في لوحة الإعلان

كل ما في الأمر أنثى ومكيدة

أنثى وأنثى ، وأمٌ بريئة ، قمرٌ وأنثى 

أنثى على وجلٍ تحاول أن تعيد كتابةَ الأسماء

لكنها مثل أنثى تجيد الغوايات.

إنَّ الصورة الشعرية تتوالد، والبُنى التركيبية للنص تكشف عن حسٍ صوفيٍ جلي، فاللغة الشعرية التي نعني بها كل أدوات الشاعر التي جعلت نصه قادراً علي إثارة المتلقي هي عدة روافد ثقافية وفلسفيةٍ وتراكمات لمخزون تراثي بلاغي ومعرفي أُعيد إنتاجه لخلق نص مغاير ومختلف بدلالاته المتعددة، ربما كما يقول الشاعر”عبد العزيز المقالح” عن قصيدة أحمد قران الزهراني لما توافر لهذه القصيدة من ملمح استثنائي في استخدام اللغة في تعاملها مع جواهر القضايا وجوهر الأشياء، يضعه ضمن أبرز شعراء الموجة الأحدث من شعر قصيدة التفعيلة.

أرى مهرةً تسبق الريحُ في خفقها

حين تخطو على الماءِ

من دون أن تجرح الماءَ

لا تجرح الماءَ

لا تجرح الماءَ

تأتي كما الليل،

يقرأُ بعضَ الوجوه

فلا عين لليل،

قد قيل: لا عين لليل

تأتي كطفلٍ شقيٍ يداعبُ ما يستلذ

فتى صاخبٍ لا يرى الله

شيخ يؤسس في سجدتين لمثواه

مثلي أفكر.. ما المنتهى للخلود. ” لا تجرح الماء” ص 46.

لكن أي ماء يمكنُ أن تجرحه، وكيف يكون جُرح الماء، اللحظة هنا هي محل (الرؤية) / ( يرى )

أرى مهرةً…، تسبقُ…، تخطو…، دون أن تجرح

كما أنها لحظة ( التأمل) / ( يقرأ ) فهو يكمل قصيدته ( يقرأ بعض الوجوه) أي وجوه، وكيف قرأتها، وكأن لدى الشاعر سبب ( للتأمل / القراءة ) لأنه على حد تعبيره لا عين لليل ، ثم يكمل قصيدته ، قد قيل :و”قد” حرف تحقيق “قيل” فعل ماض مبني للمجهول، فهو غير متأكد ليعود إلى حالة (الرؤية) تأتي كطفلٍ شقيٍ، كفتىً صاخبٍ ، كشيخٍ ، لتنتهي القصيدة مع الذات الشاعرة ( المتأملة ) 

مثلي يُفكِّرُ … 

ما المنتهى للخلود.

ربما الشعر هو الخلاص الوحيد لدى الشاعر وهو الوسيلة المناسبة للبحث عن المطلق والولوج من خلاله إلى الواقع، فنلحظ أنَّ كلمة ( الماء ) في ديوان أحمد قران ليست موضوعاً للشعر ولا فكرة خالصة لمعناه، وإنما صياغة كلمة (الماء) ليست إلا حالة ضمنية يُصَدِّر بها الشاعر عنواناً عريضاً لديوانه ( لا تجرح الماء) استلها من داخله الأكثر عمقاً والأكثر رهافةً في قصيدة تفعيلية حديثة.

*شاعر وكاتب مصري 

 

– ديوان ( لا تجرح الماء) للشاعر أحمد قران الزهراني. 

– من قراءة نقدية لديوان “لا تجرح الماء” للشاعر السعودي أحمد قران الزهراني .

 – من كتاب جديد قيد الطبع بعنوان” قراءات في قصائد سعودية” 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود