مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

  *القصيدة المغربيَّة تخفّفت من ثقل السّرديّات الكبرى، وانهمّت بقضايا التّش …

الشاعر المغربي صالح لبريني: القصيدة المغربيَّة تخفّفت من ثقل السّرديّات الكبرى

منذ سنتين

1181

0

 

*القصيدة المغربيَّة تخفّفت من ثقل السّرديّات الكبرى، وانهمّت بقضايا التّشظّي الذّاتيّ وتمزّقاتها

حاوره: د. أحمد علي شحوري_ لبنان

 

يُمثّل الشّاعر صالح لبريني صوتًا شعريًّا مغربيًّا له خصوصيّته المميّزة في فضاء القصيدة العربيَّة. وهو يطلّ على المشهد الإبداعيّ من موقع الاختلاف والرّفض لهيمنة الكتابة أحاديَّة المرجعيّة، ويحرص على نقض مركزيَّة الخطاب الواحد، وتقديم إبدالاتٍ مفتوحةٍ على الحرّيَّة والتَّجريب والتّفرّد، فتنسلّ من قصائده أصوات المهمَّشين المنسيّين عبر تاريخ نسق الثّقافة العربيَّة.
صالح لبريني من مواليد سنة 1970 في قرية أبزو المغربيّة. وقد بدأ النّشر الشّعريّ والنّقديّ منذ تسعينيّات القرن الماضي في الجرائد الوطنيّة والمجلّات العربية. شارك في العديد من الملتقيات الشّعريّة الوطنيّة. وقد صدر له حتّى الآن سبعة دواوين شعريَّة، هي: ديوان “حانة المحو” (2015)، ديوان “تغريبة النّاي” (2017)، ديوان “جدير بعزلة الغريب” (2018)، ديوان “الزّنجيّ” (2019)، ديوان “أبديّة كاملة النّقصان” (2022)، ديوان “كورال العابرين” (2022)، ديوان “أدغال تقفز بداخلي” (2023). إضافة إلى كتاب نقدي بعنوان “شعرية المخالفة: قراءات في الشعر العربي المعاصر” (2022).

التقيناه وكان هذا الحوار معه:

– من هو صالح لبريني؟ وما البيئة أو الظّروف التي صنعته وبلورت كيانه؟
من الصّعب الحديث عن صالح لبريني الّذي سقط أرضًا ذات سبعينيّات القرن الماضي، من دون أن يدري إلى أين ستقوده الحياة، هو كائن جُبل على السّير في جغرافيّات ممتدّة في الجلال والصّمت والعزلة، ومقيم في مسالك مشوبة بالدّهشة والحيرة والسّؤال، ليُعثَر عليه متورّطًا في لعبة الحياة، مجرّدًا من أيّ سندٍ وهو يواجه العواصف والعواطف، حيث اليتم المبكّر –فقدان الأب- والفقر والهشاشة، لسان حال الطّفل. لكنّ هذا الأخير آمن بالتّحدّي والمقاومة طريقًا لتجاوز المثبّطات الذّاتيّة والموضوعيّة، ومن أجل مواصلة الرّحلة في سبيل العلم والمعرفة والإبداع.

– حدّثنا عن الرّوافد الشّعريّة والثّقافيّة الّتي أسهمت في تكوين عالمك الشّعريّ. وسمِّ الآباء الشّعريّين الّذين ألهموك في تجربتك الشّعريّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الظّروف الأسريّة الشّاقّة والعصيبة لم تكن نقمة على الطّفل، بقدر ما كانت نعمة ومحفّزًا للاقتناع بأهمّيّة التّعلّم، فولج الكُتّابَ/ المسيّد، حيث تعلّم الأبجديّة الأولى وحفظ القرآن الكريم الّذي شكّل الدّهشة الأولى الممزوجة بالرّهبة والخوف، وبالرّغبة في اقتحام العوالم المذهلة والمحيّرة؛ وبالتّالي فالقرآن هو النّبع الأول الّذي نهل منه، لتأتي بعد ذلك مرحلة الدّخول إلى عالم التّعليم العموميّ؛ إذ شكّلت المدرسة الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة المنهل الثّاني، على الرّغم من العلاقة الملتبسة مع هذه الفضاءات الّتي تمثّلت للطّفل والمراهق سجنًا يجري فيه اعتقال حرّيّته وتعرّضه إلى العنف المفرط من لدن مدرّسين يفتقدون الحسّ التّربويّ والتّعليميّ، فكان التّوتّر والرّفض والتّمرّد جوابًا على واقع التّدريس آنذاك وصرخة في وجه العنف الممارَس على أجساد بريئة. ومع ذلك، بدأ الطّفل المشاغب، المتمرّد، الأرعن يتعقّل، وتحديدًا في المرحلة الثّانويّة، ليغدو الكتاب الصّديق الأعزّ والمنقذ من ضلال الشّغب والشّيطنة، والانفلات من غول التّشرّد. هكذا انتميْتُ إلى عائلة نجيب محفوظ وعبد الله عبد الحليم ويوسف إدريس والمنفلوطيّ وعبد الرّحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، ليبدأ الوعي بأهمّيّة القراءة يتشكّل، ثمّ بعد ذلك انفتح الطّفل على عوالم الشّعر العربيّ القديم الّتي شرّعت أفقًا مختلفًا قاده إلى تمتين صلته بشعراء الحداثة العربيّة، وعلى رأسهم الشّاعر أحمد المجاطي الّذي يمثّل الأب الرّوحيّ، والشّاعر الّذي ورّط “صالح لبريني” بالشّعر، ثمّ الشّعراء الآخرون عبد الله راجع، ومحمّد بنيس، ومحمّد السّرغيني، وعبد الكريم الطّبّال، غير أنّ المرحلة الجامعيّة ستتّسع فيها دائرة الرّفقة الشّعريّة مع أدونيس وبدر شاكر السّيّاب والبياتيّ وصلاح عبد الصّبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم من الشّعراء العرب، من دون إغفال المنبع الغربيّ المتمثّل في روّاد الحداثة الشّعريّة الفرنسيّة رامبو وبودلير ولوتريامون وأراغون، إضافة إلى الانكباب على الفكر الفلسفيّ والسّياسيّ، فتمخّض عن هذا وعيٌ عميقٌ بجدوى الإبداع.

– نشرت ديوانك الأوّل “حانة المحو” سنة 2015، وأنت بعمر 45 سنة، فهل ترى أنّ الكتابة الشّعريّة تُبنى وتُصنع بفعل القراءة والتّثقيف أو أنّ بذرة الموهبة لا بدّ من أن تنفجر باكرًا في كيان الشّاعر؟
الكتابة الشّعريّة رحلة في تلك المفاوز الرّحبة، المشكّلة باللّغة والخيال، في الذّات والعالَم، يخوضها الشّاعر بعقيدة راسخة بحثًا عن الكينونة، ولمعرفة خباياها المستعصية على الكشف والتّبصّر في الكون، ولن يتحقّق هذا إلّا عن طريق القراءة الّتي تحملك إلى جغرافيّات معرفيّة وحضاريّة وإنسانيّة تفضي إلى امتلاك القدرة على الإبداع. فالكتابة الشّعريّة تحصل بعد المجاهدة والمكابدة؛ وبالتّالي فمن دون قراءة لن تقوم قائمة للإبداع. وبخصوص الموهبة، فأنا أختلف معكم، لأنّني لا أومن بها، بل يمكن أن نطلق عليها اسمًا آخر، وهو الرغبة؛ فالشّاعر ينطلق من هذه الرّغبة الدّاخليّة الّتي يجري صقلها عبر الدّربة والمراس والتّجربة والقراءة.

– صدر لك مؤخّرًا ديوان بعنوان “أدغالٌ تقفز بداخلي”. حدّثنا عن الجديد في هذا الدّيوان.
صعب جدًّا أن يتحدّث الشّاعر عن إبداعه، لأنّ هذا من مهمّة النّاقد الّذي يجب عليه الاقتراب من النّصّ بوضعه على مشرحة النّقد بالقراءة المتأنّية، والسّابرة لمكنونه ومجاهله، ومع ذلك يمكن القول إنّ هذا الدّيوان هو محاولة للقبض على تفاصيل الحياة اليوميّة، بالحفر في ذاكرة الطّفولة واقتفاء أثر المكان والزّمان بأبعادهما الوجوديّة، ويعبّر عن الكينونة والهامشيّ بأسلوب مغاير ورؤية للعالم موسومة بالتّشظّي والمفارقة، بالقلق والسّؤال، وذلك انسجامًا مع متغيّرات الواقع وارتجاجاته، ويؤسّس لأفق شعريّ مخالف لا يؤمن بالأشكال والقواعد، بقدر ما يبني وجوده الإبداعيّ من داخله منصتًا لنداء الذّات ومجاهل الكون، بعبارة أخرى ديوان “أدغال تقفز بداخلي” يقول الحياة وتفاصيلها، الذّات بارتباطها بالذّاكرة والتّاريخ والإنسان، وبالوجود كمجرّة في حاجة للكشف.

– عناوين دواوينك تكاد تتأسّس على نسق المهمَّش في الثّقافة العربيّة، فيتواتر لديك التّغنّي بـ: “القرمطيّ، الزّنجيّ، البدويّ، الحُفاة، عمّال النّظافة، العصاة…”. حدّثنا عن منظورك إلى الثّنائيّة الصّراعيَّة بين المهمّش وسلطة المركز في الثّقافة العربيّة.
إنّ تاريخ الثّقافة العربيّة تاريخ صراعٍ بين المركز والهامش، وهذه الثّنائيّة صناعة سلطويّة؛ فالسّلطة لم تألُ جهدًا في تكريس ثقافة الاتّباع وترسيخها، من خلال إنتاج كتابةٍ تتخلّق في كنَفها معبّرةً عن تطلّعات القوى السّياسيّة والاجتماعيّة المالكة لآليّات السّلطة والمستفيدة من نِعَم الحاكم، فيغدو مثقّفُ المركز اللّسانَ النّاطق والمدافع عن مصالحها، والملمّع لصورتها والمجتهد لاستمراريّتها. وفي مقابل سلطة المركز تشكّلت، عبر التّاريخ، كتابة إبداعيّة تنتقد هذه السّلطةَ بخطاب الرّفض والممانعة؛ إنّها سلطة مضادّة على الرّغم من ضيق مجال التّحرّك وما تتعرّض إليه من ممارسات جائرة. لهذا فاستضافة المهمّش في أعمالي الشّعريّة نابع من ضرورة إحياء هذه الثّقافة، لتكون ذات حضور شعريّ وإبداعيّ، لمناكفة كتابات المركز المشوّهة للحقائق وللتّاريخ الحقيقيّ للمجتمع العربيّ. والاحتفاء به صرخة في وجه الظّلم والتّهميش والإقصاء. وأشير في الختام إلى أنّ هذه الثّنائيّة لم يعد لها محلّ من الوجود في ظلّ التّحوّلات والتّطوّرات التّكنولوجيّة الّتي يشهدها العالم اليوم.
– تقول في ديوان”حانة المحو” متحدّثًا عن الشّعر: “قال الحبر: هو مركب الجنون/ هو كشف المجهول/ هو اشتعال الأحلام”. فنلحظ أنّ الشّعر لديك يتجاوز حدود التّعبيريّة إلى تأدية وظيفة تتّصل بالكشف الكيانيّ وبالرّؤيا والسّؤال والقلق الوجوديّ، حدّثنا أكثر عن مفهومك للشّعر؟
الشّعر كائن لغويّ منفلت ومتفلّت، لذا فالقبض على كينونته أمرٌ مستحيلٌ؛ فهو شبيه بالماء يحفر مجراه منشغلًا بصوته الدّاخليّ المنبعث من تلك الجغرافيّات المنسيّة والمناطق المعتمة. يعشق الإقامة في الغامض والملتبس، واضح في الغموض، بسيط في المركّب المعقّد، حارس للجميل والجليل، أمين على رعاية المجاهل والعتمات.

– وتقول في ديوان “الزّنجي”: “فلا النّثر/ لا الشّعر/ ضدّان/ توأمان هما في عزّ البوح/ في لغة الخفق/ في نوح الأقاصي”. هل لك أن تضعنا في مقاربتك لكلّ من الشّعر والنثر؟ أين يلتقيان؟ وأين يفترقان في رأيك؟
إنّ العلاقة بين الشّعر والنّثر ممتدّة ومتجّذرة في الزّمان والمكان، لكنّها محفوفة بمواقف تبرز الصّراع الخفيّ بينهما، ومع ذلك يمكن القول إنّ الشّعر يستمدّ وجوده من النّثر قبل كلّ شيء؛ فالشّاعر يحوّل المعاني المطروحة في الطّريق في عقله نثرًا، وبعدها يختار لها اللّباس اللّغويّ والتّركيبيّ والإيقاعيّ الّذي يتناسب مع الدّفقة الشّعوريّة ورؤية الشّاعر للذّات والعالَم، غير أنّ الشّعر يسمو باللّغة البيضاء، بتعبير رولان بارط، إلى لغة سامية برؤية جان كوهين، أي الانتقال من الاستعمال المتداول إلى الاستعمال المجازيّ والاستعاريّ، ويتغيّا البعد الجماليّ، بينما النّثر يوظّف اللّغة في مستواها المعجميّ الّذي لا يرقى عن الاستعمال العاديّ، لكونه يروم الإخبار والإقناع؛ وهنا مكمن الاختلاف والتّباعد. ومع ذلك فإنّ كلًّا من الشّعر والنّثر يمتلك القدرة على التّعبير عن الموضوع ذاته، ولكن بالطّريقة الّتي تلائم كلّ واحدٍ منهما؛ لأنّ مقصديّة الشّعر تختلف عن مقصديّة النّثر. فالشّعر عماده النّظم أي التّركيب/ التأليف، أمّا النّثر فقوامه الكتابة الإنشائيّة. ومع ذلك، نجد في الشّعر ملامح النّثر، والنّثر تسري في عروقه دماء الشّعر.

– يكثر في قصائدك الانحياز إلى عوالم العزلة والتّيه والضّياع. ألا ترى أنّ العزلة تحجب الشّاعرَ/ المثقّفَ عن أداء دوره الرّياديّ في تغيير مجتمعه وأمّته؟
العزلة هنا عزلة فكريّة يرتضيها الشّاعر عن عقيدة وتصوّر، فهي على الأقلّ تجعله أكثر التصاقًا بارتجاجات الكون ومنعطفاته، في ظلّ اللّامعنى الّذي يهدّد الكينونة ويحجب عنها جلال الملكوت. والعزلة جسر لبلوغ الحقّ والعدل وقيم الجمال، والشّاعر يوجد في بيت المجانين بتعبير أوجين دي لاكروا؛ لذا يغادر هذا البيت في اتّجاه العزلة. ولهذا لا ينبغي أن تُفهم (العزلة) أنّها هرب من الواقع، بل هي التحام بقضاياه بعيدًا عن الانفعال، من خلال التّأمّل لالتقاط إبدالات المجتمع وتشكيلها جماليًّا. فمهمّة الشّاعر ليست تغيير العالَم، وإنما تغيير النّظر إليه.

– في ديوان” تغريبة النّاي” تُبدي موقفًا قاسيًا من المدينة. فهي إذا كانت مركزًا للحكم وصنع القرار السّياسيّ والوطنيّ، أفلا ترى أنّ هرب الشّاعر من فضائها يئد تطلّعه إلى التّغيير ويترك للآخرين فرصة التّحكّم من دون منازع؟ ثمّ ألا تجد أنّ النّزعة الرّومانسيّة تتحكّم بموقفك من المدينة وبموقف الشّعراء العرب عمومًا؟
المدينة العربيّة تجاوزًا لا تثير إلّا الضّياع والإحساس بالاغتراب والنّفي، لا لشيء إلّا لكونها تفتقد ملامح المدينة بالتّصوّر الغربيّ، ولانعدام مظاهر التّمدّن والتّحضّر؛ فهي في اعتقادي الخاصّ مجرّد قرية كبيرة، بعد أن عملت الأنظمة العربيّة على ترييف المدن، ومن ثمّ تزييف مظاهر المدنيّة. أمام هذا، وأنا القرويّ المثقل بمرجعيّات اجتماعيّة وثقافيّة، وبقيم البادية العربيّة أشعر بنوعٍ من التّقزّز والغثيان وأنا في حضرة “المدينة”، فما أعايشه من مفارقاتٍ ومتناقضاتٍ يقود الذّات إلى التّيه والتّشرّد والشّعور بالاغتراب الحادّ. وهذا الموقف لا صلة له بالنّزعة الرّومانسيّة، بقدر ما هو موقف فكريّ نابع من تجربتي في هذا المكان، ووجودي في “المدينة” ليس عبورًا وإنّما هو انخراط في مشاكلها وقضاياها قولًا وفعلًا، بينما الشّاعر الرّومانسيّ يعلن استقالته من الواقع بالهرب إلى الطّبيعة مخافة مواجهته.

– في رأيك ما خصوصيّة القصيدة العربيّة في المغرب؟ وما الّذي يميّزها من قصيدة المشارقة من حيث القضايا والموضوعات ومن حيث التّشكّل الجماليّ؟
عمر القصيدة المغربيّة المعاصرة ستّة عقود؛ وهو عمر قصير مقارنة بالقصيدة المشرقيّة المعاصرة، إلّا أنّها استطاعت أن تخلع عنها الجبّة المشرقيّة لتخلق صوتها الشّعريّ المختلف من حيث الرّؤية والتّصوّر لصوت الشّعراء المشارقة، وأصبح لها حضورها المؤثّر في الشّعريّة العربيّة، نظرًا للخصوصيّات الجماليّة الّتي تميّزها. وعلى الرّغم من أنّها تنصت لكلّ إبدالات المجتمع العربيّ، منخرطة فيها ومعبّرة عن القضايا المصيريّة للأمّة العربيّة، فإنّها شقّت طريقًا آخر؛ إذ تخفّفت من ثقل السّرديّات الكبرى، وانهمّت بقضايا التّشظّي الذّاتيّ وتمزّقاتها، وانتصارها لكلّ الأساليب الشّعريّة، حيث نجد التّعايش بين القصيدة العموديّة وقصيدة التّفعيلة وقصيدة النّثر من دون أن يثير ذلك صراعًا ما.

– بخصوص مستقبل الشّعر: كيف ترى مستقبله؟ وكيف تنظر إلى إشكاليّة قراءته، وتلقّيه من الجيل الشّابّ، وخاصّة في ظلّ الفضاء الرّقميّ؟
أعتقد أنّ الشّعر باقٍ، ولن يصاب بعيّ الحضارة وارتكاساتها، فبواسطته تستعيد الإنسانيّة عافيتها وكينونتها الّتي تتعرّض لمحنة وجوديّة بفعل ثقافة الاستهلاك والضّحالة والتّسطيح، وعلى الرّغم من أزمة القراءة، فلا بدّ من الإقرار بأنّ الشّعر، في أصله، نخبويّ. لذا لا ينبغي السّقوط في فخّ تراجع قرّاء الشّعر، فالأزمة شاملة بفعل الطّفرة التّكنولوجيّة والرّقميّة الّتي وسّعت من الهوّة بين القارئ والإبداع بصفة عامّة.

– ما مبعث هذه النّظرة المتفائلة إلى مستقبل الكتابة الشّعريَّة؟
هذه النظرة منطلقها الجوهريّ يكمن في كون الإنسان لا يحقّق كينونته ووجوده إلّا بفضل الإبداع الحقّ والمتجدّد الّذي يخاطب ما هو إنسانيّ وروحي فيه، ولأنّ الشّعر من الأجناس الإبداعيّة التي تقول الإنسان والعالَم بصيغة جماليّة. والوجود من دون شعرٍ عدم. والشعوب التي لا تؤمن بالشّعر تكون عدوّة الجمال والإنسان، ولا يمكنها المساهمة في بناء الحضارة الإنسانيّة، وفي غياب الشّعر لن يكون للحياة معنى. فبالشعر أدرك الإنسان وجوده وكينونته بالغوص في الأعماق الغامضة، وخوض غمار المغامرة. فالشّعر الخلّاق والأصيل هو مستقبل الإنسانيّة ومنقذها من هذا الاندحار الحضاريّ المخيف والمرعب.

– إنّك من الشعراء النّقّاد الّذين يحرصون على كتابة المقالات النّقديَّة بشكلٍ دوريّ إلى جانب الكتابة الشّعريَّة. ما الّذي تضيفه ممارستُكَ النَّقديَّة إلى كتابتك الشّعريَّة؟ وبالمقابل، ما الَّذي يمكن أن يتفرَّد الشّاعرُ/ النّاقدُ بكشفه أو الالتفات إليه في نقده؟
تؤدّي الممارسة النّقديّة، في اعتقادي الخاصّ، مهمّة جليلة تكمن في سبر أغوار النّصّ الشّعريّ، والكشف عمّا يميّزه ويتميّز به من جماليّاته وقيمه الفنّيّة. لهذا فطبيعيّ أنّي أمارس النّقد على ما أكتبه برؤية نقديّة، على الرّغم من أنّني لست ناقدًا، بقدر ما أنا قارئ محبّ للإبداع الخلّاق، أفتح حوارًا مع أصله ومَحْتِدهُ والمتعة والفائدة منه. والشّاعر- النّاقد يمتلك عينًا ثالثة بها يشرّح ويكشف ويكتشف الدّرر والجواهر الّتي يزخر بها العمل الإبداعيّ، هذا من حافّة؛ ومن حافّة ثانية أنّ الذين أثروا الممارسة النّقديّة في العالم العربيّ وطوّروا الدّرس النّقديّ هم النّقّاد الشّعراء الذين أسدوا خدمات جليلة للشّعر، وجعلوه حيًّا أبديًّا في الذّاكرة الإنسانيّة.

– في الختام هل من كلمةٍ أخيرةٍ لدى الشّاعر صالح لبريني؟
أيّها الشّعراء، أصدقائي في المكابدة، اجتهدوا في صنع الجمال ومقاومة القبح بالشّعر الجليل، واحفروا مجاريكم بعيدًا عن جلبة الضّحالة، وانتصروا للحبّ والعدل والحرّيّة.

 

الكلمات المفتاحية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود