مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

من النعم الكثيرة التي منحها اللهُ الإنسانَ، نعمة البصر، ومن خلاله يرى الألوان وا …

الوجود المظلم

منذ سنة واحدة

1318

0

من النعم الكثيرة التي منحها اللهُ الإنسانَ، نعمة البصر، ومن خلاله يرى الألوان والمشاهد والأحداث والطبيعة، وكل شيء يصل إليه نظر عينيه.
إن ما دعاني إلى التفكير العميق وكتابة هذه المقالة هو ملاحظتي أن بعض الشعراء يفقدون حاسة البصر، ومع ذلك يظلون مبدعين ولا يتأثرون بهذا الفقد، وهذا هو سبب حضور فكرة المقالة في ذهني؛ وهو تعجبي من هؤلاء الشعراء الذين فقدوا بصرهم، ومع ذلك ينظمون الشعر ويصفون، ويكون وصفهم في غاية الدقة والإبداع، وأحياناً يفوق وصف المبصرين، ومنهم بشار بن برد، وأبو العلاء المعري، وشاعر الإلياذة والأوديسة اليوناني هوميروس.

والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني: من أين يستمد هؤلاء الشعراء إلهامهم؟
إن كل ما يراه الشاعر الكفيف مظلماً، ويرى الوجود حوله غارقاً في العتمة، فما هذا الإلهام الذي يتسربل به ويصف أحداثاً أو منظراً كأنه مبصر؟ ونأخذ على سبيل المثال أبياتًا للشاعر بشار بن برد يصف فيها جيشاً إذ يقول:
«وَجَيشٍ كَجُنحِ اللَيلِ يَزحفُ بِالحَصى
وَبِـالشَوكِ وَالـخَطِّيِّ حُـمرُ ثَعالِبُه»
ثم ينتقل إلى وصف آخر لا يقل دقة عن الوصف السابق، فيصف أحداث المعركة، فيقول:
«كأنّ مُثارَ النّقعِ فوقَ رؤوسِنا
‏ وأسيافَنا ليلٌ تهاوَت كواكبُهْ».
نرى في هذا الوصف كأن بشاراً يستمد الإلهام من ظُلمته التي تغشى عينيه فيحوله إلى نورٍ يبدد عتمته، ويرى بقلبه وسمعه وإحساسه، الذي يكون في كامل حضوره، حتى تتحوَّل الصورة في ذهنه إلى صورة واضحة كاملة الملامح؛ لذا فإنني أرى أن الوجود المظلم، عند الشعراء الذين أصيبوا بالعمى؛ يمدهم بالإلهام، ويساعد هذا الإلهام في تكوين شخصياتهم، وإضافة إلى الذكاء الفطري والإحساس العالي وحضور حواسهم الأخرى بفاعلية عالية لتحل مكان البصر، من خلال تكوين ماهية الصورة التي تتراءى لهم في خيالهم؛ فيتحول وجودهم المظلم إلى لحظات تجلية تشرق في أذهانهم عند حضور الإلهام، ومعه النور الذي يضيء إدراكه وخياله، فيصبح المشهد مكتملاً عند الشاعر.

حقيقةً نحن في حاجة إلى تسليط الضوء على هذا الجانب؛ وخصوصاً من ناحية البحث الأكاديمي، فنتناول حياة الشعراء الذين فقدوا بصرهم، ونمحّص أشعارهم؛ لنرى كيف كان الوجود عند هذا الشاعر ومن أين يستمد إلهامه؟
وكيف يصف وصفاً دقيقاً كأنه لم يفقد بصره؟

* كاتب سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود