29
0122
051
049
099
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11820
04751
04745
04592
04414
17د. مصلح بن بركات المالكي*
إنَّ مبدأ الاختلاف سنة كونية يسير وفقها الكون، وهذا يعني وجود أكثر من وجهة نظر، وأكثر من خصوصية فكرية وأدبية، ومن هذا برزت في النقد القديم والحديث قضية المفاضلة بين الشعراء وأغراض الشعر، بوصفها آلية نقدية، ومنهجًا بحثيًا، يراد منه ترجيح كفة على أخرى.
لذا استمعت واستمتعت مثلكم بالحوار الأدبي الراقي عبر الشاشات الفضائية والقنوات التواصلية الذي وقع بين علمين وعالمين جليلين حول تفضيل شاعرين من أمراء الكلمة الأدبية، الأول قال عنه ابن رشيق القيرواني:” شغل الناس وملأ الدنيا” وأطلق عليه د. عايض القرني الإمبراطور، والآخر بايعه الشعراء بالإمارة ويراه د. صالح المغامسي المتفرد على الشعراء قديمًا وحديثًا.
دار الحوار يحفه التقدير والاحترام المتبادل، ويشعله التبرير الانطباعي من كل طرف، ولكل الحق فيما يرى ويقول، لكن أرى أن العالمين الجليلين قدرًا ومكانة يحملان حقائق أدبية ونقدية وبلاغية حرّكا بها المياه الراكدة في ساحة النقد في المشهد الأدبي المعاصر.
إذ المفاضلة بين الشعراء منذ أن بدأت على يد أم جندب الطّائية بين امرئ القيس وعلقَمة الفحل في وصف كل منهما ناقته وفرسه، فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:
خَليلَيَّ مُرَّا بِي عَلى أُمّ جُنْدَبِ
نُقضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ
ثم قال علقمة قصيدته التي مطلعها:
ذَهبتَ منَ الهُجرانِ فِي غَيرِ مَذهَب
وَلــم يـَكُ حــقّاً كـلّ هَـذا التَّجَنّب
واستطردَ كلٌّ منهمَا في وصف ناقته وفرسه، فلما انتهيا تحاكما إليها فحكمت لعلقمة بالجودة والسبق. فقال لها امرؤ القيس: بِمَ فضلت شعره علي شعري؟ قالت: لأن فرسه أجود من فرسك ! قال: وبماذا؟ قالت: إنك زجرت، وضربت بسوطك .وهي تعني قوله في وصف فرسه: فـللــساق ألـهـوب وللـسوط درة … وللــزجر منــه وقـع أخرج مهذب
أما علقمة فقال:
فـأدركــهن ثـانيــًا مــن عنانه
يمــر كـــمر الــرائح المتـحلب
ففرسه أجود من فرسك؛ لأنه قد أدرك الخيل ثانيَا من عنانه من غير أن يضربه بسوط أو يحرك ساقيه !!
ولما سئل لبيد عن أشعر الناس أجابهم بقوله: الملك الضليل قيل: ثمّ من؟ قال: الشاب القتيل، قيل: ثمّ من ؟ قال: الشيخ أبو عقيل (يعني نفسه).
وفي عصر صدر الإسلام قدّم النابغة الذبياني الأعشى على غيره من الشعراء، ثمّ ثنّى بالخنساء. بينما قدّم عمرو بن الحارث الغساني حسان بن ثابت على النابغة نفسه وعلى علقمة.
أما العصر الأموي وفي مجلس الخليفة عبدالملك بن مروان فقد اجتمع جرير والفرزدق والأخطل، فأحضر بين يديه كيسا فيها خمسمئة دينار. وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيكم غلب فله الكيس.
فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى
وفي القطرانِ لجربى شفاء
فقال الأخطل:
فإن تك زق زاملة فإني
أنا الطاعون ليس له دواء
وقال جرير:
أَنا المَوتُ الَّذي آتى عَلَيكُم
فَلَيسَ لِهارِبٍ مِنّي نَجاءُ
فقال الخليفة: خذ الكيس فلعمري إن الموت يأتي على كل شيء.
وبرزت روح المفاضلة في العصر الأندلسي بين الأزهار، إذ فاضل الرمادي وآخر بين الزهور ومنها النرجس والورد واتفقا على تغلب الورد على سائر الزهور:
تعاير السوسان والجلنار
والأقحوان الغض بين البهار
مبتسما ذاك وذا موضحا
عن حسن توريد بدا واستثار
واستحكم الورد ببرهانه
وانتحل الفضل معا والفخار
وفي العصر الحديث ألف زكي مبارك كتابًا في المفاضلة بين الشعراء عمد فيه إلى المفاضلة جريًا على ما عهده لدى الأوائل مع ابتكار في الطريقة، حيث أقام مفاضلته بين شعراء من عصور مختلفة كأحمد شوقي والبحتري، وكذلك مع البوصيري، وقد أقام مفاضلته بين هؤلاء على معايير وأسس نقدية حديثة كـ: الصور الشعرية، وتوظيف الخيال، والأغراض، والمضامين التي تطرق إليها الشعراء في قصائدهم، فيطلق الحكم لشوقي في توظيفه الخيال واقفًا على جزئية من شعره تناول فيها الحديث عن طيف الخيال في قوله:
أَفديكَ إِلفاً وَلا آلو الخَيالَ فِدىً
أَغراكَ باِلبُخلِ مَن أَغراهُ بِالكَرَمِ
ويفضل وصف شوقي ويرجحه على البوصيري إذ وجد قوله مبتذلًا نوعًا ما.
وباستقراء ما سبق عبر العصور الأدبية نجد أنهم اعتمدوا معايير عدة، منها:
أولها: أن المفاضلات السابقة في الغالب وقعت بين شاعرين في عصر واحد، وثانيها: أنها وقعت في غرض واحد، وثالثها: أنها وقعت في التصوير أو اللغة، ورابعها: أن النقد كان معياريًا، كحكم أم جندب حين اشترطت وحدة الموضوع والرويّ والقافية، وآخرها فالمتنبي قدّمه النقاد، وشوقي بايعه الشعراء، إلا أن الشعراء لم يوافقوا على مفاضلة النقاد، وكذلك لم يبايع الشعراء كلهم شوقي.
فالمفاضلة بين الإمبراطور والأمير تعدٌّ مجانبة لصواب النقد، باطلة لمعايير الاحتكام، مجحفة في حق الشاعرين، وإن تجاوزنا في اختلاف العصر، فلنحتكم للصورة أو اللغة في أحد الأغراض الشعرية حتى نصل إلى حكم منطقي مقنع للطرفين.
أما أن نفضل الأمير لكونه مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونحن نعلم بأن المتنبي كان يدعي النبوة، فالعقل يدرك بأن المتنبي لن يمدح الرسول – صلى الله عليه وسلم – طالما يرى نفسه نبي. كما أنا لا نفضل الإمبراطور لكون يجيد شعرية الومضة التي كانت سببًا في مقتله.
وختاما نلتمس للعالمين الفاضلين إعجابهما الشديد بهما، ونقدر لهما ذلك، مع التحفظ على المفاضلة.
*ناقد وأكاديمي سعودي
التعليقات