الأكثر مشاهدة

إعداد_هيا العتيبي تلعب الأماكن دور محوري في الإنتاج الأدبي من خلال وجودها كشواهد …

الأماكن والثقافة .. بين الشواهد والمشاهد

منذ سنة واحدة

1096

0

إعداد_هيا العتيبي
تلعب الأماكن دور محوري في الإنتاج الأدبي من خلال وجودها كشواهد رئيسية في القصة والرواية والشعر والخاطرة حتى تجلت حاضرة من خلال نكوص الأديب إلى البدايات والذكريات وتسليط المشهد على التنقلات والرحيل وارتباطها بالمعاني الثقافية والأدبية المسجلة في صفحات المنتج.

فرقد سبرت أغوار القضية ووضعتها على طاولة النقاش مع نخبة من الأدباء من خلال المحاور التالية:

كيف حضرت الأماكن في المشهد الثقافي وما أكثر الفنون الأدبية اهتماماً بها ؟

كيف وظف الأدباء والمثقفون الأماكن  داخل النصوص الأدبية وما مدى انعكاسها على جودة المنتج ؟

هل ترى أن توازن الأديب في توظيف الأماكن بالإنتاج مطلب وضرورة أم أن العبرة بانعكاسات المكان على الأحداث ؟

*كل عمل أدبي يحمل خصوصية المكان 

يجيب الروائي والقاص عمرو العامري على محاور القضية بقوله لعلك تقصدين كيف حضرت الأماكن في المشهد الثقافي أو في الأعمال الأدبية؟ وفي ظني أن هذا سؤال واسع جداً، ثم ما المقصود بالأماكن؟ تعنين الأماكن المحلية أو المكان بشكل عام؟ وأعتقد أن أي عمل أدبي (الرواية خصوصاً) يفترض أن تحمل خصوصية المكان و الأشخاص الذين ينتمون إلى هذا المكان، وجل الأعمال الأدبية الكبيرة تنتمي إلى أماكن محددة وواضحة؛ ماركيز، جون اشتاينبك، محفوظ، الكلاسيكيات الروسية، كل عمل هو يستند إلى مكان وإلى زمن محدد وحتى يكتسب الواقعية. هكذا أظن إن كنت فهمت سؤالك. وطبعا ليس من الضروري حضور المكان في الشعر حيث الروح هي الهوية، وحيث فضاءات القصيدة هي المكانوأجدني مضطراً لإعادة ماقلته، وأن لا رواية دون مكان سواء باسمه الحقيقي ( رجاء عالم، يوسف المحيميد، طاهر الزهراني ..الخ) أو مكاناً متخيلا( كأعمال عبدالرحمن منيف في مدن الملح  وغازي القصيبي) طبعا التوظيف هنا للأدباء، أما المثقفين فشيء آخر.

وأعتقد أننا نطلب أو نريد من الأديب أن يكتب إبداعًا وليس لعبة توازنات وليست هذه مهمته. مهمة الأديب الكتابة عن مكان وزمن مقنع وإلا كان تهويمات لا معنى لها.

*للأماكن حضور مشهود في شواهد الإنتاج

 ويشاركنا الأديب والمستشار/عبده الأسمري برأيه حول طرح فرقد بقوله :   

من أهم المهارات التي ترجح كفة «الأديب» القدرة على الربط بين الأمكنة والأزمنة والإنسان الذي يعد محور الحديث وحجر الزاوية في الإنتاج الادبي ..

تحضر الأماكن في المشهد الثقافي  لتشكل الصورة الأساسية لطبيعة الحياة وطبع الإنسان وتحمل التفاصيل والتداعيات التي تعكس اتجاهات العيش وطريقة التعايش وانعكاسات السلوك، لذا فإن في الأماكنمنظومةيستطيع  من خلالها الأديب أو المؤلف اقتناص الأفكار الفريدة للركض  في ميادين الروايات والقصص وحتى القصائد فيتجلى الإبداع من عمق المكان إلى أفق الزمان وسط اعتماد على هيئة البطل وهو الإنسان والذي يرتبط بالمكان من حيث الأصول والفصول والدراسة والعمل والإقامة والمكوث وحتى الموت، لذا فإن للأماكن حضور مشهود في شواهد الإنتاج ومشاهد المنتج و تأتي الروايات على رأس الفنون الأدبية اهتماماً بالمكان والذي يشكل محوراً رئيسيًا للسرد وعنوانًا أمثل للحبكة وأصل لبناء صرحالروايةوتدوير حركة الشخصيات داخل فصولها، وقد تمكن بعض الأدباء من توظيف الأماكن داخل النص من خلال فك رموز تلك المواجع التي أجهضت أحلام وأجلت أمنيات لترسم خريطتها «البائسة» على منظر طفل أو ملمح شاب أو محيا شيخ أو أي شعور تفضحها الملامح التي تبقى عنواناً  أبرز لتفاصيل الألم واختصار أسرع لتفصيلات الوجع وربطها بالمكان الذي تعيش فيه تلك الشخصيات المرتبطة به كمقر للعيش وموطن للحياة فتتشكل المشاهد الثقافية من عمق هذا المكان وما يحمل من مميزات ومزايا وما يحتضنه من تاريخ وما يكتنزه من ذكريات وارتباطها بتداعيات القصة أو الرواية أو الشعر؛ لذا يحضر المكان بمنطوقه المعروف أو بتفاصيل فلسفية تعتمد على الإيحاء إلى جوانب من هذا المكان او أجزاء من تلك المواقع.  

وينعكس ذلك على جودة المنتج من خلال الربط ما بين المكان والسلوك والمقر، والمسلك وأيضًا وفق ما ينهجه الأديب من تسخير المكان في خدمة الكتابة واتسامها بالموضوعية والمصداقية وأيضا ربط الأدب بالمكان وإهداء قاطني تلك الأماكن معاني الانتماء ما بين الأرض والثقافة. من المهم أن يكون هنالك توازن ما بين المكان والإنتاج و اتزان ما بين الطرح والهدف حتى يتكامل المشهد الثقافي مع أهمية أن يرتبط الحدث بماهية المكان وتداعيات المشهد الذي تعيشهشريحةالمنتج وترتيب ذلك وفق فصول الإحداث دون تجاوز المساحات الموضوعية من تعامد الحدث على المكان واستناد الأديب على المكان كضرورة تضفي على السياق المكتوب نوعاً من الارتباط الذهني والترابط الوجداني ما بين الإنسان والمكان وترتيب ذلك بمهنية أدبية داخل الفصول.

*المكان في الرواية وعاء لزمنها  

            

ويعلق الناقد أحمد فرحات من مصر على طرح فرقد بقوله : بعض الأماكن يضفي حيوية على أهله وبعضها يميت الحياة 

يكتسب المكان في الرواية قيمته الفنية والموضوعية باعتباره وعاء للزمان، حيث يسعى الإنسان من خلالهما ووفق مجموعة من العوامل التي تشكل محيطه النفسي تحقيق شعوره بالتواجد والكيان الفردي الاجتماعي، ويكون المكان نفسه سبيلا لنفور الإنسان إذا ما وجد ضيقا في نفسه، وأحس بالرعب فيه، فيبدأ في استكشاف النفس قبل الجسد، وتكمن أهمية المكان وجمالياته في رواية موت صغيرلمحمد حسن علوان بذكر التفاصيل الدقيقة للمكان ولأهله معاً، فذكر التفاصيل الصغيرة يزيد الارتباط بالمكان، ويبقى في ذهنه ووجدانه أطول مدة ممكنة، وإنما تتفاضل الأماكن بذكر التفاصيل. فيقول عن ذلك:قليلة هي المدن التي تجوز أسوارها أول مرة فتشعر أنها كانت تنتظر وصولك،  تلقي على خطواتك الأولى عتابًا مشوبًا بالحنين وشوقًا محفوفًا بالرضا. هكذا استقبلتني بغداد وأنا واحد من مئات حملتهم القافلة إلى هنا غير أني شعرت أنها حيتني وحدي تحية المدن السخية للغرباء المتعبين. على ملامحي مذ دخلتها علامات اندهاش تشبه تلك التي ترتسم على الأوجه عندما يعانقك من لا يعرفك. ويحبك من لم يلتقيك، ويصفك من لم يرك، تظل الدهشة حاضرة زمنًا طويلًا حتى تنتهي المدينة من تلقينك دروسها الأولى، كيف تمشي على ضفة دجلة ويبقى قلبك خلف أضلعك لا يجري به النهر؟ كيف تمر بالرصافة دون أن تستوقفك كل نحلة بحكاية جديدة لا تعيدها في اليوم التالي؟  كيف تتجول في أسواق الكرخ دون أن يترك كل عطار وبزازة صائغ في سمعك قولًا لا يفارق ذهنك طيلة النهار لفرط فصاحته وبلاغته وحلاوته؟ أين تجد زهدًا كافيًا لتوصد باب بيتك كل ليلة في وجه بغداد وتنام؟:

وليست التفاصيل فحسب هي إحدى جماليات المكان عند محمد حسن علوان بل تكمن أيضًا في درجة الوعي الذي أحسه بطل الرواية (ابن عربي) في التمييز بين الأماكن؛ فالأماكن كالنساء بعضها يثبت عتبته، وبعضها ينفر منها الإنسان، وبعضها حافز للحب، وبعضها قاتل له، دون سبب واضح اللهم إلا درجة الوعي الذي يصل إليه ابن عربي نتيجة خبرته وتنقلاته وكثرة رحلاته هنا وهناك،وهكذا أرادت لنا مكة، بعض الحب لا ينمو في بلاد بعينها، ولا يعيش في بلاد أخرى، وحبنا كان نافورة لا يجري ماها إلا في الأندلس، حتى إذا فارقناها انحسر ماؤها حتى يجف تماما في قيظ مكة“.

*الأماكن مثل البشر منها الحيويّ، ومنها الميّت المُميت

ويرى. الروائي محمد فتحي المقداد. من سوريا :

أن المكان هو القشرة المُغلفة لنا ولوجودنا كاملًا، نتمسك بها لأمانتها، ولمحافظتها على ودائعنا، وتُصرُّ بعنادٍ صامتٍ على خُصوصية أيِّ شيءٍ بأمانة. كما أنها العُنصرُ الأساسيّ كساحة للصراعات، ومَراحٍ للآمال والأحلام، والرَّغبات.

ولا قيمة للحياة بلا مكانٍ أيِّ مكان على الإطلاق والمكان لا قيمة له ولا خُصوصية بلا وجود فعل بشريٍّ، على حدّ سواء الخيِّر  والشرِّير، البنَّاء والمُدمِّر.

الأماكن مثل البشر منها الحيويّ والجذّاب الممتلئ بضجيج الحياة، ومنها الميّت المُميت القاتل لكلِّ أسباب الحياة، وبينهما من الأماكن الوسط والدّنيا اكتسبت أهميتها من صراعات البشر و احترابهم في ساحاتها في سبيل السَّيطرة والهيمنة.

المنطقُ مُلتزمٌ باستحضار المكان في أيِّ فعلٍ إنسانيٍّ صغيرًا كان أم كبيرًا، دنيئًا أم عظيمًا؛ فالمكان هو ساحة ومساحة  للحركة والفعل بكافة الأشكال الفعلية والقَولية، ولا يمكن أن يشذَّ عن هذه القاعدة التي أصبحت بمثابة بديهيَّةٍ رياضيَّةٍ، لتَنتُج المُعادَلة الزمكانية (معادلة الزَّمان والمكان)، إضافة للفعل البشريِّ المُعادل المنطقيِّ للزّمان والمكان؛ وليُضفي عليهما أهميَّة ذات أبعاد شخصيَّة ونفسيَّة مُقدَّسة وتاريخيَّة.

وبديهي استجرار المكان للفعل الكتابيِّ والثقافيِّ، المُتَمثِّل في ذهن الكاتب ليُقنع به القارئ، أيضًا مُعادَلة توفيقية لمقاربة الواقع بدرجات مُتفاوتة.

من هناك نستطيع الموافقة على تقسيم المكان إلى فضاءات عديدة، صغيرة وكبيرة، ولكنها جميعًا مُفترضة في ذهن الكاتب أوَّلًا، وهو ضرورة مُكمِّلة لأركان القصة والرِّواية والحكاية، المصطلح على تسميته بفضاءات المكان. ويجب الانتباه أن قضية المكان في الكتابة معنويّة، اقتطع الكاتب مُستلزَمهُ منها، لتحريك الحدث وفق رؤاه وتصوّراته، و ايهاماته وتخييله الأدبيّ؛ لاستيفاء أركان النصّ الأدبيّ أيًّا كان.

والمكان اتّخذ بُعدًا إنسانيًّا ومُؤنسنًا مليئًا بضجيج المشاعر والأحاسيس، منذ زمن امرئ القيس وما قبله، حينما وقف واستوقف؛ لتصبحالأُبابة قضيَّة الحنين والشَّوق للديار مُؤرّقة حرّاقة، تشدّ بحبالها على قلوب مُحبّيها بالعودة إليها، وهذا المصطلَحُ العربيُّ هو المُعادل الأصيل “للنوستولوجيا، والأماكن مُرتَحِلة فينا ومعنا، إن حللنا فيها أو ابتعدنا عنها.

*تختلف طريقة توظيف المكان من أديبٍ لآخر

ويؤكد الشاعر والناقد ‏حسن الحضري عضو اتحاد كتاب مصر على أهمية وحضور المكان في الأدب بقوله:
‏يتمتَّع المكان بحضورٍ قويٍّ في أدبنا العربي بشكلٍ عامٍّ؛ وبالنظر في شعرنا العربي القديم ابتداءً من العصر الجاهلي؛ نجد قوة حضور الأماكن والبلدان؛ فقد ارتبط المكان ارتباطًا وثيقًا بأشعار الغزل والفخر والهجاء؛ فكان الشاعر يفتتح قصيدته بالنَّسِيب والبكاء على الأطلال والدِّمن والديار، فيذكر مَوْطِن الحبيبة وأماكن اللقاء، والبلدان والجبال التي حالت بينه وبين محبوبته، حتى إنَّ ذِكر الأماكن كان يطغى أحيانًا على ذكر الحبيبة نفسها؛ حيث كان الشعراء يجعلون مقدمتهم الغزلية في بعض قصائدهم عبارة عن ذِكرٍ محضٍ للأماكن؛ ومن ذلك قول امرئ القيس:
‏لِمَنِ الدِّيارُ غشيتها بِسحامِ*** فعمامتين فهضب ذي أقدامِ
‏أو يذكرون الحبيبة في عجالةٍ ثم يعدِّدون الأماكن والمواضع؛ ومن ذلك قول الحارث بن حلزة:
‏آذنتنا ببينها أسماءُ *** رُبَّ ثاوٍ يُمَل منه الثَّواءُ
‏آذنتنا بِبَينها ثم ولَّتْ *** ليت شعري متى يكون اللقاءُ
‏بعد عهدٍ لنا ببرقةِ شَمَّا *** ءَ فأدنى ديارها الخلصاءُ
‏فالمحيَّاةُ فالصفاحُ فأعنا *** قُ فتاقٍ فعاذبٌ فالوفاءُ
‏فرياضُ القطا فأوديةُ الشُّرْ *** بُبِ فالشعبتانِ فالأبلاءُ
‏فالأبيات من الثالث إلى الخامس كلها ذِكرٌ لأسماء الأماكن، ومِثل هذا كثير جدًّا في الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام والعصر الأموي وأوائل العصر العباسي، ثم بدأت تقل حِدَّته في العصر العباسي الثاني، لكن لم تنطفئ جذوة الأماكن في شعرنا العربي حتى العصر الحاضر، فما زال المكان له حضوره.
‏وإذا نظرنا إلى فنون الأدب الأخرى؛ كالمسرح والقصة والرواية؛ نجد أن المكان من العناصر الأوَّليَّة الثابتة التي لا بدَّ منها، ولكن تختلف طريقة توظيف المكان من أديبٍ إلى آخر؛ بحسب أسلوب الأديب وثقافته وأيضًا أهمية المكان الذي يتناوله في عمله، ومدى مناسبة ذلك التَّناول للواقع من ناحيةٍ وللموضوع الذي يكتبه من ناحيةٍ أخرى؛ فكل ذلك له تأثير على جودة المنتَج بدرجةٍ أو بأخرى.
‏أمَّا ما يحدث أحيانًا من تناقضات بين بعض الأدباء في توظيف المكان في النص الأدبي؛ فإن ذلك أمرٌ واردٌ ومقبولٌ ويصبُّ في صالح جودة المنتَج في النهاية؛ بشرط أن يكون التناول له ما يبرِّر اختلافه أو مناقضته؛ فإن ذلك يشجع على التنافس ويصنع المزيد من عناصر الإبداع.

*المكان هو أرضية التجارب الإنسانية والدلالات الرمزية 

وتشير القاصة فاطمة وهيدي من مصر إلى حاضريه المكان في الفنون الأدبية بقولها :

مِن المكانِ تُعاش التجارب الإنسانية، وتتبلور الكيانات الثقافية والاجتماعية، وتُترجم الدِلالات الرمزية، والدينية، و الأسطورية.

ومن خلال الأدب يخرج المكان من إطاره الجغرافي؛ ليُعاد قراءته برؤية تأويلية تختلف من شخص إلى آخر؛ وفقا لمشاعره، وهويته، وفلسفته، وما يخالج ذاته من أسئلة.

وإذا نظرنا إلى حضور المكان في المشهد الثقافي؛ سنجده متمثلا في مشاهد عدة من مجالات الإبداع مثل السينما و المسرح، الفن التشكيلي، الأغنية، القصة، والرواية..

ففي الأغنية نجد أن الاحتفاء بثيمة المكان قد ظهر في الأغنية المصرية كثيرًا
مثل قصيدة مصر تتحدث عن نفسها التي تغنت بها السيدة أم كلثوم، وقصيدتي الكرنك والنهر الخالد والذي تغنى بهما الفنان محمد عبد الوهاب، وحلوة يا بلدي للفنانة داليدا، والأقصر بلدنا للفنان محمد العزبي.
وأيضا الأغنية اللبنانية فقد ظهر المكان في العديد منها مثل يا هوى بيروت، ثلج ثلج، وجبالنا الخضرا..
كذلك ظهرت مدينة مراكش المغربية في إحدى روائع الشاعر عبد القادر الراشدي في أغنية يا مراكش يا وريده، وتغنى عبدالوهاب الدكالي بقصيدة يا فاس حي الله أرضك

أما الشاعر منصور الشادي فقد أبدع في رائعته الأماكن والتي تغنى بها الفنان القدير محمد عبده، وكتب الشاعر المصري أحمد رجب عن مدينة أبها وتغنى بها الفنان طلال مداح قائلا:
قلبي حبك والله يا أبها
أنتِ أجمل من الخيال
شفت نورها عند بابها
قلبي حن للجمال

وبالرغم من ذلك، نجد أن الرواية من أكثر الفنون الأدبية اهتماما بالمكان، حيث أن المكان يعتبر عنصرا أساسيا في الرواية والقصة بشكل عام.

وقد برز المكان لدى العديد من الروائيين؛ فأصبحت العديد من الأماكن علامات بارزة في تاريخ السرد العربي مثل ثلاثية نجيب محفوظ (قصر الشوق، بين القصرين والسكرية) وكذلك زقاق المدق، كما كتب توفيق الحكيم العديد من الروايات والقصص كان المكان فيها هو الأساس مثل (يوميات نائب في الأرياف)، وقدم إبراهيم عبد المجيد العديد من الروايات تحمل اسم الإسكندرية ومنها ( لا أحد ينام في الإسكندرية)، كذلك كتب بهاء طاهر رائعته (واحة الغروب) والتي دارت أحداثها في واحة سيوه في مصر.

وقام الكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا بتمييز الإطار المكاني في روايته (صيادون في شارع ضيق) حيث ذكر أسماء الشوارع والفنادق والملاهي؛ حيث قال عنها الناقد محمد عصفور إنها سيرة مدينة غريبة عن أهلها.

ويتأكد دور المكان من خلال هذه الأعمال، من خلال تضافر المكان مع الحدث، ومشاركته في صياغة الأحداث، وتشكيل الشخصيات وتطورها، وتصاعد الأحداث وتواترها، مما يوطد العلاقة بين المكان والشخصيات.

فالإنسان يتشكل حسب بيئته المحيطة به، وهذا ما يفعله الكاتب حينما يرسم شخصياته؛ مثلما فعل نجيب محفوظ في رواياته؛ ورسم لنا الفتوات، والحرافيش، والدراويش.
ومثلما فعل الروائي جلال برجس الفائز بجائزة البوكر ٢٠٢١ في روايته (دفاتر الوراق) و كذلك قدم زهران القاسمي في روايته (تغريبة القافر) الفائزة بجائزة البوكر هذا العام ٢٠٢٣ حيث كان المكان هو البطل الرئيسي.

وكما يرى الكثيرون أن أدب نجيب محفوظ وغيره من الأدباء قائما على علاقتهم بالمكان؛ فإننا نرى أن ذلك أسس لهذه الأماكن جزءا أساسيا في وجدان القارئ وذاكرته؛ الأمر الذي جعل هذه الأماكن مميزة جغرافيًا وتاريخيًا.

*الأماكن  رفيق روحي للأدباء منذ ولادتهم 

وتدلي الكاتبة الفلسطينية ولاء القواسمة بوجهة نظرها قائلة: إن الأماكن من وجهة نظري هي البؤرة الأساسية في المشهد الثقافي، مع بقية محاور وأركان النص الأدبي لتنسيقه وتشكيل لوحة فنية أدبية متكاملة، تظهر للآخرين بأبهى حلتها، والمشهد الثقافي يناجي المكان وكأنه إنسان يلجأ له في حالات الخوف والغضب والحزن، فكما يحتضن المكان موجوداته، فإنه كذلك يحتضن المشهد الثقافي بصورة مؤثرة بليغة تطور منه وتساهم في نجاحه وألقه أضعاف مضاعفة.
وأكثر الفنون الأدبية اهتمامًا بها من وجهة نظري هي الرواية والقصة القصيرة على الأغلب، وأحيانا الشعر الأماكن ليست مجرد مواقع وحدود جغرافية فقط، بل هي رفيق روحي للأدباء منذ ولادتهم، فالأديب ابن بيئته، والعلاقة تلازمية، حتى لو تخلى عن مكانه وغادره إلا أنه يبقى متجذرًا في روحه وعقله، فمنه كانت بدايته، هو بوح كيانه، عنه سيتحدث بعاداته وتقاليده وأفكاره وقيمه الاجتماعية والأخلاقية والدينية. والأماكن في النصوص الأدبية من وجهة نظري تتوظف تلقائية عفوية، دون تعقيدات ولا مجهود، هي جزء لا يتجزأ من المخزون الثقافي الفكري الفلسفي عند الأدباء.
بالتأكيد تنعكس على جودة المنتج فهي التي تلفت النظر إليه خصوصا بدقة تفاصيلها، وعمق وصفها، ودلالة سردها، فتخلق مع القارئ ارتباطا روحيًا وثيقًا لا يُنسى أبدًا.

من وجهة نظري أنه مطلب وضرورة؛ لأن أيدولوجيا المكان سواء بالواقع أو بالخيال هي حجر الأساس لبناء منتج أدبي متوازن له طابع وهوية، فالمكان بمثابة اسم الأديب وهويته، وكما نعرف جميعا أنّ لا أحدا يستغني عن هويته مهما علا منصبه واغتنى بالمال والشهرة.

*المكان لصيق بكل الفنون دون استثناء

ويقول الروائي الدكتور عزالدين جلاوجي من الجزائر:
‏لا، يمكن للإنسان أن يعيش خارج المكان، وبالتالي لا يمكن تصور الفن الذي هو تعبير عن وجود الإنسان خارج المكان، بمفهومه الواسع والعميق، والذي لا يمكن أن يكون مجرد أحجام ومقاييس، ولكنه روح وذاكرة وتاريخ وتراث وفلسفة وعواطف ومشاعر، إن العلاقة حميمية جدًا بين الإنسان والمكان، بحيث يصير كل منهما هو الآخر، يشكل الإنسان المكان فهو رؤاه وأحلامه وآماله وانكساراته، كما يشكل المكان الإنسان وينطبع داخله، فينشئه من الداخل وحتى من الخارج، ويشكله بكل أبعاده وأعماقه، وأتصور أن المكان الأول الذي يعرفه الإنسان هو الرحم، لذا يظل يتخيله ويحلم به، و يتمثله، ثم يأتي الحضن حيث الدفء والأمان؛ لذا يظل الإنسان يبحث عنه ويسعى إليه، وما البيت المأوى الذي يأتي ثالثًا إلا تمثيل لهما.
‏ولاشك أن المكان لصيق بكل الفنون دون استثناء، غير أن الرواية من أكثر الفنون استحضارا للمكان، الذي يعد من أبرز وأهم عناصرها في رحمه تتحرك الأحداث والشخصيات ومنه ينبع الزمان، الذي يكاد يكون هو ذاته المكان، وقد يتغلب المكان على بقية العناصر فنكون بإزاء رواية مكانية، بل وقد يكون البطل فيها هو المكان ذاته.
‏لقد حضر المكان بقوة في كل الآداب العالمية الخالدة، منذ الأساطير العربية واليونانية والهندية والصينية الموغلة في القدم، وحضر في السير العربية القديمة وفي ألف ليلة وليلة، وقبله في شعر الفحول حيث كان العربي يصر في مطلع قصيدته على الوقوف على الأطلال، وهو حضور له دلالته العميقة، ومازال المكان مرتبطا بأبرز النصوص الروائية الحديثة ويكفى أن ندلل على ذلك بثلاثية نجيب محفوظ ” بين القصرين، قصر الشوق والسكرية ” التي يحضر فيها المكان بشكل لافت ابتداء من عتبة العنوان.
‏ولم يقتصر المكان في النصوص الأدبية على شكل واحد، بل تعدد الأمر ويمكن أن نشير إلى المكان الحقيقي، والتاريخي والمتخيل، الواقعي والأسطوري والخرافي والتراثي، ولها جميعا تأثيراتها العميقة في المتلقي الذي يستطيع أن يحرك آلة التخييل لديه ليرسم الزمان والأحداث والشخصيات في مخيلته، بل وقد يكون ذلك وثيقة تاريخية أو سياسية أو اجتماعية، وقد يكون لها أيضا دور إشهاري سياحي، وكم من أماكن نسعى لرؤيتها فقط لأننا قرأنا عنها في رواية من الروايات، ويسهم حضور المكان في الرواية مثلا في ترميم فجوات التاريخ، وبالتالي يساعد المؤرخ على تخيل الأحداث، بل وقد تندثر الأماكن مع تقادم الزمن، ويبقى ذكرها في الأدب مخلدا لها، ويمكن أن نحيل في أدبنا القديم على نص شِعْبُ بَوّان للمتنبي، وإيوان كسرى للبحتري، وعلى جبل الريان لدى جرير، والأندلس في شعر الأندلسيين، والناصرية لأبي علي بن الفكون، والناصرية هي مدينة بجاية الآن بالجزائر، وفي الرواية بسط واسع للمكان، لدرجة أنه صار خاصية لدى بعض الشعوب، منها الشعب الفلسطيني، ولعل أدباءه يتقصدون ذلك، لأن معركتهم معركة أرض ومعركة ذاكرة، وهو ما يمنح هذه النصوص خصوصيتها وعمقها.
‏ولا يكفي المكان وحده ليمنح النص شرعية الوجود والقبول والتميز، لكنه وهو في يد المبدع الحاذق يتعانق مع بقية العناصر والتقنيات السردية، ليشكل فسيفساء تمنح النص الحضور والتميز.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود