مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

عبد القادر الغامدي* هل أنت خائف؟ وحينما لم أجبه أردف قائلا: لا تخف فهذا النوع من …

غرفة العمليات

منذ سنتين

125

0

عبد القادر الغامدي*

هل أنت خائف؟
وحينما لم أجبه أردف قائلا: لا تخف فهذا النوع من العمليات وغيرها أصبح أمرا اعتياديا.
قالها مبتسما وهو يربت على كتفي، ثم التفت إلى رئيس فريق التمريض قائلا: جهزوا الحالة لدخولها إلى غرفة العمليات بعد ساعة من الآن.
عبارة ألقى بها كبير جراحي المخ والأعصاب وذهب؛ ليتركني أسبح في بحر من تساؤلات مخيفة.

ساعة فقط تفصلني عن حدث ماكنت مستعدا له، ولا حتى لتخيله.
بعد ساعة سيفتحون جمجمتي ويفصلونها عن رأسي، ثم يضعونها جانبا كقبعة صياد؛ سيفتحون جمجمتي كما نفتح رأس الخروف في الولائم؛ لنستخرج منه المخ الذي نتلذذ بأكله بل نتسابق عليه.
بدا لي مخي المسكين أمامي، وتراءت لي الصورة مخيفة وبشعة
حينها لمع بمخيلتي سؤال يقول:
ماذا لو تحول هؤلاء الأطباء إلى آكلي لحوم البشر والتهموا مخي؟!
خرجت من بوتقة هذه التساؤلات إلى تساؤلات أخرى أكثر عمقا وانغماسا في ما سيفعله هذا الفريق الطبي حين يفتحون غطاء هذا الرأس المستدير، فيرون كل تفاصيل حياتي منذ الولادة حتى اللحظة ويستعرضون محطات حياتي في صور.
يسمعون صوتي طفلا، فصبيا، ثم شابا، فرجلا قد بلغت الستين.
هل سيكتشف هذا الطبيب ورفقاؤه ما خبأته طوال سنين عمري؟!
هل سيرون صورتي طفلا؟!
وأنا أخبئ بيض دجاجات جدتي زرعة التي كانت ترسلني لأجمعها، فأخبئ من كل أربع بيضات واحدة في جيب ثوبي المبقع؛ لبيعها في سوق الخميس دون علمها المسكينة.
وكيف سرقت من سحّارةِ عمتي علياء بنت العالي الكفيفة مبلغ خمسين ريالا لشراء الحذاء الرياضي الذي كان منتهى حلمي في الصف الثاني المتوسط؛ كوني يتيما لا يمكن أن أجمع مبلغا كهذا.
كم أتأمل فعلا أن يشاهد هذا الجراح وهو يستأصل ذلك الورم اللعين من مخي الذي أفقدني القدرة على الحركة والكلام مدة عشر سنوات عجاف صورا لمعاناتي حين كنت أحاول فقط أن أنش الذباب عن أنفي ووجهي فلا أستطيع وكم كنت أتعذب من ذلك الذباب الذي لا يزورني عادة إلا حين غفوتي؛ ليحيلها إلى معركة شرسة محاولا إبعاده عن وجهي.
تنتهي معركتي تلك غالبا بالدموع التي أدفنها في صدري دون أن يدري أحد سببها ممن قد يراني متلحفا دثار الصمت.
تساؤلات متداخلة لها أول وليس لها آخر تدور في خلدي هذه اللحظات
خاصة حين أخبرني الطبيب أنه بإمكانهم معرفة كل إشارات الدماغ لجميع أجهزة جسدي النحيل وتحليلها وفك رموزها.
ياااااه ..
أظن أن ما سيُبكي الفريق الطبي حتما كما أبكاني طويلا دموع قلبي الصامتة دون إذن مسبق من ذلك الدماغ الذي يرسل تنبيهاته وشاراته الصارمة لكل عضو في جسدي الشاحب.
بينما أتجول داخلي وقد انغمست في دهاليز تساؤلات منهكة
إذا بالممرضات يأتين باللبس الذي أوصى به ذلك الجراح الذي لا أظنه يفكر بأي شيء مما يشغلني، لاسيما أن حالة كحالتي هذه، قد مرت وستمر به، حتى أضحى الألم له ولرفاقه معتادا لا يحرك فيهم شيئا.

كانت زرقة بدلة العمليات باعثة شيئا من بوارق الأمل في نفسي أن تمر هذه العملية بسلام ،وخاصة أن الجراح أكّد لي أن مثل هذه العمليات بات سهلًا جدًا.
راجيًا ألا يجد الفريق الطبي كل ما خبأته من أخطاء أو عملته في حق غيري بقصد ثم ندمت عليه، كما حدث مع عمتي الكفيفة.

تلبسني الممرضات تلك البدلة الزاهية ذات المربعات الصغيرة، أعلو سريرًا طويلًا واضعًا قبعة مخملية شفّافة على رأسي
يتجهن بي صوب غرفة العمليات.
بينما أكتفي بتفحص وجوه المارة في الممرات، أتابع في صمت مهيب بعض الهمهمات وأسمع وقع خُطاً لوجوه بدت لي غريبةً، وكأني لم أرها من قبل.
أدخل غرفة العمليات، فيلسع جسدي الأسمر النحيل بردها القارص.
أتأمل تفاصيلها الصغيرة من أجهزة مستديرة، وأخرى لولبية، وثالثة مجوفة.
ينسيني تأمل هذه الأجهزة الغريبة برودة الغرفة منتظرا ماذا سيحدث لي.
حينها يأتيني رجل ضخم لابسا كمامة خضراء، يدنو مني هامسا: لا تخف سنقوم بتخديرك بالكامل.
أشير بالموافقة له، جاهدا في رسم ابتسامة زائفة أسمعه يقول: خذ نفسا عميقا، عد من واحد إلى عشرة.
أغمض عيني. أكتفي بشهيق عميق ناطقا الشهادتين في صمت؛ لأدخل بعدها في غيبوبة المخدر الكامل.
كانت إغماءة غريبة لا أستطيع وصفها، فقد استرجعت كل تساؤلاتي، وسمعت كل صوت لي في رحلة الحياة، وتمثلت محطات حياتي جميعها لي بشكل عجيب وكأنني أستعيد ما كنت أهرب منه قبيل إجراء العملية.
أفيق من المخدر على صوت كبيرهم مخاطبا فريق عمله وبعض طلاب الامتياز فيما يبدو لي في ابتسامة لم أستطع فك رموزها:
قلت لكم إن عملية استئصال أورام المخ بالتقنية الحديثة سهلة للغاية.

لكن ما أثار دهشتنا فعلًا هي تلك الشرائح الصوتية التي حصلنا عليها وفيها أصوات رغبات المريض المبعثرة حينا، الحزينة أحيانا، وتلك المشاهد المتمايزة التي شاهدناها لحياته.
ثم التفت إليّ متابعًا حديثه: 
قد كانت حياتك مدهشة وممتعة وخاصة مرحلة طفولتك التي اتضح كم هو الانتماء بين ذاتك وبين قريتك الصغيرة التي رأينا صورها الخلابة تترى أمامنا.
كم أحببناك طفلا وصبيا وتعاطفنا معك كهلا وتصادمنا مع تصرفاتك رجلا حادا.
كان يسرد ما شاهده داخل دماغي من تفاصيل، بينما كنت أتابعه في صمت لا يخلو من غرابة انعكست على محيّاي.
انتقلت بعدها إلى غرفة التنويم في الطابق الخامس، مجاورا لعجوز قلما كان يصمت من وجع كسور أصابته كما أرى.
كان يئن المسكين طوال الوقت أنينًا ذكرني بأنين طالما عشته ليالي طويلة.
بعد يوم كأنه عمر، يأتيني كبير الجراحين هذه المرة برفقة الفريق الطبي الذي أجرى العملية للاطمئنان عن صحتي.
يسألني هل لديك أية تساؤلات أو شكوى؟؟
ما علم أن سؤالًا وحيدًا هو ما أريد الإجابة عنه.
خفت أن يغادر ولا أحظى برؤيته مجددًا خاصة أن جدوله ممتلئ بالمواعيد، حينها تجرأت فسألته:
ما أغرب ما مر بك يا دكتور في تلك اللوحات الحياتية لمريضك الماثل أمامك الآن؟!
بعد لحظة صمت ليست بالقصيرة وهو ينظر إلي أجابني: 
-من هو الرجل الذي كنت تردد اسمه وتناديه طوال فترة العملية؟؟
قد كانت صورته ضبابية أمامنا أشبه بحلم.
– وما حكايته التي لم نستطع مشاهدة صورها أو فك شفرتها؟؟
أجيبه: إنه جدي العظيم يا دكتور، وما حكايته سوى حكايتي.
يرد عليّ بابتسامة لا تخلو من عطف: لا أستغرب حين تحب جدك كل هذا الحب.
ثم يردف: كم أرجو أن أسمع منك بعد يومين مالم أستطع سماعه ولا مشاهدته أنا وفريق العمل في غرفة العمليات عبر التقنية الحديثة.
ولكن قبلها وقِّـعْ على خروجك بعد أسبوع فقط من الآن، ولا تنس أن تقرأ تاريخ إجراء عمليتك جيدًا
فهو تاريخ -بلا شك- مميز ولا يمكن نسيانه أبدًا.

*كاتب من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود