الأكثر مشاهدة

د. عبدالله بن محمد العمري* وما زلت أظن ظن اليقين أن برنامج دارة الملك عبدالعزيز …

تاريخنا قصة ترويه “الصريم” لأحمد السماري

منذ سنة واحدة

613

0

د. عبدالله بن محمد العمري*

وما زلت أظن ظن اليقين أن برنامج دارة الملك عبدالعزيز كان برنامجًا عظيمًا، قلب لنا الأفكار ثم وضع بذرة العمل، وأسقاها إلى أن ظهرت على الهواء الثقافي الطلق، وجاء دورنا لنكمل ما بدأته الدارة، وألا نجعل شجرة التاريخ تعطش..
فعلًا تاريخنا قصة جديرة بأن تروى. قصة صفحاتها بعدد حبات رمال صحراء الربع الخالي، بعدد أحرف السغب الذي جفف الحلوق وأوجع البطون وكسر قلوب الكرماء واستنزف شِفاق الأمهات وأيبس كفوف العطاء الندية، بعدد لحظات الرعب التي عاشها الأجداد بين حياة موحشة وأرض مقفرة بين ناهب ومنهوب وقاتل ومقتول.
   أناس مذبوحون بالجوع، ولكنهم كانوا رقيقي القلوب متراحمي الأنفس. نديي الكفوف متى ما جاد عليهم أكرم الأكرمين بالعطاء. كانوا بررة بأهاليهم وذويهم؛ بأبناء قراهم، بجيرانهم بضيوفهم بمن يلجأ إليهم. كانوا يحبون العطاء لا يمنعهم منه إلا قلة ما باليد، وقلة الحيلة..
كانوا تاريخًا اجتماعيًا جديرًا بأن يكون قصة تروى..
لقد أخذتنا رواية “الصريم” إلى فترة من تاريخنا الاجتماعي جديرة بأن تُبسط لها صفحات النقد الاجتماعي، والنقد التاريخي.
لقد كُتب هذا العمل بكثيرٍ من حبر الذكريات الموجعة، والتفاصيل الحياتية المرهقة.
لم تكن الحياة رغداً وهناء حتى على الميسورين، فالحياة في منطقة نجد والتي تمثل نموذجاً لواقع متشابه إلى حدٍ ما، مع بقية مناطق المملكة العربية السعودية؛ كانت مغموسة إلى أقصاها بحياة الكفاف، وحياة الشتات، والفقر. الفقر الذي أخرج مارد الفلسفة من إبريق الروائي السماري. ذكريات أسوار الموت التي استحضرها السماري “الجوع، المرض، العزلة”. الفقر الذي يصنع الرجال ويصنع اللصوص، هو نفسه الذي جعل من هؤلاء الناس قوما أجلاد.. يتعففون عن السرقة حياء من الله.
تجاذبت السماري اهتماماته الفلسفية والتاريخية والأثرية واعتداده بعروبته وإسلامه، فأخذنا بين هذه الرباعية التي كادت تنسيه في بعض المحطات اشتغاله السردي ليروي لنا قصة من هنا وهناك، لم نكن لننغمس في واقعيتها بقدر أشواقنا إلى أن يعود إلى من حيث وقف بنا، أشواقنا إلى أن يعيدنا فلسفته الأنيقة في تصور الحياة بصحبة الفقر والمسؤولية، والبحث عن الذات، ليست تلك الذات التي بحث عنها الفلاسفة عبر الزمن بل الذات البراقة بمكارم الأخلاق التي أخفاها الفقر والعوز وحياة الشقاء؛ شوقنا إلى أن يعيدنا إلى “زيد” بطل الصريم المولود في وادي “وثيلان” وسط نجد.
   ولكن السماري ينتبه بين وقت وآخر إلى انهماكه في بعض القصص الجانبية والتي تأتي في بعض محطات العمل ليقول من خلالها شيئًا يريد أن يقوله وهو يمثل شيئا من شخصيته وتكوينه ونظرته إلى الوجود والحياة، نظرته إلى مكارم الأخلاق والقيم العليا. نظرته التي فلسفت كثيرًا من الأفكار والتصرفات التي تستند على الدين أو العادات، وهي في حقيقتها تحقق أهداف دنيوية ومطامع شخصية لبعض شخصيات العمل مثل عمه “راشد” الذي كان يتعمد مضايقته لعدم التزامه بصلاة الجماعة على حد زعمه، عمه الذي يسعى لتزويج أم “زيد” من أصغر أعمام “زيد” بعد أن توفي والده، ولكن “زيد” اقتنص الفرصة  في إحدى هذه الشجارات ليطالب بحقه وحق أمه وأخته الجوهرة وأخوه سعود في الإرث.
   سافر “زيد” إلى الكويت مرتين، مرة قبل أن يتزوج؛ أقام فيها سنتين في مهنة البناء التي اكتسبها من عمله مع أبي سليم، وعاد وهو يملك ما يسدد به دينه ويرتب به أمور مزرعته، ويصرف على أهله، والمرة الثانية التي سافر فيها إلى الكويت عندما جاءت سنة الهدم وكادت أن تُهلك الناس جميعا، ودمرت وخربت المزارع  والبيوت، ومنها بيت زيد ومزرعته، فيأخذ أهله إلى الرياض ومعهم زوجته شيخة ابنة خالته، وقد غادر إلى الكويت وهي حامل بطفلهما الذي لم يره إلا بعد ثلاث سنوات هي فترة غربته الثانية.
“زيد” الذي خفق قلبه بالحب ربما أول مرة مع وطفى ابنة البدوي أبا شليوح، ليستفيق ذات يوم على رحيلها مع أهلها، فلا حياة استقرار في عرف البدوي المرتحل في ذلك الزمان.
   نقل لنا السماري العديد من تفاصيل الحياة الاجتماعية في منطقة نجد التي تعود أصول بطل روايته “زيد” إليها، ونقل لنا كذلك تفاصيل متفرقة من حياة البادية والحاضرة خلال رحلة البطل عائداً من الكويت بصحبة سائق سيارة الأجرة “سحمي” ورفيق زيد وليم البريطاني الذي جاء بناء على إذن من جلالة الملك سعود لزيارة المملكة العربية السعودية.
نجد أن هناك متشابهات كثيرة تجمع المجتمع السعودي، وأن اختلفت طرق التعبير عنها أو إظهارها على أرض الواقع، وسنجد أن تاريخنا بالفعل قصة عظيمة كبيرة؛ قصة اجتماعية، قصة حضارية، قصة اقتصادية.. قصة إنسان تصارع مع الطبيعة ليتصالح معها في نفس الوقت!
تكيف مع البيئة التي غالبها فغلبته وطوع البيئة التي خضعت لأفكاره واستجابت لسعيه في ترويضها.
   سنجد أن هذا الإنسان السعودي في واقعه الحالي هو امتداد لذلك الإنسان الذي كد وكدح وسافر وتغرب، ولكنه الآن يعيش الحضارة وينعم بالمدنية التي لم ينعم بها ذلك الإنسان.
وما “زيد” إلا نموذج استطاع السماري أن يبعثه لنا من بين طيات المجتمع الذي كان لايزال في بدايات الرحلة نحو التطور والمدنية التي أتت بعد ذلك متدرجة وبرزت ملامحها بوضوح في مرحلة الطفرة؛ أي بعد المرحلة التي كان “زيد” يكابد فيها مشقة الغربة بعمر العشر سنوات أو تزيد مثلها أو نصفها على الأقل.
“الضيف ضيف الله” و “..ياكليب شب النار ياكليب شبه.. عليك شبه والحطب لك يجابي”.
   وما بين إكرام الضيف، ورائحة القهوة، وترفيه ذلك الوقت الذي لا يتعدى بعض المسامرات الأدبية من الحكايات والشعر الشعبي، وشيء من الألعاب التي توظف عناصر البيئة والأفكار البسيطة تأخذنا الصريم إلى داخل تفاصيل المجتمع من حاجة الإنسان إلى الترفيه بما يتوفر له ويُسخر من أجله، وقيمة الكرم التي تعتبر قيمة عليا في عرف وتكوين وكيان المجتمع السعودي، فهذا “أبو فلاح” الرجل النموذج الذي اختاره السماري ليقول من خلاله بعض ما يكمل به حديثه النفسي والفعلي من خلال الرواية عن الكرم، وتأصله في المجتمع السعودي في وقت الوفرة والشح، فأبو فلاح يسر الله له ما يكرم به ضيوفه دون حيلة أو تدبير منه لكن النوايا الصادقة مقرونة بالفرج، ومن ثم يأتي العوض من الله سبحانه وتعالى.
ولم يفت السماري الفرصة لينقض بعض العقد التي ربطها بعض الأشخاص بعاداتٍ وأعراف تداخلت مع الدين وشكلت من خلاله قناعة لدى البعض؛ أن هذه العادات والأعراف أصبحت من مسلمات الدين.
     الكثير من التفاصيل الاجتماعية والثقافية استطاع السماري أن يجسدها لنا في “الصريم”، وأن ينقل صورة روائية واقعية عما كان المجتمع يعانيه من نقص في الخدمات الصحية والتعليمية وفي المجالات كافة، وأن يؤكد لنا بأن النعم تأتي على صور مختلفة، وأن الحياة هدية، والعائلة هدية، والأصدقاء هدية… وإن رواية الصريم للروائي أحمد السماري الصادرة عن دار أثر في طبعتها الأولى (1442- 2021) هدية قدمها لي السماري مشكوراً عندما التقيته..

*ناقد سعودي

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود