مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

أحمد بنسعيد*   كتّاب أدب الطفل لا، يبدون من الصفر. جاء في كتاب (قيمة الزمن …

الكاتب بين وقته المعدود وواجبه اللامحدود

منذ سنتين

362

0


أحمد بنسعيد*

 

كتّاب أدب الطفل لا، يبدون من الصفر.
جاء في كتاب (قيمة الزمن عند العلماء للمرحوم عبد الفتاح أبي غدة) مجموعة حكايات عن العلماء الذين سبقونا؛ توضح لنا أسرار رؤية وتعامل عدد كبير منهم مع الزمن الذي هو العمر. ترى ما هي الأسرار التي جعلت الخليل الفراهيدي يعتبر أثقل الساعات عليه هي تلك التي يأكل فيها؟ ما الذي جعل نفس الشعور ينتاب العشرات من علمائنا يقول الفخر الرازي صاحب التفسير: “والله إنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز”. وجعلت إمام الحرمين أبي المعالي الجويني شيخ الغزالي يقول: “أنا لا أنام ولا آكل عادةً، وإنما أنام إذا غلبني النوم ليلا كان أو نهارا، وآكل إذا اشتهيت الطعام أيّ وقت كان”؟ ويوصف إمام الحرمين بقولهم: “كانت لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان”
أية لذة أو على الأصح أية مسؤولية كان يشعر بها هؤلاء العلماء في مختلف التخصصات وهم يدوّنون ويكتبون معارفهم التي تركوها لنا؟؟… والتي ما فتئوا يَدَعون حتى بعض حاجاتهم الضرورية لأجل كتابتها وتدوينها… كانوا يدركون أنهم ينقلون علما لولا تضحياتهم هذه لما وصلتنا، لما اطلعنا عليها…
ترى كيف كانت آمالهم التي عقدوها علينا في تعاملنا نحن –أيضا- مع أوقاتنا كي نطور علومهم ومعارفهم التي وصلتنا بأمانة كبيرة؟؟…
مكتبة حافلة جدّا
كتب تربوية لا تُعدّ زلا تُحصى، خلّفها لنا علماء التربية والمتعاملين مع الطفل في المشرق والمغرب والأندلس، مئات إن لم أقل الآلاف من الكتب والحكايات المكتوبة والشفوية المقدمة للأطفال وفي مختلف المجالات يضيق المكان بحصرها… ونأتي لها إن شاء الله مستقبلا دراسة وتمحيصا وتدقيقا…
ويأتي الباحث المبتدئ الذي فتح عينيه على بحوث وبعض حكايات لينسب فضل ابتداء الكتابة للطفل للعالم الغربي ويذكر لنا سَنَةَ هذه البداية ويومَها… ما هذا الذي كان ينتظره منا علماؤنا أيتها السيدات والسادة. علماؤنا انتظروا منا أن نجلس تواضعا للعلم أن نفني فيه أعمارنا حتى إذا حكمْنا حكمنا عن دليل وبيّنة… والكتابة للطفل وقد أصبحت اليوم تخصصا قائما بذاته وجب لمن تخصص فيه -منا جميعا- أن يخفض الجناح لعلمه ودراسته والتدقيق فيه لسنوات، حتى نخرج بنظريات علمية وازنة نفيد بها غيرنا من الدارسين والمهتمين والمتابعين. وأما أن نضيّع وقتنا في اللا شيء ونكتفي بما يصلنا من أخبار عابرة فهذا لعمري ضعف ما بعده ضعف.
لماذا كان ابن عقيل الذي خلف لنا كتبا في شتى المجالات يفضل أكل الكعك المبلول على الخبز؟… حتى لا يضيع وقتا في المضغ، على حساب الكتابة… ابن عقيل هذا الذي من شدة حرصه على الوقت نقش في صفحات التاريخ كلمات لا تنمحي: “إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطِّره. وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عمر الثمانين أشدّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.’
هؤلاء الذين سطروا أسماءهم في صفحات تاريخنا العلميّ والأدبيّ المشرق من بين ملايين الأسماء التي عاشت وأكلت وشربت وتمتعت وماتت دون أن يبقى لها ذكر، تُرى كيف كانوا ينظرون للوقت، لنستمع لابن الجوزي يتحدث وقد غاظه ما يرى من ضياع للوقت الذي هو العمر: “ولقد شاهدتُ خلقا كثيرا لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس.. ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج، ومنهم من يقطع الزمان بحكاية الحوادث عن السلاطين والغَلاء والرُّخْص فعلمت أن الله تعالى لم يُطْلعْ على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك”
هذه الأجيال المتلاحقة التي ننتظر أن تنتشلنا من أغلال التخلف، أن يصير منهم العلماء والمبدعون والنجباء والمكتشفون… تُرى من الذي يُشرف على تكوينهم الآن؟… من الذي يقدم لهم الغذاء الفكري والعلمي والعقلي؟… مَن الذي يقدم لهم المعلومة؟ وبأي شكل؟ وفي أيّ قالَب؟…
كم من كتاب قرأ هؤلاء الْمُكَوِّنون للأطفال؟؟… كم من مؤلَّف ألّفوا (خاصة أن أمر النشر أصبح اليوم سهل جدا مقارنة بما سبق)؟؟… اسمع نصيحة ابن الجوزي لابنه في رسالته المسماة (لفتة الكبد في نصيحة الولد): ” واعلم يا بني أن الأيام تُبْسَطُ ساعاتٍ، والساعاتُ تُبْسَطُ أنفاسًا، وكلُ نفَسٍ خزانة، فاحذر أن تُذهِبَ نفَسًا بِغَيْر شيء، فترى في القيامة خزانةً فارغة فتندم”.
الإبداع هو تفاعل تراكم معرفي سابق:
ويقتضي حسن إدارة وقت الكاتب الذي ارتضى الكتابة للطفل، أن يخصص وقتا هائلا للقراءة، وليرى ويسمع ويتابع كل ما يمتّ -في عصره والعصور التي سبقته- بصلة لعالم الطفل والكتابة للطفل في مختلف مراحله العمرية ومستوياته الدراسية ومواقفه الاجتماعية…
كل كاتب مبدع يُنتظر منه أن يقرأ مكتبة كالجبال. مكتبة تضم الكتب العربية والعالمية طبعا. وكثافة القراءة العميقة توصل إلى استخدام العمليات العقلية الأكثر تعقيدا كالربط والقياس وتوليد الأفكار وحل المشكلات العويصة وتنمية الخيال والوصول إلى الأفكار الجديدة…
وأما إذا تتلمذت الأجيال الحاضرة على أساتذة ضعاف التكوين، فحتما ستكون النتيجة واضحة منطقية. والعكس يصحّ. قدم العالم المتقدم ماديا اليوم أجهزة توفر المعلومة لطالب العلم وتضعها في حِجْرِهِ، قائلة له: تريد الكتاب الفلاني ها هو أهبه لك بدون أي مجهود، إنما هي ضغطة زر بأصبعك… كان العلماء سابقا يسافرون مسافات وأياما لأجل كتاب أو صفحات أو حتى كلمات قلائل من أستاذ متمكن… واليوم يأتي الأساتذة إلينا، ونحن نرتشف كأس الشاي في منازلنا، وتأتي علومهم نحونا ونحن مضطجعون على كراسينا… وما على طالب العلم إلا أن يغترف، أن يقرأ ويدوّن ويخترع ويكتشف… وقت طويل جدا وفرته لنا وسائل التعلم الحديثة وعلى رأسها الحاسوب والإنترنت…
لا يعقل أن نتصور بعد كل هذا ضعفا في التكوين، وضعفا يُرَضَّعُ للأجيال اللاحقة فوق ذلك… وينتشر الضعف ويستشري في جسمنا ويزيدنا ضعفا فوق ضعفنا. هذا أمر غير مقبول.
الكاتب وعلوّ الهمّة
أسعد حين أرى سعادة الكاتب بوقت كتابته، بعضهم تعلو هذه السعادة كل السعادات. وطبعا لدينا نماذج جيدة جدا في هذا الباب، يذكر لي الدكتور الطبيب محمد بن حماد المغربي أثناء نزهة له -في فندق مرموق مع عائلته- نالها عن فوزه في مسابقة ما، وكان منكبا على كتابة سلسلته للأطفال حول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول لعائلته: “اذهبوا واستمتعوا، ودعوني أكتب”. حيث وجد لذته العظمى فيما يكتبه ويقدمه للأطفال.
(يتبع إن شاء الله)

*كاتب للأطفال_ المغرب

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود