الأكثر مشاهدة

صالح الحسيني*  تعد العادات والتقاليد التي يمارسها الناس في حياتهم اليومية أو في …

عادات وتقاليد أهل المدينة المنورة في كتابات الرّحّالة

منذ سنتين

1427

0

صالح الحسيني*

 تعد العادات والتقاليد التي يمارسها الناس في حياتهم اليومية أو في المناسبات الخاصة من قبيل السلوكيات الاجتماعية الشائعة  المتبعة  بدافع عرف اجتماعي تواتر الإتيان به على مدى أجيال لإرضاء رغبة ما، أو التمهيد لأداء واجب، وهذا ما اصطلح عليه بشرط الاستمرار ومعاودة الفعل، ويعرّفها ابن عابدين: “والعادة والعُرف بمعنى واحد، وإن اختلفا من حيث المفهوم” وفرّق بعضهم بين العرف والعادة بأن العادة هي العُرف العملي، بينما العُرف هو العُرف القولي(5)، والعُرف عند الجرجاني: “هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطبائع بالقبول وهو حجة أيضًا لكنه أسرع إلى الفهم”(6).

     إن ما نرمي إليه في هذه المقالة هو تبيان أثر الانتماء الديني والروحاني في عادات وتقاليد قاطني هذه المدينة الطاهرة ( المدينة المنوَرة )، التي استمد أهلها عاداتهم وتقاليدهم من وحي المكانة المباركة التي حظيت وتحظى بها، وارتواء عروقهم بالنفح النبوي الساري طوال القرون والأزمنة، ومن فجر التاريخ كان التآخي بين المهاجرين والأنصار بذرةً لنشوء هذه الحميمية عند الحديث عن (عادة حب الزيارة) كونها عادةً من عادات أهل المدينة المنورة على سبيل المثال. 

     ترتكز المقالة على عدة محاور تسلّط الضوء على جهود الرّحّالة كبقية المسلمين في أقطار الأرض الذين يتطلعون بشوق ولهفة إلى الحرمين الشريفين، فكانت الرحلة إليهما أمنية غالية، يُعِدُّ لها بعضهم السنوات الطوال، فإذا قدرها الله له وأنعم عليه بأدائها وعاد إلى بلده ظل منتشيًا بذكرياتها بقية عمره، وربما عكف عليها يرصد أحداثها، ويسجلها – إن أوتي موهبة الكتابة – لتخرج كتابًا يستمتع به الكثيرون، وليعيشوا من خلاله ما عاشه من مشاعر، وعندما نقرؤها نحن اليوم لا نستحضر تلك المشاعر فحسب، إنما نستحضر الأماكن المقدسة في لحظة تاريخية مضت، ونتعرف على جوانب كثيرة ما كنَّا لنعرفها لولا هذه المدونات مثل: علماؤها، عمرانها، سكانها، عاداتهم وتقاليدهم، وغير ذلك مما اهتم به الرحالة، وسوف نطوِف في الفقرات التالية مع عددٍ من أولئك الرحالة، ونستجلي من سطورهم صورة المدينة المنورة آنئذ، مُستظهرين ما كان من عادات وتقاليد أجدادنا. 

المحور الأول:  أهمية تقصّي عادات وتقاليد أهل المدينة في كُتب الرحالة:

قدِم إلى مدينة المصطفى – صلى الله عليه و سلم – رحالون عدة، ومن أمصارٍ مختلفة، منهم رحالةٌ مسلمون جاؤوا في رحلات الحج لزيارة المسجد النبوي الشريف والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكتب بعضهم عن رحلته ومشاهداته في المدينة أمثال ابن بطوطة، وابن جبير، والعياشي، والقيسي، والبلوي، والعبدري، والسَبْتي، والبتنوني، و غيرهم…، و رحالةٌ مستشرقون منهم جوهان بركهارت، وفارثيما، و ريتشارد بيرتون، ولويس كنت، وكريستيان سنوك، وآخرون.

هؤلاء الرحالة دفعتهم رغباتهم في معاينة ومعرفة ونقل كل ما تصل إليه نفوسهم وأقلامهم عن هذه البقعة الطاهرة، التي ميزها الله – سبحانه وتعالى – عن غيرها من بقاع الأرض، و قد دوّن أولئك النفر من الرحالة في كتاباتهم العديد من مظاهر الحياة عن هذا الإقليم، على مدى عصورٍ وقرونٍ متعاقبة، حيث شملت كتاباتهم: الجوانب العلمية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والجغرافية وغيرها.

ومن أهم الملاحظات على مدونات هؤلاء الرحالة:

  1.  إبراز ما كان عليه أهل المدينة المنورة من عادات وتقاليد، كما هو الحال في كثير من المؤلفات عن عادات الشعوب من واقع ما كتبه الرحالة.

  2.  تمُّيز الرحالة عن غيرهم بتدوين مشاهداتهم بحسب ما رأوه لا بالرجوع إلى المراجع.

  3.  أن الرحالة جاءوا على فترات متعاقبة من الزمان، الأمر الذي يؤكد تلك العادات، وكذلك تحول بعضها أو تعارضها.

  4.  إن توثيق الرحالة يختلف عن توثيق المؤرخين في ذات البلد؛ لأن الرحالة يجدون ما يشُدّهم لكتابة الشيء الجديد على عاداتهم هم في بلدانهم، فيحرصون على تدوين عادات الشعوب الأُخرى لنقلها، وهم بذلك يتحرون الدقة لدخولهم إلى عالم غريب عنهم، فعندما يدوِّن شخص ما في بلد ما، لا تأتي الصورة حاملةً الدهشة لاكتفاء ابن البيئة في حصر الظواهر، وربما تقادم الإحساس بالعادة في نفسه الأمر الذي قد لا يجعلها هامةً أو غريبةً لديه، أو لا تستحق الإشارة إلى أهميتها أو وجودها أو اعتبارها أمرًا ذا قيمة، وعلى العكس يأتي تدوين الرحالة فدخوله في عالم جديد يحفزه على استحسان الشيء أو استقباحه، أو الانبهار بدرجة أكبر، فيعمد إلى كتابة كل صغيرة وكبيرة مما هو جديد لديه وحقيقي ووافق في مشاعره غرابة ذلك الشيء فكتبها، ليس الأمر هنا يختص بالعادات فقط، إنما يسري ذلك التأويل على أوجه المدونات في شتى مظاهر حياة الشعوب الاجتماعية منها، أو الاقتصادية، أو الثقافية، وغيرها..أهمية موضوع الدراسة

  5.  التدوين الحي المباشر للعادات والتقاليد من قِبل الرحالة يعطي بُعداً آخر لكثير من الأحوال والمظاهر الاجتماعية في ذلك الزمن، لأن مظاهر الحياة عموماً لا انفكاك بينها. محاولة الوقوف على جذور تلك العادات والتقاليد ومعرفة منبتها.

  6. الاستعانة بكُتب الرحالة عند تقصي تاريخ نشوء تلك العادات.

  7.  اعتبار كُتب الرحالة مرجعاً تاريخياً جيداً ومعبراً عن صوت الزمن.

  8. فتح آفاق رحبة لباحثين آخرين في هذا المجال لإعداد بحوث شاملة.

  9. هي نقطة بداية على أمل أن تتحول البحوث المستفيضة التي قد تأتي من بعدها إلى كتب تضيف شيئاً من العلم والمعرفة للمكتبة العربية.

المحور الثاني: أهمية كُتب الرحالة في رصد العادات والتقاليد:

” في بعض كتبِ الرَّحالة وصفٌ دقيقٌ وشبهُ شاملٍ للبيئةِ الاجتماعية، حيث نجد عادات وتقاليد سُكَّان أي إقليم ٍ من حاضرةٍ وباديةٍ مرصودةً باهتمام، كذلك نجد هيئاتهم، ولباسهم، وسلوكهم، ونوع مأكلِهم ومشرَبِهم وطراِئِقها، واحتفاءهم في مناسباتِهم، وتنزُّهاتهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وأحوال نسائِهِم وأبناِئِهم، ومعظم ما اعتادُوه قد سَجَّله هؤلاء الرحالة في كُتبهم أو مذكراتهم أو مدوناتهم، وفي ذلك ما يغني الباحثَ للاِستقاءِ منه ما اشتهى لمادْته أيًّا كان عنوانها…” (كتاب الرحلات الحجازية للمؤلف محمد صادق باشا)

وعند الحديث عما في كُتب الرحالة عن الحجاز وعن المدينة، نجد أن تلك الكتب تُمثل أهمية كبيرة للمسلمين ولأهل الحجاز والمدينة المنورة بشكلٍ خاص، فهي تحكي لهم كيف كانت ربوعهم وديارهم، وكيف عاش آباؤهم وأجدادهم من قبلهم، وكيف أنها تربط حاضرهم بماضيهم، وتُشبع فيهم الرغبةَ إلى معرفة التاريخِ الحجازيَّ وأصالته، “فكم ذَكَرَتْ من الربوع والمغاني، ومن الحواضر والبوادي، وكم أطنبت في وصف معاهد الطُّهر وأماكن المقدسات، وكم أشادت بالعادات الحميدة والتقاليد الكريمة التي فرَّط فيها اليومَ أكثرُ الناس، بل هجروها، وملتهُم بعد أن ملوها” ( كتاب الرحلات الحجازية للمؤلف محمد صادق باشا). 

وأُبين هنا ما اطلعت عليه من أسماء الرحالة وعناوين رحلاتهم في عدة مصنفات، مراعياً التسلسل الزمني في ذلك، كما تجدُر الإشارة إلى أن بعض هذه الرحلات لم يُعْن الرحالةُ فيها بالعادات والتقاليد، إما لقصر مدة بقائه في المدينة أو قدومه لغاية خاصة لم يأتِ إلا من أجلها، ومن هذه الرحلات:

1- رحلة (سفر نامة) لناصر خسرو علوي، وكانت رحلته سنة 450هـ على وجه التقريب.

2- رحلة (التذكرة بالأخبار عن اتفاق الأسفار) لابن جبير الأندلسي سنة 579 هـ.

3- رحلة (مَلءُ العيبة بما جُمعَ بطول الغيبة..) لابن رُشيد السَبْتي سنة 684 هـ.

4 – رحلة (مُستفاد الرحلة والاغتراب )، لقاسم بن يوسف التُّجيبي سنة696 هـ.

5- رحلة ابن بطوطة المشهورة المُسماة (تحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وكانت سنة 726 هـ.

6 – رحلة (تاج المفرق في تحليةِ علماء المشرق) لخالد بن عيسى البلوي سنة 738 هـ.

7- رحلة عليَّ القلصادي الأندلسي سنة 891 هـ.

8 – رحلة الإيطالي فارثيما سنة 910 هـ.

9 – رحلة (الدُّرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج و طريق مكة المعظمة) لعبد القادر الجزيري، المتوفى سنة 980 هـ.

المحور الثالث: اقتباسات موجزة من كتب بعض من الرحالة العرب 

1 – كتاب: رحلة ابن جبير الأندلسي (سنة 578هـ )، والمسمّاة (التذكرة بالأخبار عن اتفاق الأسفار)

“هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الشاطبي البلنسي، رحالةٌ أديب، وُلدَ في بلنّسية سنة 54 هـ، ونزل بشاطبة، برع في الأدب، ونظم الشعر الرقيق، وحذق الإقراء، أُولع بالترحال والتنقل، فزار المشرق ثلاث مرات، إحداها عام 578-581هـ وهي التي ألّفَ فيها كتاب رحلته، مات في الإسكندرية في رحلته الثالثة سنة 641 هـ، يقال إنه لم يصنف كتاب رحلته، بل قيّد معاني ما تضمنته، فتولى ترتيبها بعض الآخذين عنه. من آثاره: (نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان) وهو ديوان شعري، و(نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرن الصالح) وهو مجموع ما رثى به زوجه أم المجد”.

” في يوم الجمعة المتمم للثلاثين من شهر شوال من عام 578هـ ، بدأ ابن جبير رحلته إلى الديار الحجازية مكة المكرمة والمدينة المنورة على متن سفينة تمخر عباب البحر بمقابلة جبل (شلير) أحد جبال الأندلس، وقد دوّن الرحالة الأندلسي تفاصيل رحلته تدويناً مباشراً يوماً بيوم، الأمر الذي أسبغ عليها حيوية، وميزها عن رحلات تلتها”.

“استمرت الرحلة لأكثر من عامين وثلاثة أشهر، مرَّ خلالها وأقام في عددٍ من المدن والحواضر، من أهمها بالإضافة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة: الإسكندرية، القاهرة، جدة، بغداد، دمـشق، عكا، وأطرابينش فـي جزيرة صقلية التي انطلق منها عائداً إلى مدينته غرناطة في الأندلس.

وقد تفاوتت مدة إقامته بين مدينة وأخرى، فكانت أطول فترة إقامة له في مكة المكرمة التي مكث فيها ثمانية أشهر وثلث الشهر، تليها دمشق التي ظل فيها شهرين متتالين، ثم بغداد التي قضى فيها ثلاثة عشر يوماً، أما المدينة المنورة فمكث فيها خمسة أيام فقط “. 

قدَّمَ ابن جبير في رحلته وصفاً ممتعاً لكل ما شاهده في المدن والحواضر التي مرَّ بها، وتباين وصفه، بين الإجمال والتفصيل، كما زخر باللمحات التي تدل على قوة ملاحظته، إضافة إلى ذكائه وصفاء ذهنه، وسعة اطلاعه”.

في رحلة ابن جبير لمسات أدبية جميلة، فالرجل -كما يقول محمد الشريف صاحب كتاب (المختار من الرحلات الحجازية)-: “أوتي حظاً عظيماً من حُسن تأليف الكلام ورصفه، وجمال الأسلوب ووصفه، وكان في ذكره للأحداث مشوقاً، وفي سردهِ للوقائع مُرغباً، لا يستعصى عليه معنى من المعاني، ولا يقف دون قلمه السيال شيء، فجاءَ كلامه عذباً رائعاً لا يُمل؛ وأنه لحق أن يُلحق بالطبقة الأولى من الأدباء البلغاء” ويضيف: “وقد لمست روعة تدوينه وجمال لغته الأدبية في وصفه لعواصف البحر، وفي حديثه عن الصحراء ومعاناة المسافر وما كابد من أهوال.” 

“وصل ابن جبير إلى المدينة المنورة قادماً من مكة المكرمة يوم الاثنين المصادف للثالث من المحرم عام 579هـ عقب أدائه مناسك الحج، وما إن دخل المدينة المنورة حتى سارع بالذهاب إلى الحرم النبوي الشريف للسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، والصلاة في الروضة الشريفة، ثم صلى صلاة المغرب جماعةً، ورجع بعد ذلك إلى رِحاله.”

وكما يظهر من الرحلة، فإن ابن جبير ومن معه أقاموا مضاربهم على أطراف المدينة (داخل سورها الخارجي) وكانوا يقضون حوائجهم ثم ينصرفون إلى تلك المضارب، وقد مكث الرحالة في المدينة خمسة أيام فقط، إذ غادرها يوم السبت المصادف للثامن من الشهر والعام نفسيهما.

أما فيما يتعلق بعادات أهل المدينة فإن ابن جبير يذكر عند حديثه عن دخول الشهر عادةً حسنة:

“إذ يتصافحون ويهنئ بعضهم بعضا، ويطلب بعضهم من بعض السماح، ويدعو بعضهم لبعض عند مُستهل كل شهر من أشهر العام، فاستحسنها واستحسن وقعها الجميل في النفس وما يرافقها من دعاءِ ومصافحة.”

ويسجل لنا ابن جبير أثناء وجوده في المدينة المنورة ملاحظات يلمس القارئ من خلالها:

“رقة قلوب أهلها التي تتجلى في تأثرهم بِما يُلقى على أسماعهم من وعظ، ومسارعتهم إلى إعلان التوبة فما أن يُلقي رئيس الشافعية صدر الدين الأصبهاني موعظته ليلة الجمعة المصادفة للسابع من المحرم من عام 579هـ حتى تضطرب أحوالهم، وتمتلئ قلوبهم خشية ويعمهم الذهول.”

فيما عدا ما سبق فإن رحلة ابن جبير تخلو من أي تفاصيل أخرى عن سكان المدينة المنورة، إذ لم يُقِمْ فيها أكثر من خمسة أيام، انشغل اثناءها بزيارة الحرم النبوي الشريف وما حوله من مشاهد في البقيع وأُحد.

والأيام الخمسة فترة غير كافية لتتبع شؤونِ الحياة اليومية التي يتطلب الإلمام بِها وقتًا طويلًا واختلاطًا بالناس وذلك في كُتب الرحالة، ويضيف:

“تحتفل المدينة المنورة بعيد الفطر، وأما صلاة العيد فُتؤدى بالمسجد النبوي الشريف، وبعد صلاة العيد يذهب الجميع لزيارة قبر الرسول – صلى الله عليه و سلم – ثم يخرجون إلى بقيع الغرقد، ثم يعودون إلى منازلهم ويقضون أيام العيد في تزاور وسرور وحبور”.

لوحة للفنانة التشكيلية هنادي سنان

*ناقد وقاص سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود