الأكثر مشاهدة

د. خالد البغدادي عند البحث في الذاكرة الفنية للعالم العربي والإسلامي لا بد من ال …

(المنمنات) فن التصوير الإسلامي

منذ سنتين

1369

0

د. خالد البغدادي

عند البحث في الذاكرة الفنية للعالم العربي والإسلامي لا بد من التوقف عند مرحلة من أهم المراحل الدالة والفارقة في تاريخ الإبداع الفني والبصري لشعوب هذه المنطقة، إنه فن “المنمنمات” الذى تميزت به الثقافة الإسلامية في الشرق، وقل أن تجد له نظيرًا في أماكن أخرى، وقد أصبح مصدرًا مهمًا من مصادر البحث الفني والتاريخي عن طبيعة الحياة في هذه الحقبة التاريخية، فالعمل الفني هو ذاكرة الناس وعقلهم الباطن الذي يحفظ موروثهم الثقافي والحضاري والقيمي وتشي لنا عن أخبارهم وتدلنا على خصائص الزمان والمكان. 

وفن المنمنمات هو فن عريق عرفته الحضارة الإسلامية مع بدايات الفتوحات العربية، وتعد إحدى المظاهر البارزة لعبقرية الحضارة الإسلامية التي تجمع بين القيم الجمالية والثقافية، وكان يعرف قديمًا -خاصة في البلدان العربية- باسم “فن التزاويق” وقد طور الفنان المسلم هذا الفن الذي ورث أصوله من الحضارات السابقة على الإسلام، خاصة الحضارات الهندية والفارسية.

وقد انبثق فن المنمنمات في الأساس من فنون الكتاب وبالتحديد من (الرسوم التوضيحية) المعروفة اليوم باصطلاح (الموتيفات) التي ترافق في العادة بعض النصوص الإبداعية، الأدبية، أو العلمية، أو حتى السياسية؛ لتزيد من توضيح ما تطرحه من أفكار، وموضوعات، وصور متخيلة وتزيينها في آن واحد، فالمنمنمة هي رسوم مصغرة تحلّي الصفحة وتضيء النص المكتوب وتحاول إيضاح ما التبس منه بغية الوصول إلى هدفه وغايته.

 وللمنمنمة جانبها التفسيري للنص وجانبها الإيضاحي لما ورد في النص من معلومات، ولها جانبها الفني أيضًا لأنها تقدم لوحة فنية تحمل المفاهيم الجمالية والصياغات التعبيرية للفكرة، فهي تُجمل الصفحة المخطوطة وتوفر للقارئ متعة بصرية تساعده في استيعاب المعلومات وتدفع به إلى التواصل مع النص، ثم أصبح هذا اللون من الرسم والتصوير فنًا قائمًا بذاته، يمكن اعتباره نوعًا من (التصوير الإسلامي)

ويتميز هذا النوع من التصوير الإسلامي بخصائص مميزة تشمل الجوانب التقنية والأسلوبية والوظيفية التي يطمح إليها هذا التصوير، وتربط فلسفة التصوير في الإسلام بين العالم المادي والعالم الروحي، وبين الإنسان والكون في إطار عرفاني ينزع إلى الكمال ويجعل من أعمال الفن وكأنها نوعًا من ممارسة طقس ديني!

 لقد وصل الفنان العربي والمسلم في فن (المنمنمات) إلى تحقيق لوحة فنية متفردة  من حيث الشكل والموضوع، وبمعالجة وصلت حد الدهشة والإعجاز لكثرة ما فيها من حشود وعناصر مرسومة بدقة شديدة وبألوان زاهية وخطوط عميقة التعبير، وقد ارتبط هذا النوع من أعمال الفن بتطور المخطوطات التي تناولت شتى المعارف العلمية منها والأدبية، وترقى أقدم المخطوطات إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وإن كانت أعداد قليلة منها معروفة في مصر وإيران منذ القرن التاسع الميلادي.

مدرسة بغداد 

 ومن المعروف أن فن المنمنمات ينقـسم إلى مدارس واتجاهات فنـية متعددة تبعًا لطبيعة الصياغة الفنية وتوظيف عنصر اللون والخط في بناء التكوين، بالإضافة الى أثر المكان وموجوداته ورؤية الفنان لعناصر الطبيعة المحيطة به، فهناك المدرسة الفارسية، والمغولية، والتركية، بالإضافة الى المدرسة العربية التي أصطلح على تسميتها (بمدرسة بغداد) رغم أنها تضم بداخلها العديد من المدن العربية مثل دمشق، والقاهرة، وقرطبة، وغرناطة بالإضافة إلى مدينة بغداد والموصل.

وقد تأثرت مدرسة بغداد في البداية بالفن البيزنطي والفارسي، لكن التطور الزمني جعلها تستقل عن هذه التأثيرات وتقدم أشكالها الخاصة، حيث رسمت المنمنمات في هذه المرحلة بدون إطار يحددها ويفصلها عن الكلام المخطوط والوجوه ذات ملامح دقيقة تتخذ شكلا دائرياً، والعيون كبيرة ذات جفون بارزة تذكر بملامح الوجوه في المنحوتات السومرية والآشورية، ثم تغطى الرؤوس بالعمائم المزركشة، أما الملابس فترسم فضفاضة مزينة بالزخارف والأشكال المرسومة بخطوط لينة متحركة، كذلك تميل الألوان إلى البساطة والدقة والبعد عن التكلف والصنعة.

لذا قدم الفنانون مفهومًا جماليًا خاصًا نابعًا من القيم التي بشر بها الدين الإسلامي، يرتبط بالوحدانية ويرد كل أشكال الجمال الظاهر إى مفهوم جمالي واحد، فالجمال هنا هو الجمال الأزلي الذي يكمن خلف كل جمال مرئي وظاهر، وحتى يتمكن الفنان المسلم من تجسيد ذلك بشكل عملي ابتكر صيغة الخط اللامتناهي الحركة (الآرابيسك) الذي جعل الأشكال ترجع إلى مصدر واحد، وكذلك الزخارف لأن حركة الخط هي التي توجد الأشكال، وهي التي تحكم وتتحكم بكل ما هو مرسوم أو مزخرف أو مصور، إن المصدر الرئيس هو المطلق اللامتناهي في الحركة الذي يرد كل شيء إليه، وهكذا رسم الفنانون زخارفهم بحركة لا متناهية، وصوّروا المنمنمات بتدرجات في حركة الخط اللين، وحركوا ألوانهم عن طريق مفاهيم الإضاءة والتنسيق بين الخط واللون، وتوصلوا إلى صياغات رمزية للألوان تمنح التكوين التناغم والحيوية المطلوبة.

ويعد كتاب (كليلة ودمنة) أول كتاب عربي ظهرت فيه هذه المنمنمات، ومن أشهر الكتب التي احتوت على فن المنمنمات أيضًا (مقامات الحريري) وكتاب (الأغاني) لأبى الفرج الأصفهاني وكتاب (الكواكب الثابتة) لعبد الرحمن الصوفي. 

ويعد يحيى الواسطي أحد أهم المصورين الذين عرفتهم الحضارة العربية، بل من أفضل فناني العرب قدرةً على التعبير كونه مصور وملوّن ورسّام منمنمات ، وقد عمل رسامًا لدى الخليفة المستنصر بالله العباسي مابين عام 1242 و 1258، ورسم أكثر من نسخة من مقامات الحريري وغيرها من أمهات الكتب العربية. 

تأثيرات معاصرة

وقد استمر فن المنمنمات الإسلامية بالتطور والانتشار حتى العصر الحديث، حيث اهتم بهذا الفن مجموعة كبيرة من الرسامين في الدول العربية والإسلامية الذين حافظوا على خصائص ومقومات المنمنمة الإسلامية بعد أن منحوها روحًا معاصرة، كما تأثر به عدد كبير من مشاهير الفنانين العالميين، ومنهم الفنان الفرنسي “أوجين ديلاكروا” الذي عمد إلى نسخ بعض المنمنمات الإسلامية من شدة إعجابه بها وبالثقافة العربية بشكل عام. 

ويعد الفنان الجزائري “محمد راسم” امتداد حقيقي لمدرسة المنمنمات الإسلامية لكنه عمل على تطويرها ومنحها أبعادًا جديدة، وأضفى عليها من شخصيته ووجدانه وما يتوافق مع روح عصره، وبقي يعمل من أجل ازدهار هذا الفن إلى أن وافته المنية سنة 1975 ، تاركًا وراءه تراثًا هائلًا من التحف والمنمنمات الإسلامية.

وفي الوقت الذي كانت فيه الجزائر تتعرض لمحاولات التغريب وطمس الهوية، جاءت أعمال راسم بمضامينها الوطنية لتكون إعلانًا عن فن جزائري أصيل، ولتسهم في التعريف بالجزائر تاريخًا وأمة عبر معارضه التي أقامها في مختلف أنحاء العالم، فكان بمثابة الحارس الأمين لتقاليد بلاده وبذلك استحق لقب (أستاذ الفن التصغيري الجزائري).

ومن أهم إبداعاته الفنية أنه أنجز تزيينا بديعًا لكتاب (ألف ليلة وليلة) يشمل على العديد من الزخارف والرسوم، وقد استغرق هذا العمل ثماني سنوات من العمل الدقيق والدؤوب، ما بين عامي 1924 /1932  رسم خلالها آلاف الهوامش والحواشي  ليتوج هذا الكتاب بالأكاليل والأوراق المتشابكة والخيوط المتداخلة والأزهار المذهبة، حيث يتجلى ذوق الفنان وبراعته في التنسيق والتعبير.

وهناك أيضًا من بين الفنانين المحدثين من التفت إلى فن المنمنمات واقترب منه بالدراسة والبحث والتأثر، ومن بين هؤلاء الفنانين الذين تأثروا بهذا الفن الفنانة التشكيلية الباكستانية “سامينا علي أختار” التي أحبت ذلك الفن وعشقت أسلوبه التصويري في تسجيل الوقائع والأحداث، ويظهر ذلك التأثر بفن المنمنمات في أعمالها من خلال ذلك المعرض الذي أقامته في قاعة الفنون التشكيلية الملحقة بمركز كرمة ابن هانئ بمتحف أحمد شوقي بالقاهرة، ذلك المعرض الذي ضم عددًا كبيرًا من أعمالها في فن التصوير.

وقد استخدمت في هذه الأعمال فن المنمنمات الإسلامية كخلفية وسياق تبنى عليه تصوراتها اللونية بطريقة “الكولاج” لتنطلق من خلاله إلى أبعاد تشكيلية أخرى مناسبة لرؤيتها الشخصية، حيث تقول: “كنت أنظر دائمًا إلى فن المنمنمات بشيء من التبجيل والاحترام منذ كنت طالبة بكلية الفنون، وبعد التخرج وقع اختياري على فن المنمنمات الإسلامية ليكون موضوعًا لهذه الرسالة ، وهو الأمر الذي جعلني أتعرف عن قرب على هذا الفن الذي لم يتوقف كما يظن بعضهم، بل ما زال هناك العديد من الفنانين الذين يمارسونه بشغف واهتمام”

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود