الأكثر مشاهدة

نجاح إبراهيم* يهتمّ الكاتب واسيني الأعرج بشخصيات نصوصه السردية إلى درجة الانهماك …

“أصابع لوليتا” قراءة نقدية

منذ سنة واحدة

540

0

نجاح إبراهيم*

يهتمّ الكاتب واسيني الأعرج بشخصيات نصوصه السردية إلى درجة الانهماك، يرسمها من الداخل والخارج بشكلٍ لافتٍ دون التوغل في تفاصيل مملة، ينتقيها من شريحة خاصة لتستطيع أن تحمل قضايا مهمة تؤرقه فيودّ الكاتب طرحها. وقضايا واسيني معروفة في كلّ منجز أدبيّ له، هي قضايا الشعب الجزائري وهمومه، سواءً أكانت قضايا سياسية، أم اجتماعية، أم ثقافية.
لذا فهو يتكئ على شخصيات واقعية ينتشلها من التاريخ الجزائري، شخصيات مهمة لها وقع على فئات الشعب، ثم يخلق شخصيات أخرى توازيها في الثقافة، وربما المكانة، قادرة على التحاور معها. فالحامل الأساسي في نصوصه كلّها هو المثقف؛ الشخصية التي يعتمدها محوراً لروايته.
وشخصية المثقف هذه التي ينتقيها، كثيراً ما تكون الكاتب ذاته، يعطيها الكثير من آرائه وأفكاره؛ حتى سيرته الذاتية، فهو يحيلها إلى مبضع جراح يتقن ولوج الجرح ونكأه بغية استئصال ما فسد منه.
في رواية “أصابع لوليتا” المؤلفة من خمسة فصول: ( خريف فرانكفورت- انتظار على حافة النهر- رماد الأيام القلقة- صحراء الفتنة والقتلة- فصل في جحيم التيه.) والتي يمتد متنها السردي على  مدى ( 463 صفحة )  من القطع المتوسط. في هذه الرواية ثمّة مثقف/كاتب يدعى يونس مارينا، وهو اسم مستعار لشخص يدعى حميد السويرتي، اختاره الكاتب ليحتمي به من المطاردة الأمنية، ويونس مارينا بطل الرواية يساري، يكتب مقالات سياسية في الجزائر، يكشف من خلالها فضائح جرت في التاريخ السياسي الوطني للبلاد بعد الاستقلال. ومن غير الصحافي الجريء الذي يستطيع قلمه أن يقول كلَّ شيء للعامة فتتأثر به؟   
هذه الشخصية باتت مطاردة من السلطة السياسية التي انتزعت الحكم إثر انقلاب قام به العقيد هواري بومدين، الذي استلم السلطة بعد أن زجّ بالرئيس أحمد بن بلة في السجن، وذلك بعد استقلال الجزائر عام 1965م بثلاث سنوات، وبما أنّ أي مثقف يكره الانقلابات والحركات المناوئة للاستقلال والحرية، فإنّ الكاتب اعتمد على شخصية يونس مارينا التي جعلته يقف موقفاً رافضاً للحركة الانقلابية، متمثلاً بذلك موقف كلّ المثقفين اليساريين الذين كانوا يلتقون في مقهى خاص بهم، يتداولون الأحاديث في همّ سياسي.
تبدأ الشخصية بإرسال حمم قلمها حين نزلت الدبابات في الملعب على أرض مدينة في الجزائر، فظنها يونس مارينا أنها ستجري مشهداً تقوم بتصويره من أجل فيلم يسرد أحداث الثورة الجزائرية، التي انتهت منذ ثلاثة أعوام باستقلال البلاد من الحكم الفرنسي. ولكن الدبابات لم توجد لغاية التمثيل، وإنما كانت لمهمة وطنية جزائرية، يقودها العقيد وذئابه، بقصد تصحيح الثورة على حدّ زعمهم، بيد أنهم لا يقومون بهذا الفعل إلاَّ لسرقة الاستقلال من الشعب، لهذا كان عليهم بادئ ذي بدء إبعاد الوطنيين والمناضلين والمثقفين عن الساحة السياسية واقتفاء أثرهم وإبادتهم.
راح يونس مارينا يجاهد في فضح المستور، فضح ممارسات العقيد وأزلامه  بحقِّ الجزائريين، ورئيسهم الذي غيبه السجن ومورس بحقه الحيف، وعُذّب بشكل لا يوصف حتى تمّ إنهاؤه بطريقة مروعة: “كانوا يريدون قتله في صمت وعزلة، للعقداء سياسة غريبة في ذلك، يأخذون الشخص، ثم يسكتون عنه مثلما يفعل الموت، حتى ينساه الناس، وبعدها يفعلون ما يشاؤون به، يمزقونه، يمنحونه هدية للكلاب، يأكلون لحمه.”ص92.
من  الملحوظ أن ثمّة همّاً سياسياً واجتماعياً وفكرياً، جند واسيني الأعرج بطله يونس مارينا حاملاً لهذا الهمّ بوصفه مثقفاً، ومن خلاله طرح كلّ القضايا التي تهمّ الجزائر وطناً وشعباً.
فهي شخصية مثقلة بالوعي، متسربلة بالتحرّر، لهذا فهي قادرة على الفعل لا الانفعال، على التأثير لا التأثر. بيد أنّ قدرها كان الهروب إثر ملاحقة الفئة الطاغية، استطاع يونس مارينا وبعد خطفه ووضعه في ماخور أن يهرب إلى أوربا.
تخلص من ملاحقة العقيد، ليلاحق بعدئذ من قبل مجموعاتٍ إرهابية بسبب كتاباته الروائية، إذ تحوّل في المنفى إلى روائي كبير يشار إليه بالبنان، فروايته (عرش الشيطان) جعلته في رأس قائمة المطلوبين من قبل هؤلاء المتشددين.
لم تكن الشخصيات التي تناولتها الرواية بأقل شأن من بطلها يونس مارينا، لقد زرع حولها شخصيات مثقفة تحملُ مع البطل كثيرًا من هموم الوطن لتمضي الأحداث إلى النهاية محققة هدفاً معيناً.
فشخصية لوليتا – مثلاً – أدهشته بكلّ شيء حتى قال يونس مارينا عنها: “لا يمكن أن تكون امرأة حقيقية، إنها ولا شك ورقية..”ص47.
ومع أنها تبدو صغيرة السن، فإن الكاتب امرأة محنكة، نحتت من كمّ هائل من النساء، فهي تجيد فهمَ كلّ شيء: الحياة، والتجارب التي مرّت بها، والفنّ والسياسة والأدب والإرهاب والدين…
يستند الكاتب إلى هذه الشخصية التي تعيش أزمة داخلية مربكة ليقول إنَّ المرء ينسلخ عن أسرته ليبدأ بحثاً عن حماية جديدة.
تمكن الكاتب من قول الكثير من خلالها، كاختراق الأعراف العربية في ترك المرأة تعيش وحيدة في مجتمع غربي فتستغل أبشع استغلال.
هذه  الشخصية تدفع الكاتب إلى أن يستدعي أمامها ماضيه، ويبسط حاضره، ويكشف المستقبل الذي بتر عند كليهما. ومن خلالها أيضاً راح يرصد أدق تفاصيل الإشكالية للعلاقة بين الرجل والمرأة، بين الحب والكراهية، بين الخير والشر، بين الاستقرار والضياع، بين الأمان والإرهاب، بين الحرية والاستعباد، كاشفاً عن عالم كبير غير مؤطر ولا يقتصر فقط على تلك المتناقضات، وإنما يفصح عن هواجس إنسانية كبرى جراء علاقة حبّ عصفت بالبطل الذي تجاوز الستين من عمره بفتاة شابة لم تتجاوز الخامسة والعشرين. تعيد هذه العلاقة له الأمل بالحياة، والرغبة في العطاء لما تمتلك هذه المرأة من قدرة إغوائية في القول والفعل، تقول له: “هل تدري حبيبي أني كلما وضعت أصابعي على ملامس البيانو أحسست بك هنا وسط مساحة من النور واقفاً على حافة قلب.”ص401.
لوليتا القادرة على العطاء لرجل وصل حدود اليباس على الرّغم من أنها فقدت الكثير، فقدت عذريتها على يد والدها الذي تنكر لها ولاحقته عبر قضاء دولي، خسرت أخاها وأمها التي رفضت أن تصدق ما فعله الأب، خسرت حنان الأم ودفء العائلة، وكذلك خسرت حبّ شاب استعاض عنها بدمية سيليكون، ثم غاب نهائياً منتحراً جراء الأزمات النفسية.
ثم يباغتنا النصّ مظهراً أنها دمية في يد الإرهاب؛ جاءت لتقتل البطل يونس مارينا في ليلة رأس السنة الميلادية، ولكن حبها الكبير له منعها من ذلك، وما عليها إلاَّ أن تفجّر نفسها في الشارع لتضيء شظاياها المكان، ويونس مارينا ينظر من النافذة مندهشاً لما يرى.
كذلك جعل الكاتب شخصية إيفا المترجمة لأعماله الروائية، حيث جعلها من خلال تجربتها وثقافتها تبثه معرفة وتفيض خبرة، فنجدها تبدي رأيها في كلِّ شيء.
وازميرالدا وماجدولينا التي علمته معنى الحياة …
بينما شخصية الريس بابانا التي نال منها التعذيب ما نال، وظلّ صابراً يقاسم ذبابة الحياة والأمل في سجن صغير انفرادي يدعو إلى الجنون والرّغبة في الانتحار بيد أنه…..ص12.
ولا ينفك الكاتب يشعلُ نصّه بشخصيات مهمة وطنية، فها هو ذا يستحضر شخصية والد يونس مارينا، الشخصية التي دفعت ثمناً غالياً لمواقفها من أجل الجزائر، كما استحضر شخصية أمه التي تمثل المرأة الجزائرية الصابرة والمناضلة التي خسرت الزوج والأولاد من أجل البلد، وكذلك يستحضر شخصية من العهد القديم رافقت نبياً، هي المرأة التي عاصرت سيدنا عيسى حيث: “أنقذها سيدنا المسيح من الشياطين السبعة ثم مشت وراءه في رحلته القاسية حتى تحولت إلى واحدة من أهمّ أتباعه، وكانت حاضرة في صلبه.”ص398.
الكاتب واسيني الأعرج قال الكثير من خلال شخصياته الواعية التي تستوعب ما يدور حولها وتفهم الحياة بكلّ أشكالها، شخصيات تشبهه تماماً فهو الكاتب الذي يعرف كلّ شيء لأنه المترف بالعلم والثقافة والإبداع صاحب مقولة قالها على لسان يونس مارينا: “التجربة علمته أنّ كلّ نصّ يأتي حاملاً حياته وبذور موته ويقينه في داخله، ولا أحد يعرف السرّ.”ص18.
رواية “أصابع لوليتا” تقدّم نصّاً إبداعياً مفتوحاً على أكثر من جنس أدبي وفني، شأن الكاتب واسيني الأعرج الذي يجعله خليطاً من كلّ الفنون والأجناس الأدبية…
فهو يضعك بنصوصه أمام الأدب ورأيه فيه، و قد جاء في الرواية: “تذكر مارينا يومها من أنّ في أعماق كلّ فنان شيئاً من حرفة الأدب.”ص19.
وقدم عصارة من فكره بالأدب فيقول: “الأدب الجميل مثل الحب الخاسر لا يسعد فقط، ولكنه يجنن صاحبه ومتلقيه أحياناً.”ص48.
ومن ثمّ فحين كان كاتباً متمرساً فإنه لم يبخل في أن يبدي آراء أخرى حول الكتابة، فيقول على لسان يونس مارينا لإيفا مترجمة أعماله: “جميل أن تكون الكتابة هي الحاسة التي توقظ أشياءنا الدفينة الرائعة، أو ربما تذكرنا أيضاً بوحشيتنا المقيتة و بأدفأ  نقطة فينا أيضاً:”ص52.
ثمّ إنّ نصّه هذا يجعلك متذوقاً للفنّ التشكيلي، إذ يجعل لوحة الذبابة تأخذ حيزاً من سرده.
و يتقاطع نصّه كذلك بشيء من نصوص عالمية مرّ بها القارئ كرواية لوليتا الشهيرة للكاتب الروسي فلاديمير ناباكوف، فالكاتب يذكر بطلي الرواية لوليتا والكهل همبر، حيث استخدم اسم البطلة وبعض تصرفاتها، واغتصابها ليس من قبل زوج أمها كما في رواية ناباكوف، وإنما من قبل والدها.
و يستحضر رواية العطر لزوسكيند فيقول: “أثاره من جديد العطر نفسه الذي كان يأتي من مكان ما من جوانب المعرض الذي بدأ يفرغ من زواره، رفع رأسه كالذئب وهو يتحسس المصدر الذي لم يكن بعيداً، أدار عينه في كلّ الاتجاهات واستنفر كلّ حواسه كالحيوان البري، ليتتبع أثر العطر الهارب.”ص31.
فمن يقرأ هذا المقطع يخاله لبطل رواية العطر وهو يقتفي أثر عطر ضحيته.
ونرى – أيضاً – أنّ ثمّة تلويناً لفنون أخرى، كالعزف والموسيقى والغناء والفن التشكيلي الذي أخذ مساحة من السرد لا يستهان بها: “مارشيلو كان أكبر مقلد للوحات القرنين السادس عشر والسابع عشر لكنه ليس مهماً..”ص399.
كما لا تبتعد أجواء الموسيقى، وغناء أديث بياف عن السرد.
“يمكن أن يكون قد لمحها في سهرة وهو غارق في تفاصيل كارمينا بورانا.”ص38. هكذا دائماً اعتدنا على نصِّ الكاتب واسيني الأعرج لأن يكون لوحة تنبض بأغصان الحياة بكلّ معنى الكلمة.
ومع ذلك فإنّ القارئ المتميز، الذي ارتشف رحيق هذا التقاطع المذهل في نصّه، لا يغيب عنه تأثر الكاتب بسرد الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، فمنذ الصفحات الأولى البطل يونس مارينا يتساءل مندهشاً: “لا يمكن أن تكون امرأة حقيقية إنها ولا شك ورقية…”ص47.  يشمّ القارئ من خلال ذلك، رائحة ذاكرة الجسد، التي ينبثق بطلها خالد من رحم الورق.
وكذلك يتقاسم معها بالكتابة صورة رؤساء وزعماء جزائريين، وذكر الأوضاع السياسية في عهدهم، التي عصفت بالجزائر. و لا يغيب عن القارئ تناولها لبقية الفنون في نصّها السردي. ولا يقف تأثر الكاتب واسيني عند هذا الحدّ بكتاباتها، وإنما التأثر جاء باللغة الرهيفة التي تستخدمها، اللغة الشعرية النابضة، التي تكسو الشخصيات توهجاً غير اعتيادي. ولنقرأ هذا المقطع الذي نظنه للوهلة الأولى للكاتبة: “أليس غريباً أن تلتقي بامرأة تخرج أمامك من كتاب قرأته من ثلاثين سنة، والتصقت بذاكرتك كعقرب الصخور البحري؟  تقف أمامك خارجة من رحم اللغة رامية عرض الحائط بكلّ الأغلفة والأغطية التي كانت تحبسها وراء قوقعة صلبة، وتتحوّل إلى كائن بشري من لحم ودم ..“ص47.
أما الملحوظة الأخرى فهي البرود الذي لمسناه – نحن القراء – في سرد الكاتب لمشهد تفجر لوليتا أمام عينيه، بينما يونس مارينا ينظر عبر النافذة، يتابعها وهي تدخل إلى المقهى ثم تخرج، تمشي في الشارع تتطلع إليه، تبتسم ثم تفجّر نفسها، فالعاشق لم يحرّك ساكناً وهو يرى حبيبته تقوم بفعل غريب مذهل. لقد بقي هادئاً كأنما ينظر إلى ندف الثلج وهي تتهادى: “خمن أن تكون النار ودوي الانفجار قد فشلا في حرقها، ظلّ يبحث عنها بعينيه، بينما عادت حركة الناس على رصيفي الشانزليزيه.”ص456.
كان من الممكن أن يشعل الكاتب المشهد بالقلق والاحتراق والتوتر، ويشعلنا بالتأثر حين نرى يونس مارينا خائفاً مندهشاً لا يعرف ماذا يفعل خلف النافذة، يضرب بيديه على الزجاج، يصرخ، ثم ينهار أرضاً، بيد أننا ذهلنا حقاً من بروده وانطفاء توهج مشاعره.
والملحوظة الأخرى هي الكتابة باللغتين الفرنسية والإنكليزية، ثمّة مقاطع طويلة لا مسوغ لها، يترجمها أو يضع معناها باللغة العربية في الحاشية. كما أنّ ثمة ملحوظة فيما كتب واسيني: “اندفعت لوليتا في حضنه كقطة تبحث عن دفء مسروق للمرة الأخيرة.”ص382.
إذ كيف عرف أنها لجأت إلى صدره للمرة الأخيرة؟ لقد أفصح عن أمر ما كان له أن يقوله! ويبقى نصّ واسيني الأعرج من أمتع النصوص السردية الجديرة بالقراءة  والمتابعة، والكاتب بحدّ ذاته من أهم الروائيين العرب، يقتنص أفكاره من القضايا المؤرقة ليس للجزائر فحسب، وإنما لكلّ إنسان عربي، يقدمه على طبق من متعة وفائدة، حيث يمضي سرده بلغة شاعرية آسرة، ليصوّر واقعاً متناقضاً مأزوماً يراوح بين ثلاثة أزمنة، ماض مشبع بالظلم والقهر، وحاضر يكافح مستميتاً ليُعاش، بينما المستقبل يبقى غامضاً، يشبه قطاراً سريعاً يمضي تحت نفق مخيف بكلّ ما فيه.
لهذا ففي رواية ( أصابع لوليتا ) نقرأها  بشكلٍ أو بآخر مرثية، أو بكائية لتلك الأزمنة.

* أديبة وكاتبة سورية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود