544
099
0114
0122
0316
09
0116
0152
042
0256
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11782
04712
04363
174286
03948
0إعداد_د. عائشة العتيق
يأتي البعد الإنساني على رأس الاهتمام الأدبي، وحجر الزاوية في إنتاج الروايات، وكان المهمشون والبسطاء وأصحاب المعاناة “أبطال” متوجون في الراوية، وسر أول من أسرار تفوقها وحضورها في كل المحافل، وهذا لا يعني أن صرح الرواية لا يقوم بدون وجود القضايا الإنسانية، ولكن تماهي الرواية مع القضايا الإنسانية يكسب الرواية تعاطف القراء ويلبسها ثوب الاستمرارية والخلود، شرط ألا يتفلت قلم الموضوعية من بين يدي الراوي، فإذا أصبحت الرواية وسيلة لعرض القضايا فقط، فإنها تخرج من كونها فنًا إلى كونها نضالًا.
ولكي نمسك العصا من وسطها عمدنا إلى طرح القضية بين يدي الأدباء وأصحاب الرأي لنلمس من خلال آرائهم مدى تأثير العمق الإنساني في تميز الرواية، وفي وصولها إلى مصاف الرواية الاحترافية دون الإخلال بفنها من خلال المحاور التالية:
– هل وجود القضايا الإنسانية ركنا أساسيًا في بناء صرح الرواية باقتدار أم أنها أمور جانبية في التفوق الروائي ؟
–هل ترى أن الرواية هي صوت المهمشين والبسطاء وأصحاب الظروف وكيف يسخر الروائي إمكانياته الإبداعية لخدمة هذه الفئات أدبياً؟
– كيف يسهم العمق الإنساني في الروايات في صناعة الاحترافية الروائية وما هي أدوات الروائي المحترف في ذلك ؟
*إن لم يتجول المبدع بين أوجاع الفقراء سيموت إبداعه
يبدأ حوارنا حول قضية العدد الإعلامي الأستاذ فائز سالم بن عمرو من اليمن بقوله: جوهر الحياة ومحور دورانها حول الإنسان الذي كرمه الله، وتفاعله مع بيئته وواقعه وحياته ومخاوفه وانطباعاته ورغباته وصراعاته، فالحياة تدور حول الإنسان وبه، وهذا التوصيف برأيي ينطبق على الإبداع والرواية والفن بشكل عام، فلا قيمة لأي عمل إبداعي يظهر ويكشف أو يفضح دواخل الإنسان وبيئته وصراعاته وأمجاده وأطماعه، فلن تحقق النجاح إذا لم تخترق أعماق الإنسان، والإنسانية في عملك الإبداعي والروائي، وستكون كتابتك سطحية آنية سرعان ما تنسى وتفقد بريقها سريعًا.
عاش العرب بسطوة السيف والقوة تقريبًا، وانقلب هذا الواقع السلطوي في أدبهم وثقافتهم وكتاباتهم وحيواتهم، وينظر كثير من المفكرين والأدباء بأن أدبنا وشعرنا وتاريخنا كتب للأقوياء والملوك والخلفاء، وأهمل الشعب والمهمشين وكافة شرائح المجتمع، فعلى من يتعاطى الأدب والكتابة الإبداعية والروائية، ألا يغفل الجانب القاصر والمظلم من تاريخنا وأدبنا، إذا لم يستطع المبدع التجول والتسكع بموائد الفقراء ويطوف على أوجاعهم وأحلامهم وخرافاتهم وتمنياتهم، فسيكون كاتب سلطة ونخبة، ولن يسمع صوته وستموت كتاباته لتدفن مع أمراء المدح والهجاء التي يزخر بها تاريخنا وتراثنا، الرواية ممكن وصفها تكثيف إنساني يكشف إنسانية الحياة، رغم صراع المادة وسطوتها على الروح والروحانية.
إذا أردت أن تسمع وتقرأ ويعيش حرفك ولا يموت فكن إنسانًا، وإنسانًا حتى لو توحشت الحياة واستأسدت على الواقع. أتذكر باليمن منذ أن فرضت الحرب قدرًا على المواطن اليمني، أطاحت بإنسانيته وتعقدت نظرته للحياة، وسادت المتناقضات حياته بين الحب والقسوة والخوف والأمل والموت والحياة والرصاصة والقلم.
إذا تعامل المبدع مع أحداث الحرب وقسوتها دون تحليل وتعمق، فإنه سيصبح مؤرخًا، موثقًا، راصدًا، لكنه لن يكون مبدعًا وكاتبًا روائيًا، إذا لم تطارده صور الحرب وتناقضاتها، وصراخ الثكلى والمنكوبين ودموع الأطفال والنازحين، ويكتب بقلبه، ويلحظ ما لم يلاحظه الناس ويصارعه حتى تأتي لحظة الولادة والكتابة والتنوير والإنسانية.
*العمق الإنساني يُكسب الرواية القوة والخلود
ويشاركنا الرأي الشاعر والروائي عبد الله ناجي بقوله: الرواية نسيج الحياة، وأي خيط دقيق في هذا النسيج هو قضية إنسانية حتى وإن صغرت، فما يعتبره البعض أمرًا لا يُلتفت إليه ولا يحمل أي معنى إنساني، هو لدى البعض الآخر أسّ حياته ولبّ إنسانيته، كطفلٍ فقد حقيبته في يومه الدراسي الأول! أو بائعٍ جوالٍ سُرقت دراجته التي يسعى عليها لكسب قوته!. فالنظر إلى القضايا الإنسانية عبر أحداق الروائي المبدع هو نظر ذاتي في المقام الأول، ويذهب به إلى الموضوعي عندما يبدأ في معالجته روائيًا، يذهب دون أن يُفلت من بين أصابعه قلم الذاتية، ولا فرق عنده بين قضايا كبيرة تشغل بال أكثر البشر، وبين قضية صغيرة تشغل بال امرأة أضاعت صغيرتها في الزحام. ومن هذه الرؤية يمكن اعتبار القضايا الإنسانية ركيزة مهمة في صلب الرواية, ومن دونها ستبقى تلك الصفحات مجرد تهويمات وخواطر وركض في مساحات لا علاقة لها بالفن الروائي، ومن كلمة الفن انطلق إلى الجناح الآخر من أجنحة الرواية – ومن دونهما لا يمكن للرواية أن تحلق بعيدًا في سماء الأدب- ألا وهو الموهبة والصنعة والخيال، وهذه ركائز يكتسبها الكاتب بالدربة والمثابرة المعرفية والأدبية، وبدونها سيسقط البناء الروائي ولا يقوم له هيكل من الأساس.
الرواية فنٌّ بالدرجة الأولى، وهي حاجة دفينة تدفع بالروائي إلى التعبير والكتابة من أجل الوجود، ومتى ما سقط الكاتب في فخ المنفعة ودعوى القضية أو تعمد إقحام النص واعتسافه من أجل مساعد وخدمة المهمشين، فإنه يخرج بكتابته من مجاله الفني إلى المجال النضالي والترافع عن البسطاء والمعدومين، وقد رأينا أصوات بعض الكُتاب تصدح بنصوص انفعالية من أجل أفكار أو فئات من الناس، دون أن يكون لتلك الأصوات نغم إبداعي أو موسيقى الأدب. ولكن هذا لا ينفي كون فضاء المهمشين والبسطاء هو الفضاء الأوسع في عالم الرواية. وهو الأقدر على اجتلاب أذهان القراء وقلوبهم، وكذلك الأجدر بالبوح وتدفق القصص والمشاهد الحزينة والمؤلمة، وأن صوتهم هو الصوت الأعلى في جوقة الحياة. ومن منظور أدبي آخر فإن الرواية تميل إلى البساطة أكثر من الفنون الأخرى كالشعر والمسرح. ولذا كان قرّاء الرواية هم الأكثر. والبساطة هنا وإن كانت لا تُحيل إلى المعنى المباشر للسؤال، إلا أن بينهما قاسمًا مشتركًا ليس في البناء اللفظي فقط، فتناول الرواية للبسطاء والمهمشين سوف يجنح بها إلى البساطة العميقة، وهذا الأمر يُكتشف في زمن الكتابة أثناء تشييد المعمار الروائي، العمق الإنساني يُكسب النص قوة وخلودًا في روح قارئه؛ لأنه يلامس وجدانه، وينسرب داخله، فالحزن عند إنسان ما هو حزن عند إنسان آخر وإن اختلفت أسبابه وتباينت بواعثه، إذ أن الجوهر واحد عند البشر عامة، لذلك فإنهم يتقاسمون أرغفة الحزن والفرح والألم في كل قصة يقرؤونها أو يسمعون بها، وتلتصق بجدران قلوبهم كأنها قصصهم هم، وليست قصص أناس آخرين. والصناعة الاحترافية تتكئ في جانب منها على ذلك المدى العميق في النفس الإنسانية، وفي الوقت ذاته تتكئ على جوانب أخرى، والتي قد نقول بأنها أدوات الروائي، تأتي في مقدمتها إلمامه بأساليب السرد وتقنياته، والصناعة اللغوية، ومهارة البناء، والحصيلة المعرفية التي ستثري النص بشكل غير مباشر، بل وقد يكون بطريقة لا واعية، فمعارف الكاتب وفلسفاته ستنسكب مع الكلمات في لحظات التدفق الكتابي، وكل ذلك سوف يسهم في خلق وصناعة العالم الروائي الخاص بالكاتب.
*الرواية تشكل أركولوجيا هموم البشر
وتقول الصحفية الروائية وحيدة المي من تونس:
التطور الأركيولوجي للرواية غيّر مفهوم المهمّش والمهمّشين.
الصرخة الأولى انطلقت من الواقع ثمّ توسّعت باتجاه الكوني.
التحوّلات التي يعيشها الإنسان في العالم فرضت همومًا جديدة، وأخرجت الرواية عن دوائرها التقليدية. منذ ما يزيد عن مائة وسبعين سنة كتب الروسي “فِيُودُور دُوسْتُويَفِسْكِي“ أولى روايته “الفقراء” وتحديدًا في عام 1846م، وقد نفي بسجون سيبيريا القاسية ثمّ أعدم بسبب كتاباته. بعدها بست عشرة سنة كتب الروائي الفرنسي “فيكتور هوجو“ رواية “البؤساء“، ثمّ فتح الباب أمام الأدب ليكون صوت المعذبين في الأرض والمسحوقين والكادحين والمهمشين، وتحوّلت الرواية إلى صوت من لا صوت لهم، أولئك غير القادرين على التكلّم بصوت عال؛ للاحتجاج عمّا هم عليه من ظلم وبؤس وأوضاع مزرية. وأصبحت الرواية تُتيح مساحة للاحتجاج على كل ما يطال الإنسان من مظالم ويضيّق عليه عيشه ويمسّ من إنسانيته، فتنوعت الأقلام وبرزت أعمال أدبية حفرت في حقل المهمّشين بسبب الحروب والفقر والمجاعات والأوبئة والعبودية ومختلف الانتهاكات المهدّدة لإنسانية الإنسان، وأفرزت إصدارات كثيرة قادها لدى العرب الروائي المصري نجيب محفوظ الذي عرّى في رواياته الفقر المدقع في المجتمع المصري، وكان عبد الرحمن الشرقاوي قد تناول معاناة الفلاحين في الأرض، ويوسف إدريس في دفاعه عن الكادحين في رواية ” الحرام”، و الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري، والأمثلة كثيرة.
إن الرواية منذ تناولها للمشْغَل والهمّ الإنساني إلى اليوم، شبيهة بالأركولوجيا في اقتفاء آثار الإنسان عبر التاريخ. فمنذ البداية أعلن الكتّاب الحرب على الفقر والجوع والعبودية، واقتتال الإنسان ضد الإنسان في حروب طاحنة، وما أسفر عنه ذلك من ممارسات وسلوكيات، مثل تغوّل الأثرياء وسيطرة الطبقات البورجوازية، وتمدّد نفوذها الاجتماعي والاقتصادي، وإفراز طبقات مسحوقة تعيش التقسيم غير العادل لخدمة رفاه الأغنياء، وتولدت تبعًا لذلك مآسٍ كثيرة مثل استشراء الفساد والانتهاكات الإنسانية، والاتّجار بالبشر. وبرز أدب الأوبئة نتيجة جوائح اجتاحت العالم مثل الطاعون في القرون الوسطى والجدري والحمى الصفراء والحصبة. ولولا انفتاح الأدب على هذه الأوبئة ونقله لمعاناة الإنسان في مواجهته لها، ما كنا نعرف عنها اليوم شيئًا، ثمّ مع تراجع حمّى الحروب وخروج العالم بأسره من بدائيته الأولى تشكّلت جملة من الهموم الأخرى والقضايا، التي تطورت بتطوره وخضعت لنظرية “الارتقاء والتطوّر”. فالأدب أمام الرأسمالية المتوحْشة أوجد حلقات جديدة في مدار اهتمامه، وبات يتحدث اليوم عن صراع الإنسان مع التكنولوجيا وتحوّله إلى آلة، عن استشراء الفساد المالي بسبب طغيان المادة ونفوذ أصحاب الثروات، عن حروب جديدة هي حروب الفايروسات وصناعة الموت من طرف الدول المهيمنة، عن قضايا لصيقة بالإنسان مثل الحقوق والحريات بأنواعها. وبدأ عالم الرواية الجديد يتشكل مع تغيّر حياة البشر بمشاغل مختلفة، وكلما دخل مرحلة جديدة ترك آثاره في الأدب والفنون ومختلف التعابير في شكل صرخات عالية في وجه العالم. وبذلك، فإن الرواية تُشكّل أركولوجيا هموم البشر وإن توزّعت في الجغرافيا والتاريخ.
لسائل أن يسأل: كيف تخترق صرخات الكاتب في الرواية الحدود، وتصل إلى العالم؟ وكيف ينجح في استعارة ألسن الآخرين للتعبير بها؟ هنا تتدخل قدرته على التقاط القضية الإنسانية التي تحظي بأولوية التناول الإبداعي في حياة المهمّشين والمحرومين، فينطلق من تجربته الذاتية إن كان هو من يعيش تلك المأساة، أو من تجربة الآخرين للتعبير عن مصادر الضيم والألم والوجع وأوجه تلك المعاناة ومخلّفاتها، كما يعيش الكاتب معاناة مشتركة تتداخل فيها معاناة “الأنا” بمعاناة الآخر في قضايا تضعه مع غيره على نفس الصفيح الساخن من بني جنسه أو لونه أو عرقه أو ممن يشتركون معه في جغرافيا واحدة يعيشون مثله نفس الضيق والضيم فيكون لسان حالهم بالإبداع. فالواقع هو منطلق الصرخة الأولى، ينتقي منه الكاتب ما يستحق الطرح والمعالجة ليُدخله بعد ذلك إلى ورشة الخيال. وهنا يستنجد بقدرته على التخييل وصناعة الأحداث والشخصيات ويوظف طاقته في نقل الوضع كما هو أو أبشع منه بكثير حتى يُدير أعناق المهتمّين نحوه ويضعه تحت دائرة الضوء نقدا واحتجاجا، وهي كتابات على تنوّع مشاغلها تدخل في إطار الأدب التسجيلي الذي يوثّق لمرحلة مّا من حياة البشر في رقعة مّا على الأرض.
• تغيّر مفهوم المهمّش:
مع انفتاح الحدود، والتطوّر التكنولوجي، وتوحّش المجتمعات الاستهلاكية الشرِهة، وعودة تناطح القوى الكبرى وتناحرها، وتحوّل الإنسان إلى مجرد رقم في هذا العالم، توسّعت رقعة المَشغَل الإنساني. ووجد هذا الإنسان بمعارفه التي أحرزها وشهاداته العلمية التي راكمها، اختبار الانخراط في دائرة صناعة الشرّ أو التحوّل إلى مجرد مفعول به. وباعتبار أن العصر التكنولوجي المجنون اكتسح العالم وشمل حتى الدول التي لم تتهيأ لهذا الانتقال الحضاري أو غير القادرة على مسايرته. بذلك أصبح الإنسان يواجه هموماً مشتركة، أو ما يسمى بالهموم الكونية. فهو يواجه إلى جانب الحروب التقليدية حرب الفايروسات وصناعة الأوبئة، والتغيرات المناخية، ونهب الثروات، وحروب الماء، والهويّات والتحوّلات القيمية والاجتماعية. ووسط هذه الغابة المتشابكة توسّعت الرواية لتستوعب هذه الصدمات الكثيرة. وتغيّرت مفاهيم التهميش والمهمّشين، ولم يعد ذلك الإنسان الفقير، المغلوب على أمره هو المهمّش اليتيم، بل انخرطت شريحة جديدة من المهمشين في هذا العالم، وأصبح الإنسان غير المفكّر، وغير المنتج وغير القادر على تطوير قدراته وإمكانياته وغير النشيط، مجرّد رصيد بشري زائد عن الحاجة يدفع فاتورة ما يحدث في العالم من تحوّلات... طبعا هذه الفئة الجديدة تحتاج بدورها إلى من يبلغ صرختها، ويعبّر عن تدحرجها إلى المَطحنة الكبرى.
إن الرواية العربية على توسّعها ونضجها، تواجه اليوم “حالة إسهال ” ووفرة، فتحت المجال للركوب على القضايا الإنسانية وتوجيهها والاتّجار بها؛ لأجل جوائز مغرية ماديًا، أصبحت في السنوات الأخيرة عنصرًا فاعلًا في إعادة تشكيل المشهد الأدبي، وتحديد أولوياته، وظهور الكتابة تحت الطلب وعلى المقَاس، وهو موضوع يحتاج إلى طرح جدّي.
*أحب الروايات إلى نفسي المنطلقة من الواقع الإنساني
ويضيف الشاعر والروائي الحسن الكامح من المغرب رأيه بقوله: الرواية العربية أو العالمية بصفة عامة، هي خزان لكل الإبداعات الإنسانية الأخرى، فهي ليست مجرد حكاية تحكى عن شخصيات واقعية أو خيالية، فهي تتطرق في نفس الوقت إلى كل ما يتقاطع معها من كل الأصناف الأدبية الأخرى، لتكون ناطقة باسم كل الإبداعات. ومنطلقها طبعاً الواقع أو الخيال الإنساني، فالكاتب حين يكتب ينطلق من واقعه الخاص ومن ثم يحلق في عوالم أخرى إما في بيئات أخرى متشبثًا دائماً بمكوناته الثقافية والاجتماعية، فلا يمكن للروائي أن ينسلخ من ذاته وماضيه وحمولته الثقافية وما جاور ذلك ويكتب، ولا يمكن للروائي أن يكتب نصًا دون استحضار ذاته الكاتبة وذاته المعيشة، النص الروائي قابل للسفر عبر الأزمنة والأمكنة، وعبر الحضارات لكنه سيبقى دائمًا متمسكًا بواقع الروائي، إذ الروائي يستحضر شخصيات إما عاشت معه أو أمامه، أو حكي له عنها، أو قرأ عنها، ويضفي عليها خياله في الكتابة.
فالقضايا الإنسانية هي ركن أساسي في كتابة رواية، حتى ولو كتبنا نصًا روائيًا بلسان الحيوانات أو ما شابه ذلك، فإن الرسالة الأولى فهي للإنسان لا لغيره، لذا تبقى القضايا الإنسانية هي المحرك الأساسي للنص الروائي، فالنص الروائي متعدد الواجهات والقضايا التي تنكب في خانة واحدة، القضية الإنسانية إما بتناول سيرة بعض الشخصيات، أو ملامسة تفكيرهم في تغيير شيء ما أو الكفاح ضد شيء ما، فدائماً الشخصية الروائية لها مدلول خاص في النص الروائي، وتستمد مقوماتها وتفكيرها من الروائي. فلا يمكن أن تكون جانبية بصفة عامة، حتى ولو كتبنا نصاً روائياً عن الخيال العلمي فالمنطلق دائما يكون الواقع الإنساني وقضاياه المتعددة والمتجذرة فينا عبر الحقب التي تتوالى، فالروائي هو استمرار لروائي آخر ودواليك.
الرواية هي صوت من لا صوت له، ومن له صوت وأضاعه، الرواية هي للجميع كانت مكتوبة أو شفاهية، فلا يمكن حصر الرواية في فئة معينة من المجتمع… يمكن أن نقول إن الشعر للنخب لكن الرواية فهي للجميع ولا شك في ذلك، فحين نكتب عن الحب لا نفرق بين قارئ وقارئ بل نكتب للجميع، كان مهمشًا أو فقيرًا أو غنيًا أو يعيش في بحبوحة. علينا أن لا نفرق بين النص والقارئ، القارئ حر في اختيار ما يود قراءته من نصوص، لكن النصوص الجيدة تصل لكل الفئات. بكل صراحة هذا السؤال عميق جداً، أولا علينا أن نفهم ما معنى صناعة الاحترافية الروائية، هل نقصد بها الكاتب الذي يكتب سوى الرواية، أم هل هو الذي يعيش من الرواية. أم الروائي الحاصل على جوائز في الرواية. أم الاحترافية في الدول الغربية لا في الدول العربية. لأن هناك فرق شاسع بينهما. ففي الغرب مهنة يزاولها الكاتب. أما في بلادنا العربية فهي تكميلية.
كل كاتب كيفما كان مدخوله المعيشي معتمدًا على الكتابة أو غيرها، ويستغرق أيامًا وسنوات من عمره كي ينتج نصوصًا سردية فهو في نظري محترف، وقد اكتسب تجربة كبيرة في الكتابة الروائية، لأن التجربة الصناعة تؤخذ بالممارسة وبالسنوات الطوال التي يقضى فيها.
فمن رواية إلى رواية تنضج الذاكرة الروائية عند الروائي بالقراءة وبالملاحظة الشديدة في الوسط الاجتماعي، الروائي الجيد هو الدقيق في الملاحظات وتوظيفها توظيفاً جيداً عند الكتابة.
شخصيًا كل الروايات التي كتبت سواء نشرت أم لم تنشر بعد، منطلقها العمق الإنساني وأحب الروايات إلى نفسي هي التي تنطلق من الواقع الإنساني لإيصال رسالة إنسانية.
*الجانب الإنساني ليس ركنًا في بناء الرواية ولكنه يخلدها
ويشاركنا برأيه الكاتب والروائي عمرو العامري بقوله: وجود القضايا الإنسانية ليس ركنًا ولا شرطًا في بناء الرواية، أو “صرح الرواية“، وهناك نماذج كثيرة لعل منها رواية “النورس لجوناثان ليفنجستون.” وبطل الرواية هنا هو طائر يغرد خارج السرب، والرواية في النهاية هي بناء فني إبداعي مقنع سواء كانت الرواية واقعية أو ما بعد الواقعية، أو واقعية سحرية أو حتى روايات الخيال العلمي والغرائبي.
وكلما كانت الرواية محكمة البناء، وكلما غدت على مستويات عدة وكلما كُتبت بلغة إبداعية كلما كانت أجمل وأبقى، ولكن عندما تتماهى الرواية مع قضايا إنسانية فإنها تكسب تعاطفنا نحن القراء؛ لأننا نرى فيها انعكاسًا لنا ولحياتنا ولخيباتنا، وبالتالي تغدو الروايات الإنسانية خالدة.
سيفشل الكاتب أو الراوي “فنيًا“ لو ذهب للكتابة وفي ذهنه الانتصار للمهمشين والبسطاء والأقليات، والراوي ليس مكلفًا بالوعظ، ولا بإصلاح العالم. ولكن ومن خلال قدرته الفنية والإبداعية يمكنه التعرض لذلك، وبطريقة لا تبدو وكأنها وعظية أو تبشيرية، وكلما كان للكاتب القدرة على التمظهر بالحياد، كلما كان العمل صادقاً وجميلاً. ولعلي أستطيع القول الآن أن منصات التواصل والإعلام الجديد هي الأكثر قدرة وسرعة على الانحياز إلى البسطاء والمهمشين والمغتربين والمهاجرين والمهجّرين، وصورة واحدة أو وتغريدة واحدة مثلًا، يقرؤها الآلاف من الناس في نفس اللحظة قادرة على إحداث الأثر الإنساني. والعالم يتغير ومساحة البؤس والقلق والاغتراب تزداد، وتختلف أيضًا مقاييس اليوم عن مقاييس الأمس، وغدًا سنكون أسرى الذكاء الصناعي، الجني الذي أخرجناه من القمقم، ولن نستطيع إعادته أبدا. بل إن هذا “الجني“ أعني الذكاء الصناعي أصبح قادرًا على كتابة الرواية، ورسم اللوحة، والتغني بالشعر، تقول الروائية التركية إلف شافاك “بما معناه“ إن عشرين بالمئة من صناعة الرواية الجيدة موهبة، والباقي إصرار وعلاقات عامة وحظوظ. وهذا أيضاً ينسحب على عالم الإبداع. وهناك روائيون عظام لكنهم كسالى، أو لا مبالين وتوقف إبداعهم عند عمل أو عملين فقط، وهناك من لديه المثابرة ويقدم عملاً روائياً كل عام “بغض النظر عن الجودة“ ولدينا أمثلة في عبده خال، وواسيني الأعرج، وأمير تاج السر نماذج على الإصرار.
وعودة إلى السؤال حول العمق الإنساني، فإن لعمق الموهبة والتجارب الحياتية، والقراءات العميقة والخيال الإبداعي الواسع، الدور الأبرز في إنتاج عمل روائي جيد.
والرواية فنُ وليس علمًا، ودور الخيال في الفن هو الأقوى كمحرض، وبدونه تغدو الرواية عملًا مملًا حتى وإن لامس قضايا عظيمة.
أضافت الشاعرة والإعلامية منى حسن من السودان رأيها بقولها: كما هو متعارف عليه فإن الرواية الإبداعية شكل أدبي يتيح للكاتب التعبير عن مختلف قضايا الإنسانية وتجاربها من خلال السرد الذي يتجاوز السطحية، نحو استكشاف عمق العواطف والتفاصيل النفسية للشخصيات في الرواية. ولكتابة رواية إبداعية متميزة، يحتاج الروائي إلى الموهبة في الكتابة، والخيال الواسع، إضافة إلى حاجة الرواية الإبداعية إلى التحليق نحو الاحترافية التي تهندس الأحداث وتهتم بالتفاصيل، وهدم وإعادة بناء الواقع بما يخدم العمل الروائي، وإعمال المخيلة في إضفاء المزيد من الإثارة والتشويق والأحداث الجانبية للرواية التي تبنى أحيانًا على قصة من الواقع، عايش الروائي أحداثها أو سمع بها فألهمته كتابة رواية كاملة التفاصيل، أضاء من خلالها على أحداث جانبية متخيلة يجيب من خلالها عن تساؤلاته حول القصة، وتخيله لأحداثها الخفية. فالرواية نافذة لاستكشاف جوانب الإنسانية الخفية، وحوارات ذاته مع نفسها وما حولها، ومرآة تعكس تجاربه وعواطفه ورؤاه، ونظرته لنفسه وغيره، وما يحب أن يكونه وما لا يمت له بصلة. والجمع بين العمق الإنساني والأفق الاحترافي يخلق تجربة أدبية متميزة. فالرواية الاحترافية تشكل نقطة تماس بين الإبداع الفني والتأمل الروحي، حيث ينسج الروائي خيوط قصته باحترافية واقتدار تنقلها من الحكي العادي إلى الاحترافية، ووجود القضايا الإنسانية يعتبر ركنًا أساسيًا في البناء الروائي، حيث يثري التفاصيل، مما يجعل القصة أكثر عمقاً وجاذبية. وتسهم القضايا الإنسانية في إضافة بعد جاذب للرواية من خلال تناولها لمختلف تجليات النفس ومشاعرها وتناقضاتها البشرية مثل الحب، والصراعات، والتحديات، والهوايات، والعدالة الاجتماعية، وغيرها. وتعمل هذه القضايا على إبراز الجوانب العاطفية والفلسفية للشخصيات وتحفز التفكير لدى القارئ وتعزز تأثير الرواية، مما يحقق التفوق الروائي.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم القضايا الإنسانية في إلقاء الضوء على الموضوعات الاجتماعية والثقافية، مما يمنح الرواية بعدا يجعلها أكثر تواصلًا مع القرّاء من مختلف الخلفيات، فعندما يكون للشخصيات أهداف وتحديات تتعلق بقضايا إنسانية هامة، فإن ذلك يزيد من جاذبية الرواية ويجعلها أكثر إثارةً، فالقضايا الإنسانية لها دور حيوي في تحويل الرواية إلى تجربة غنية ومؤثرة تعلق في أذهان القرّاء أزمانًا طويلة بعد قراءتها.
ولطالما شكلت الرواية وغيرها من الفنون الأدبية صوتا للمهمشين والبسطاء، وساهمت في الالتفات إلى قضاياهم ومواجعهم. وذلك عبر ابتكار الروائي لشخصيات تمثل هذه الفئات وتسلط الضوء على قصصهم وتحدياتهم. وذلك من خلال تصوير الحياة اليومية والصعوبات التي تواجههم، وكشف الغطاء عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشونها.
كما يمكنه من خلال استخدام اللغة والوصف والتفاصيل نقل مشاعرهم وتجاربهم بسرد مؤثر يبني علاقة تعاطف بين القارئ وشخصيات الرواية، وينجح في إيصال ما يريد من خلالها، وفي هذا يقول ستيفن كينغ: “أنا أخلق تعاطفًا مع شخصياتي، ثم أطلق الوحوش“.
ويمكن للروائي المحترف إعمال مقدراته الفنية والإبداعية في الرواية من خلال الوصول إلى الفكرة أولا، ودراستها بعمق، وتحديد المكان والزمان، سواء كانا حقيقيين أم افتراضيين، ومن ثم بناء الشخصيات التي تجسد فكرة الرواية وتتفق مع أحداثها، ورسم المشاعر المختلفة، والأحداث التي تمر بها، والحوارات التي تدور خلال الأحداث دون الدخول في تفاصيلها، وأيضا الحوارات والانفعالات التي يتم إبرازها عبر اللغة مثل لغة الجسد، والملامح. وإلى جانب ذلك، يبدع الروائيون المحترفون في وصف الأماكن في الروايات، فتتخيل حينها أنك تشاهد لا تقرأ.
*القضايا الإنسانية ركن أساسي في بناء الرواية
ويشاركنا المخرج المسرحي عبد الله المقرن الرأي بقوله: الحدث الروائي ليس تماماً كالحدث الواقعي، فهو يتميز بالإبداع من خلال ما يضاف له من خيال، ومخزون ثقافي شامل لجميع القضايا المثيرة، والملهمة الكاشفة لكل شيء من شأنه أن يرفع من فضاء الرواية، ويكون هناك تعبير عن ما في فكر الكاتب من قدرات وفلسفة تكسب مع القراءة الحيوية والسرد الممتع للمتلقي، فالقضايا الإنسانية تكسب الرواية جماليات السرد، ومواقفها الإنسانية التي يعيش فيها المتلقي حيث يبحر أحياناً، ويكون جزءاً من هذا النص بكل ما فيه من سرد للأحداث، وتكون واقعًا له أو مواقف قد مر بها، أو مر بها مجتمعه، أو ذكريات مضت في زمن مضى له، فتصبح كأنها مشهدًا مكتمل العناصر عايشه. وباعتقادي أن القضايا الإنسانية تحمل الحنين، والعاطفة، والحب، والتآلف، والمحبة، والمعايشة، فهي ركن أساسي للرواية. وبالتأكيد هي صوت يبرز فيها الروائي قضاياهم التي تكون واقع يعيشون ويتعايشون فيه، وهنا يأتي دور الكاتب بإبراز الجوانب الإنسانية والتراجيدية وتسليط الضوء على هذه الفئات، وبطرح هذه القضايا تكون نافذة على هؤلاء المهمشين والبسطاء وأصحاب الظروف التي يكون المجتمع في بعد عنها، وبسرد جاذب لها وطرح المشاكل والظروف التي يعيشون فيها بمشهديه تكسب التعاطف، وطرح الحلول من قبل القارئ للرواية، وجعل القارئ في حالة من معايشة هذا الواقع بما فيه من مأساة قد تكون نهايتها حزينة أو سعيدة.
والعمق الإنساني مشكلة الإنسان المعاصر في هذا العالم، وأصبح في هذا الوقت الكثير يبتعد عن ضجيج الحياة، وأصبحت الحياة الفردية هي الواقع لكل إنسان وتسليم بالأمر الواقع. وهذا يجعل من الروائي دور كبير بوضع السبل للانعتاق من هذه الحالة التي يمر بها المجتمع، وخروج الإنسان المهزوم إلى إنسان وفرد ناجح في كل ما يقابله من أقدار وظروف حياتية، تجعل منه فردًا يؤمن بالقيم والمبادئ التي تجعله ناجحاً بشكل سردي يجعل من الانهزامية محطة عبور، وليست محطة للوقوف والانتظار، وركوب القطار المناسب للوصول لنهاية سعيدة.
التعليقات