217
0467
0454
0350
0451
116
010
0103
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11784
04713
04364
174302
03998
0إعداد_منال حمود التميمي
يعد عنصري الزمان والمكان من أهمِّ العناصر التي يتضمنها السرد، ولولاهما ما استوى عملٌ روائي؛ إذ لا شيءَ يقعُ في الرواية بل في الحياةِ عامة خارجَهما، ولأنَّ الروايةَ بهذا تُعدُّ فنًا زمانيًا مكانيًا؛ صارَ الفصلُ بين العنصرينِ في التحليلِ مُعييًا؛ ووجدتُ نفسي لـمَّا أزمعتُ أمامَهما معًا، فمعالجة أحدهما في أيِّ عملٍ تقتضي معالجة الآخر، وقد امتطيتُ في سبيلي هذه ما نُحِت منهما فسُمِّي (الزمكانية)، وجاء البحثُ بعنوان: الزمكانية في رواية ثالثة الأثافي لسعود الصاعدي.
مدخل :
(مصطلحات ومَفاهيم)
الزمان لغةً، واصطلاحًا:
جاء في لسانِ العرب لابن منظور: “الزَّمن والزمان: اسمٌ لقليلِ الوقت وكثيره”، واختلفتِ المعاجم في تحديد مداه لكنا نقنعُ ها هنا بما أوردناه، ونقفُ فوق إطلاقِه على كثيرِ الوقت وقليله دونما إقصاء.
أمَّا اصطلاحًــا، فقد قال عنه د. عبد الملك مرتاض إنه الشبح الوهمي الـمَخـوف، وسببُ هذا يُستقرأ في قولهِ -عند حديثه عن الزمن-: “… لا نرى الزمن بالعين المجردة، ولا بعينِ المجهر أيضًا، ولكننا نحسُّ آثاره تتجلى فينا، وتتجسد في الكائنات التي تحيط بنا”، وقد حار الفلاسفة والعلماء في الاصطلاحِ على مفهومٍ واحد للزمن، وهذا مما شرَّع لمعظمهم أبواب الاجتهاد، وفي الوقت ذاته كان مما جعل آخرون يعزفون عن ذلك كله كباسكال الذي وصفه بالمستحيل.
ولعلنا نتخذ ها هنا الزمنَ وقتًا، ووعاءً لكل شيء، وله مستويان -في السرديات- هما: زمن القصة، وزمن الخطاب.
المكان لغةً، واصطلاحًا:
جاء في لسانِ العرب عند ابن منظور لليث: “مكان في أصل تقدير الفعل مَفعل؛ لأنه موضع لكينونة الشيء فيه”، ولابن سيده “المكان الموضع، والجمع أمكنة”، وقد جرى بين اللغويين ها هنا اختلاف في وزنه وتصريفه بيد أنَّهم اتفقوا في معناه، أي الموضع.
أما اصطلاحًا فقد شقَّ الاصطلاح على مفهوم واحدٍ للمكان كما شقَّ ما قبله، وقد يرد عند النقاد والدارسين بأشكالٍ ثلاثة: الحيز، والمكان، والفضاء، ولكلٍ سبيله وأسبابه في الإيثار.
ولعلنا نحن نأخذُ المكان ها هنا على كونهِ موضعًا يستوعبُ الأشياء، ولا وجود لأيِّ شيء خارجه، كما أنه يتجلى في الأعمال السرديَّة بالوصف، وهذا الثاني أيضًا مكوِّنٌ محوري في السرد.
أما الزمكانية فقد كان لها وجودها في علم الفيزياء عند ألبرت أينشتاين وفي الفلسفة قبل أن يستعيرها ميخائيل باختين للدراسات الأدبية، وهي تُعنَى بارتباط الزمان بالمكان وتحدُّ بصرها إلى العلاقة القائمة بينهما.
المحور الأول
الزمان في رواية (ثالثة الأثافي)
رأى جيرار جينيت عند استخلاصه مقترحًا تحليليًّا لدراسة الزمن حتمية التباين بين الزمنين -أيْ زمن القصة، وزمن الخطاب-، وستمضي دراستنا على تتبعِ هذه المفارقات الزمنية في الرواية المختارة إلى اتجاهين: علاقة الترتيب، وعلاقة المدة، وسيأتي البحث على تفصيل ذلكَ كله في حينه.
أولًا:
علاقة الترتيب:
لـمَّا عمد الروائيون إلى خلخلةِ ترتيب الأحداث، قامت دراستنا هنا على رصد سير الأحداث وترتيبها بين الزمنين زمن القصة، وزمن الخطاب، ويقول د. محمد بوعزة في ذلك: “… فلو أعطينا قصة واحدة لمجموعة من الروائيين، فإنَّ كل واحد سيمنح لأحداثها ترتيبًا زمنيًا يتناسب مع اختياراته الفنية، وغاياته الفنية”.
وللأحداث في الخطاب مسيران مسيرةٌ إلى الماضي تسمى: الاسترجاع، وأخرى إلى المستقبل فتنتسب إلى الاستباق، وفي الأسفل بعض تجلياتهما في الرواية.
1-1 الاسترجاع والاستباق:
“سيهلك الحرث والنسل، سيفنى الزرع ويجفُّ الضرع، ستبتلع المياه هذه التلاع…”، استهلَّ الروائي روايته باستباقٍ زمني، نبوءةٍ تعرج إلى المستقبل، ثمَّ لم يلبث أن عاد بعد تمام لفظها؛ لينسبَ النبوءةَ إلى صاحبها (رشيد) إحدى شخصيات الرواية، وكان ذا العزو في الترتيب الزمني استرجاعًا خارجيًّا؛ لأنه استعادَ حدثًا قبل بداية الحكاية، والمؤشر الدالُّ على السرد الاسترجاعي هنا هو الفعل الدال على زمن الماضي، إذ يقول: “ظلَّ رشيد يهجس بنبوءته هذه مدة إقامته في الهميجة…”، ثم استمرَّ السرد ها هنا في صورةٍ استرجاعيَّة خارجية لحال (رشيد) وهو يستشرفُ مآل القرية، ويلحُّ على الرحيل.
تتابعتِ الصور الاسترجاعية تارةً تُطلِع على حال أصحاب القرية في تلقِّيهم النبوءة “أخذَ الجدل حول الرحيل يتَّسع بين مؤيد يرى اللحاق بفالح أنسب الحلول، ورافض يرى الهميجة بطبيعتها المحاطة بالجبال قادرة على احتواء منازل القبيلة”، وأخرى على رشيد صاحب النبوءة “أصرَّ رشيد على رأيه؛ فقرر أن يترك التلاع…”.
ثم تعودُ لتُجلِّي العملية الاسترجاعيَّة الـمُباينة التي أرخت سدولها على كتفي رشيد “استرجعَ ذلك الماضي…” وهو يهمُّ بالرحيل.
كلُّ ذلك في الرواية جاء استرجاعًا خارجيًا يُشير إلى أحداثٍ سابقة بدلالةِ الأفعال الماضية؛ ليجلِّي جانبًا من القصة حين تلقى عقلًا خاويًا مما حوتْه.
وتسير الرواية في سردٍ استرجاعيٍّ يتخللها تهدئةٌ للسرد أو تبطيءٌ له بالمقاطع الحواريَّة، كما جاء بين ثنيتيّ استرجاع: ” – وش صابك يا رْشَيْد؟ الجماعة كلهم تركوا الديرة وأنت راجع لها؟”، وكان للسردِ يدٌ في تنظيمِ الحوار بألفاظٍ مثل: “نظر إليه حمدي – امتعض رشيد، وقال… – ثم التفت مناديًا”، فلم يُترَك الأمر على سعته للشخصيات.
ثم ما يلبث الاسترجاع الخارجي أن يحول إلى الداخل، فيصير بين استرجاعٍ داخليٍ تكميلي، وتكراري.
وتتمثل الاستباقات على صورة هواجس، أحاسيس، ومُدركات في رؤوسِ الشخصيات، كإدراكِ مرزوق “لم تكن الحياة سهلة المتناول” هذا الإدراك الذي انتزع سماته الاستباقية بما جاء بهِ السرد في السطر الذي يليه مباشرةً “هذا ما أدركه وجرَّبه مرزوق…” فكأنَّ الترتيب السردي للقصة هنا قفز فقزة إلى الأمامِ ثم عاد، وهو استباقٌ داخلي تكراري (إعلاني)، الاستباق الذي يفجَّر في نفسِ القارئ شعورَ الترقب والانتظار.
ويتكرر في ذات المشهد مقطعٌ استباقيٌ آخر “لكن كيف للمرءِ أن يعيش وحده؟ ماذا يكسب حين يغادر أهله من أجل طلبِ العيش؟ أليسَ الموت في كنفِ العشيرة أرحب وأسمح من الحياة الشاحبة بين وجوهٍ لا يعرفها؟”.
ثانيًا:
علاقة المدة، أو إيقاع السرد من حيث البطء والسرعة:
لإيقاعِ السردِ أو الزمن حالتان، أولاهما: السرعة، والأخرى: البطء، وتتحقق الأولى -غالبًا- بتقنيتيِّ الخلاصة أو التلخيص، والحذف، أما البطء فيتجلَّى بتقنياتٍ مثل: المشهد، والوقفة، وسنأتي على تفصيلِ ذلك مع تجلياتِه في الرواية.
1-2 تسريع السرد (الخلاصة – الحذف):
تعني الخلاصة هنا عرض أحداثٍ استغرقت زمنًا طويلًا في القصة بأسطرٍ قليلة، أما الحذف فيكون بتخليةِ مدة طويلة أو قصيرة من زمنِ القصة مكانَها في الخطاب، وسأعرض بعض تجلياتهما في الرواية.
نحا التسريعُ في الرواية غالبًا نحو غبيش (بطل الرواية) وصاحبته، وتجلَّى في المدة التي قضوها معًا، فلم يعرض السرد لذلك مفصَّلًا بل جاوزَها بأصابع قدميهِ سريعًا، وذلك مثل: “مضت الأيام فحظيَ غبيش من سمحة بما زاده تعلُّقًا بها…”، فهذا تلخيصٌ ضمني يدفعُ القارئ إلى تقديرِ عددِ الأيام، فلم يذكرِ السردُ المدى الزمني لما قضوهُ معًا هنا، وهو كما غضَّ عن الزمنِ الذي زادهما تعلُّقًا ببعضهما اختزلَ أيضًا الأحداث التي تفجرت منها ينابيعُ هذهِ المشاعر فلم يتعرض لتفاصيلها، بل اكتفى بالاسمِ الموصول الذي احتضنَ كل تلك الأحداث الـمُسيِّرة نحوَ التعلُّق، وتُركَ البابُ للقارئ مشرَّعًا في تخيُّلِها.
لكنَّ التلخيص الضمني هنا لم يلبث حتى عادَ تلخيصًا محددًا أو هو أقربُ إلى التحديد، لقد كُفيَ القارئ مشقة تقدير الأيام التي مضت ووُضِع لها حدٌّ يسيحُ القارئ بالتقدير داخله ولا يجاوزه، وذلك حين جاءَ أثناء وصفِ حال غبيش وعمله بعد زواجه: “…حين داهمت سمحة حمى قبل انقضاء الشهرِ الأول”، وفي هذا كما قلت تصييرٌ للتلخيصِ من التضمينِ إلى شيء قريب من التحديد.
وفي تلخيصٍ آخر يجيءُ: “بذل لها من الطبِّ الشعبي والخبرات كل ما في وسع البدو، إلا أن الأجل وافاها بعد أسبوعٍ من إصابتها”، وهو تلخيصٌ صُرِّح فيه بالمدى الزمني، لكن لم تُذكَر الأحداث التي حواها أسبوعُ الإصابةِ مفصَّلةً، بل أُجمِلت في أسطر، وفي هذا تسريعٌ جليٌّ للسرد.
ويجيء هنا تسريعٌ آخر يتعلق بحال ابن بركي (والد الفتاة وعم غبيش): “أما ابن بركي فمكثَ في حزنهِ شهرًا قبل أن ينتبه إلى أنه فقد ابن أخيه الذي دُفِن مع ابنته فلم يبقَ منه سوى ظلالٍ شاخص…” وهو تسريعٌ بتقنيةِ الحذف المعلن؛ إذ تحددت بهِ المدة المحذوفة -أي الشهر-، ثم حُذف من السردِ ما تضمنه هذا الشهر في القصة، ولم يُذكَر منه غير الحزنِ شيئًا.
ويجيءُ السرد بحذفٍ آخر -في حديثٍ عن مرزوق-: “- الجوع كافر والفقر يجلب الموت. تنهد بهذا الشطر، وظل يردده طوال غيابه عن ربعه منذ سافر باتِّجاه الشرق”، فلم تُذكر مدة غيابه كما أُخفِيت الأحداثُ السارية فيها عدا تردادهُ الشطر.
2- 2 تبطيءُ السرد، أو تعطيله (المشهد – الوقفة):
يُعطَّل السرد أو يُؤخَّر بتقنياتٍ زمنية كالمشهد، والوقفة، والمشهدُ يكونُ بإحجام السرد عن قيادةِ النص وتفويضِ الـمَهمة إلى الحوار، أمَّا الوقفة فهي توقفٌ أو تعليق للقصة وتتحقق بلجوءِ الساردِ إلى الوصف، وسأعرض بعض تجلياتهما ها هنا.
مثالُ المشهد: “- هذي ثالثة الأثافي يا حمدي، عسى يكون فيها العوض والخِيرةْ.
قال ذلكَ وأنشد على طريقته:
– عز الله أنّي بين هذي وذيّه ضيّعت من شهب الليالي تعاليل
فردَّ حمدي مازحًا:
– ما يحرم المقرود ظهر المطيّة إلا عزوفه عن طريقَ الرجاجيل
شعرَ مرزوق بنقدٍ لاذع موجه له في باطن هذا البيت فامتعضَ، وقال مستدركًا:
– لا والله يا ابن عيد، حدّني الوقت مثل ما حدّكم.
وأضافَ على عادته حين يستفزه العتب:
– ظعن الساري ولا طعن الزاري!”.
يجري في المشهدِ حوارٌ بين مرزوق وحمدي في مجلسٍ بعد عودةِ مرزوق إلى الهميجة وهو يقصُّ عليهم خبره في الغياب، ويضمُّ المشهد ذراعيهِ على التوتُّر، والاحتدام بين الطرفين، وفيهِ يترك السرد المِقوَد للحوار، ويكتفي بالتوجيهِ الظاهر في عباراتٍ مثل: “قال ذلك وأنشد… – فردَّ حمدي… – وقال مستدركًا – وأضاف…”.
وفي المشهد يطابق زمنُ القصة زمنَ الخطاب، وورودُ المشاهدِ وافرٌ في الرواية غير أنَّا نكتفي بما ذكرنا.
وللوقفِ تجلٍّ في مثل الوصفِ الذي جاءَ لشهباء (زوجة مرزوق): “كانت شهباء امرأة وافرة الجمال، حسنة التبعّل، (سَنْعة) كما يذكرها دائمًا…”، وهي وقفة وصفية صغيرة المساحة تعرضُ للقارئ شهباء؛ لتُزيح اللوم عن كتفي مرزوق.
وكذلك يتجلى الوصف ثانيةً في الحديثِ عن مرأى سمحة ليلةَ عرسها حين ظهرت لغبيش: “بدت لهُ قمرًا ثانيًا يطلُّ من خلفِ السدو كما يطلّ قمر الوادي في صورة أضاءت له كل مساربِ الأودية”، وهي وقفة وصفية تقومُ على الرؤية البصريَّة، وفيها إيماءةٌ إلى تأثيرِ سمحة على حياةِ غبيش؛ فهي كما بدت له قمرًا يضيء الأودية، أضاءت بتبدِّيها له وارتباطها به نفسَه، والوصفُ بما يتضمنه من تشبيهٍ هنا متسقٌ مع الجوِّ العام للرواية.
المحور الثاني
المكان في رواية (ثالثة الأثافي)
يُعدُّ المكان عنصرًا هامًّا في البناء الروائي؛ إذ لا وجودَ لأيِّ شخصية خارجَ حدوده، وكلُّ حدثٍ جارٍ في الرواية إنما هو جارٍ فيه، خاضع لسلطته، وكما يقول د.عبد الملك مرتاض في حديثه عن أهمية الحيز -كما يؤثر أن يسميه-: “فكأنَّ الذي يبقى من آثارِ قراءتنا لأيِّ عملٍ أدبي يمثُل غالبًا في أمرين مركزيين: أولهما الحيز، وآخرهما الشخصية التي تضطرب في هذا الحيز بكل ما يتولد عن ذلك من اللغة التي تنسج، والحدث الذي تنجز، والحوار الذي تُدير، والزمن الذي فيه تعيش”، وفي ذلك إشارةٌ إلى أن المكان عنصر محوري في السرد.
وسأصنف الأمكنة التي توافرت في الرواية اتكاءً على ثنائية الأماكن المفتوحة – المغلقة.
1 – 2 الأماكن المفتوحة:
(الهميجة):
هو المكان الرئيس الذي تدور فيه أحداث الرواية، ويطوفُ عليه موضوعها، فما بينَ مستقبلَها الذي أضحى بالتنبؤِ غذاءً للقلقِ في نفوسِ ساكنيها، وماضيها الذي صارَ حطبًا موقدًا للتعلُّق، ورفضِ الرحيل.
وهي قريةٌ أو كما يرد في المشاهد الحوارية (الدِيْرَة)، وهي مكان السكن، وكما وردَ عند ابنِ منظور “والقرية من المساكن والأبنية والضياع، وقد تُطلَق على المدن”.
(منطقة النّخَيْل):
“منذ استقرَّ مرزوق في منطقة النّخَيل…”، هذا المكان هو الديار التي نزلَ بها مرزوق في غيابهِ عن الهميجة، الغياب الذي امتدَّ ربع قرن -أيْ ما يعادل خمسَ وعشرين سنة-.
التلُّ الجبلي:
“والتلُّ: الرابية” وهي ما ارتفع من الأرض، وقد كان لهذا المكان حضوره في الرواية، ولا غروَ إذا استحضر القارئ أنَّ قصة الرواية إنما هي سائحةٌ وسط الشعاب.
2 – 2 الأماكن المغلقة:
مجلسُ القبيلة:
هو موضعُ اجتماع أفراد القبيلة، ومَنبتُ قراراتهم وأعيانهم، وقد حضرَ في الروايةِ حضورًا ساطعًا؛ لا يُجاوز.
السوق:
موضعُ البيع والشراء، وهو هنا مختصٌّ -غالبًا- بسوقِ الماشية، وهذا متسقٌ مع أجواءِ الرواية، وقد يُعدُّ من الأماكنِ المفتوحة خاصةً إذا ما تذكرنا أنَّ القصة تدورُ بينَ بدوٍ رُحَّلٍ يتتبعونَ مواضع الكلأ في الصحراء، لكنه وردَ في الرواية وفيه أماكنٌ مغلقة كالمخيم المنصوب؛ ولأنهُ ولو لم يُحَد ببناء فهو محدودٌ بموضِع إذ ليست كل القرية سوقًا.
أمَّا المنازل تلكَ الأمكنة التي لا يجاوزها أيُّ دارسٍ للأماكن المغلقة في الروايات، فإنَّا جاوزناها لخفوتِ صوتها في الرواية -كما نرى-؛ وهذا عائدٌ إلى طبيعةِ الشخصيات في الرواية، فالشخصيات هنا بدويَّة درجتْ على التنقُّلِ وعدمِ الاستقرار؛ لذا فعلاقتها بالمنازلِ ليست مُهيأة للوقوفِ عليها.
المحور الثالث
تجليات الزمكانية في رواية (ثالثة الأثافي)
إنَّ الزمكانية لفظ منحوت من كلمتي الزمان – المكان، وهو مصطلح يعود على أصلهِ في اللاتينية المنحدر من جذرين لغويين هما: chronos وتعني الزمن، وtopos الدالَّة على المكان، واجتماعهما يُعطي الكرونوتوب (chronotope).
وفي تعريفِ جيرالد برنس: “السمة الطبيعية والعلاقة بين المجموعتين الزمنية والمكانية، والمصطلح يشير إلى الاعتماد المتبادل الكامل بين الزمان والمكان”.
وسأعرض في هذا البحث بعض تجلياتها في الرواية المختارة، وذلك بتقسيمها إلى صورٍ للأزمنة.
صورة زمن القلق:
للقلقِ وجودٌ مذ الصفحات الأولى في الرواية، ممزوجٌ بأحداثها مزجًا يصعبُ استخلاصه؛ لذا فقد شكَّل مع العنصرين صورًا تقتضي الوقوفَ عليها.
“تداعت لحميد هذهِ الأفكار وهو ناءٍ في عزلته، منطوٍ في تلِّهِ الجبليِّ، ليس حوله سوى أبناء صغار وزوجة لا تسند ظهرًا حين ينوء به حمل ثقيل”.
يقيم حميد (في الجعرانة) في تلٍّ جبلي بعيدٍ عن منازل القبيلة، وهو في صورتهِ هذه يفكر بما ستؤول إليه أمور القبيلة تارة، ويُسائل نفسَه عما يمكن أن يفعلوا تارة أخرى، يبحث في رأسهِ قلقًا عن أحوال من حوله، بين حمدي الذي يهمُّ بالرحيل، ومرزوق، ونفسه! يفكر في نفسه “إذ يأخذ مكانًا قصيًّا فيما لو حدثَ ما لا يرجوه من صروفِ الدهر”، فلم يمسِ حميد في هذا المكان مقيمًا في (تلٍّ جبليٍّ) كما هو الأمر على ظاهره، بل هو مقيمٌ بين فكَّيِّ القلق، كأنما النارُ موقودة من تحتهِ لا يستقرُّ على فكرة، ولا يطيبُ له بال، ويظهر هنا زمن المغامرة والحياة اليومية -بصورةٍ باهتة- في قلقِ حميد.
وفي موضعٍ آخر: “في هذه اللحظة لاحَ لهُ شبحٌ قادم من طرفِ الهميجة؛ فهجسَ: – المِشْيَةْ مشية مرزوق”.
كان هذا قاطِعًا لتوجُّسِ ابن بركي وهو يفكر في مصيرِ ماشيته والديار، هنا فاجأهُ مرزوق حاملًا في نفسهِ سؤالًا مشوبًا بالملامة. تلا هذه المفاجأة -في الخطاب السردِيِّ- تعطيلٌ تمثلَّ بالوصف، ولم يلبث حتى عادَ المقود إلى الحوار الذي طرحَ بهِ مرزوق سؤاله عن حالِ غبيش والمدى الذي سيترك بهِ ابن بركي غبيش على هذه الحال، والمقطعُ هنا يقفُ على مكانٍ زلَقٍ لا تثبت به قدمٌ لأيِّ شعور، فما بين القلق على مصير الماشية، والتفكير بحال غبيش وسبيل مداواته، ثم اللوم الذي تمثلَّ في سؤال مرزوق؛ فكانت بذلك يقظة ابن بركي التي تحوَّلت بهِ من قلقٍ إلى قلق! وزمن الكرونوتوب هنا هو زمنُ المغامرة.
صورة زمن الحزن:
لفَّ الحزن ذراعيهِ على الشخصيات في مواضعَ كثيرة، لا سيما غبيش الذي فاز بالقسمة الكبرى منه؛ فصار بفقدهِ سمحة شخصًا آخر، كأنما سُلِب نفسَه.
“أمَّا غبيش فذهبَ بهِ الحزن إلى أودية سحيقة، نسيَ معها التلاع وأودية المرعى في الزمن الخصيب، وغاصَ في أعماق نفسه فتشظَّى في كل مكان عبرته سمحة أو تركت به أثرًا من عَبَقٍ قديم”.
غبيش الذي كان أشدُّهم كرهًا لفكرةِ الرحيل من الهميجة، الفكرة نفسها كانت قادرة على استيعابِ كل هذا الكره في نفسه فوقَ ما كان يحمل للرحيل. تعلَّق غبيش بالديار حتى وهبَ كل ما عنده من سعةٍ ليخدمها، وحينما فازَ بسمحة وهبَ فوقَ طاقته؛ فخدمَها أكثر، حتى غاب أو حدثَ ما ساقَه للغياب، من حوادثِ الدهر.
هنا صيَّرهُ الفقدُ شيئًا آخر، شيئًا غدا المكانُ في عينهِ غير المكان، حُلَّت عُقَد التعلُّقِ بالهميجة، وانطفأ النور الذي كان يبصر به غبيش، حتى صارت هذه الحال جسرًا عبرَه إلى فيهِ الغياب؛ فابتُلِع، وزمن الكرونوتوب هنا هو امتزاج زمن المغامرة والحياة اليومية.
وختامًا فقد توصَّلت الباحثة -في النهاية- إلى نتائج عدة، من أهمّها:
ظهرت في الرواية هيمنة الزمان على المكان، وهذه إحدى خصائص الزمكانية؛ لأنها في التعريفِ زمانٌ ومكان لا العكس، كما أنَّ المكان -في حديث معظم النُقَّاد- لا يمكن أن يكونَ دون حركة، والحركة إنما هيَ متمثلة بالسيرِ الزمانيِّ، وهيمنة الزمان في رواية ثالثة الأثافي إشارةٌ إلى تحقُّقِ العلاقة الزمكانية.
كانت هناك مراوحة بين التقنيات الزمنية في الخطاب السردي، ويُعدُّ توظيفها جميعًا دونَ السير على نمطٍ واحد تبيانًا وسببًا للتفاعل الناتج بين القارئ والقصَّة.
كانت الغُلبة في الرواية للأماكن المفتوحة مع حضورِ الأماكن المغلقة؛ وذلكَ عائدٌ إلى الطابع العام الذي حملته القصة.
نتَجت عن العلاقة التكاملية بين الزمان والمكان في الرواية حركة أوقدت في نفسِ القارئ الشوق للتلقِّي.
إحدى تجلِّيات العلاقة الزمكانية في الرواية تغيُّرِ الأماكن بتأثيرِ الزمن، كما هو ظاهرٌ في زمن الحزن وزمن القلق في موضعيهما من البحث.
أدَّت تقنية الاسترجاع دورًا بارزًا في الرواية، فصيَّرت الماضي حاضرًا ماثلًا أمام القارئ وأغرقته فيه.
أما أخيرًا فبابُ الزمكانية ما زال مشرعًا للقراءات الجديدة، وإناؤها لم يفض بعد.
———————–
المصادر والمراجع
أولًا: المصادر:
رواية ثالثة الأثافي: سعود حامد الصاعدي، المملكة العربيَّة السعودية – الرياض، دار مدارك للنشر، ط1، 2022م.
ثانيًا: المراجع:
تحليل النص السردي: د. محمد بوعزة، لبنان، الدار العربية للعلوم ناشرون – الرباط، دار الأمان – الجزائر، منشورات الاختلاف، ط1، 2010م.
دليل أكسفورد في الفلسفة: تِد هُنْدرتْش، المنامة، هيئة البحرين للثقافة والآثار، ط1، 2021م.
في نظرية الرواية: د. عبد الملك مرتاض، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، د.ط، تاريخ الصدور: شعبان 1998م.
لسان العرب: ابن منظور، بيروت، دار صادر، د. ط، د.ت.
المصطلح السردي: جيرالد برنس، ت: عابد خزندار، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2003م.
معجم السرديَّات: مجموعة من المؤلفين، تونس، دار محمد علي للنشر – وآخرون، ط1، 2010م.
معجم مصطلحات نقد الرواية: د. لطيف زيتوني، لبنان، مكتبة لبنان ناشرون – دار النهار للنشر، ط1، 2002م.
*باحثة سعودية
التعليقات