مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

هو أحمد بن حسين الجعفي، نظم الشعر قبل بلوغه العاشرة، فظهرت عبقريته الشعرية مذ كا …

“واَحَرَّ قَلباهُ”.. المتنبي ووجع العتاب

منذ سنة واحدة

261

0

هو أحمد بن حسين الجعفي، نظم الشعر قبل بلوغه العاشرة، فظهرت عبقريته الشعرية مذ كان فتى في الكوفة، وصُقِلت هذه الموهبة بانتقاله إلى بادية السماوة، ليشتد عوده، وتتفتح مخيلته الشعرية.

وقد اختلف مؤرخو الأدب في سبب تسمية المتنبي بهذا الاسم، واتفق الكثير منهم على براءة الشاعر من ادعاء النبوة كما وصفه البعض، فهو من أطلق على نفسه هذا اللقب مبرراً ذلك بقوله : “أنا أول من تنبأ الشعر” فقد طوَّع اللغةَ ونظم الشعر مادحاً هاجياً متغزلاً مفتخراً بنفس القدر من القوة.

 كتب المتنبي الكثير من القصائد، والتي يضمها ديوانه الشعري حيث تطالعنا معظم أغراض الشعر العربي. والتي اتصفت بالغموض في بعض الأحيان حيث يضمر فيها ما لا يظهره، فقد تكون قصيدة مدح ولكنه يضمنها هجاء.
اعتمد المتنبي في أسلوبه الشعري على الألفاظ القوية والعبارات الجزلة، وروعة الصور وعمق المعاني وترابطها، وكان ميالاً بطبعه إلى التحليل والتعليل والاستعانة بالمحسنات بعيداً عن التكلف. مما دفع النقاد إلى وصفه بأنه شاعر العرب وأشعر الشعراء.

كانت حياة المتنبي مليئة بالتقلبات، فقد ارتقى سلم المجد بجدارة، وخاض غمار الأحداث السياسية، ما بين مصر والشام.

ولعل خير ما نبدأ به رحلتنا مع شاعرنا الفذّ قصيدة “وَاحَرّ قَلْباهُ”، والتي استفتحها  بعتابه الحار لسماعه لما قاله الحاسدون لسيف الدولة، وتصديقه لهم:
وَاحَـرّ قَـلْبـاهُ ممّـنْ قَـلْبُهُ شَـبِـمُ         وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي         وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
إنْ كَـانَ يَجْـمَعُـنَا حُـبٌّ لِـغُـرّتِـهِ         فَـلَيْتَ أنّا بِقَـدْرِ الـحُـبّ نَـقْـتَسِـمُ
قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ         وَقـد نَـظَـرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ

مختتماً مقطوعته بمدحه سيف الدولة بماعُرِف عنه من الأخلاق العالية:
فكـانَ أحْـسَنَ خَـلقِ الله كُـلّهِمِ          وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ

ويستمر في مديحه حتى يصل بعتابه إلى الذروة في قوله:
 يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي       فيكَ الخِصـامُ وَأنتَ الخصْـمُ وَالحكَمُ

أُعِيـذُها نَـظَـراتٍ مِنْـكَ صادِقَـةً        أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وَمَا انْتِفَاعُ أخـي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ        إذا اسْتَـوَتْ عِـنْـدَهُ الأنْـوارُ وَالـظُّـلَمُ
وتنساب أبياته بنفس القدر من الجمال والروعة حتى يصل بنا لقمة الفخر حيث يقول:

سَيـعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا        بأنّـني خَيرُ مَـنْ تَسْعَى بهِ قَـدَمُ
أنَـا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي        وَأسْمَـعَتْ كَلِماتي مَـنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا        وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

إذا رَأيْـتَ نُيُـوبَ اللّـيْـثِ بـارِزَةً          فَـلا تَــظُــنّـنّ أنّ الـلّـيْـثَ يَـبْــتَــسِـمُ
 الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني          وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

وتستمر بنا هذه الرحلة شديدة التنوع فيمضي بنا بعيداً حيث لم يدع لنا كلاماً يمكن قوله في مرارة البعد والفراق بعد قوله:
يَا مَنْ يَعِـزّ عَـلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ          وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ
مَـا كـانَ أخلَقَنَا مِنكُـمْ بتَكرِمَةٍ          لَوْ أنّ أمْـرَكُمُ مِـن أمرِنَا أمَـمُ
إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا          فَمَـا لجُـرْحٍ إذا أرْضاكُـمُ ألَـمُ
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ          وَيَكْرَهُ الله مـا تَأتُونَ وَالكَرَمُ
وفي ختام القصيدة تتفتق قريحة الشاعرعن الحكمة التي امتلأ بها شعره حيث يقول:
 شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ         وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ         شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والـرَّخَمُ
 بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ         تَجُـوزُ عِندَكَ لا عُـرْبٌ وَلا عَجَمُ
هَــذا عِــتـابُـكَ إلاّ أنّــهُ مِـقَـةٌ          قــد ضُـمّـنَ الــدُّرَّ إلاّ أنّـهُ كَـلِــمُ

**********
ومن ثم سنعرج على قصيدة “على قدر أهل العزم ” والتي تمثل مرحلة النضج الفني للشاعر حيث يظهر لنا بوضوح  تمكن الشاعر من أدواته الشعرية، والتي يعبر فيها عن روحه وتطلعاته السياسية ومجده الذي رأى صورته المتحققة في ممدوحه(سيف الدولة الحمداني)، حيث لم يحالف الشاعرالحظ في تحقيق ما سعى إليه جاهداً طوال حياته.

عَلى قَدْرِ أهْـلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ             وَتـأتـي عـلَى قَـدْرِ الـكِـرامِ الـمَكارمُ

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها             وَتَصْغُـرُ فـي عَين الـعَظيمِ الـعَظائِـمُ

يُكَلّفُ سيـفُ الدّوْلَةِ الجيشَ هَمّهُ             وَقد عَجِزَتْ عنهُ الجيوشُ الخضارمُ

وَيَطلُبُ عندَ النّاسِ ما عندَ نفسِه             وَذلــكَ مـــا لا تَــدّعـيهِ الـضّـرَاغِــمُ

يُفَـدّي أتَمُّ الطّـيرِ عُمْـرًا سِـلاحَهُ              نُـسُــورُ الـفَـلا أحـداثُها وَالـقَشاعِـمُ

وَما ضَرّهـا خَـلْقٌ بغَـيرِ مَخـالِبٍ             وَقَــدْ خُــلِـقَــتْ أسيـافُــهُ وَالـقَــوائِـمُ

نظم المتنبي رائعته هذه على بحر الطويل، حيث يوفر هذا البحر للشاعر الكثير من المعاني، والتي استتبعها بحسن اختياره للقافية، حيث اختار وزن(فاعِل) فالميم المضمومة المكسور ما قبلها المسبوق بحرف اللين(الألف) أعطت للشاعر وصولاً قوياً للمفردات قوية الدلالة على تصوير الممدوح ، والمعركة ،وقلعة الحدث، بأقوى تعبير ليصل بالقارئ والمستمع إلى الذروة.

افتتح المتنبي قصيدته بـ (عَلى) وهو حرف جر يفيد الاستعلاء ، وفيه معنى ( الجبروت والقوة)، كما أن حرف العين من الحروف الحلقية التي تملأ الحنجرة بفخامتها ، وتحتاج إلى بذل المتكلم جهداً لتكون قوية مدوية، ولعل هذا ما دفع الشاعر إلى إنشاد القصيدة في ديوان ممدوحه (سيف الدولة) وبحضور الكثير الكثير من جلساء الأمير، فانطلق فمه بما يعبر عن أصله البدوي، وتستمر الروعة وتتواصل في رسم لوحة فنية لا تشوبها شائبة.

هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرِفُ لوْنَها            وَتَعْـلَمُ أيُّ السّـاقِـيَـيْـنِ الـغَــمَــائِمُ

سَقَتْهـا الـغَمَـامُ الـغُرُّ قَبْلَ نُزُولِهِ             فَـلَمّا دَنَا مِنها سَقَـتهـا الـجَمـاجِـمُ

بَنَاهَـا فـأعْلى وَالـقَنَا يَقْرَعُ القَنَا             وَمَـوْجُ المَنَايَا حَـوْلَـهـا مُـتَـلاطِـمُ

وَكانَ بهَا مثْلُ الجُنُونِ فأصْبَحَتْ            وَمِـنْ جُثَـثِ الـقَتْلى عَـلَيْها تَـمائِمُ

طَـريدَةُ دَهْـرٍ ساقَـهـا فَـرَدَدْتَهَـا             على الدّينِ بالخَطّيّ وَالدّهْرُ رَاغِمُ

في المقطوعة السابقة رسم لنا الشاعر لوحة كاملة لمجريات المعركة، فرأينا ما حدث بعين الشاعر المتفحصة والتي نقلتنا إلى هناك عبر سيل الصور والأخيلة، التي يفوق بعضها بعضاً في التعبير، وكأننا خلف الستار نرى ونسمع ما يحدث.

**********

وسأختم مقالتي هذه بـقصيدة “عيد بأي حال عدت يا عيد” فقد قام المتنبي ببناء قصيدته هذه على حرف (الدال) وهومن الحروف الانفجارية، التي تنتج عن إطباق اللسان مع أصول الثنايا العليا ثمّ الانفجار التام للصوت عند انفتاح اللسان عن أصول الثنايا، وقد وفق الشاعر في اختياره لحرف الدال  لما للحرف من تشابه مع انحباس الشاعر في أرض مصر تلاه انفجار كامل تمثّل في هروبه عن مصر وهجاء كافور.

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ            بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ

أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ             فَـلَيتَ دونَـكَ بِيـداً دونَهَا بِيـدُ

ثم يقول:

لَوْلا العُلى لم تجُبْ بي ما أجوبُ بهَا       وَجْنَاءُ حَرْفٌ وَلا جَرْداءُ قَيْدودُ

وَكَـانَ أطـيَبَ مِـنْ سَيـفي مُـعـانَـقَـةً        أشْـبَـاهُ رَوْنَقِهِ الـغِيـدُ الأمَـاليـدُ

لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي         شَـيْئًـا تُـتَيّـمُـهُ عَـيـنٌ وَلا جِـيـدُ

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود