الأكثر مشاهدة

إعداد_حصة البوحيمد  يتبارى الكثير من الشعراء في نظم شعر الرثاء في الراحلين وتعدا …

شعر الرثاء بين تفريغ الأحزان وتعزيز السلوان

منذ سنة واحدة

5164

0

إعداد_حصة البوحيمد 

يتبارى الكثير من الشعراء في نظم شعر الرثاء في الراحلين وتعداد فضائلهم ومزاياهم بعد أن أفلتْ نجومهم وغابت شموسهم، ويتجاوز الأمر ذلك إلى اتقاد الشعر في أنفس العديد من أصدقاء وأقارب الراحل في منظومة من الارتباط الوجداني بين البشر الذي يتجلى في هيئة مشاعر تنساب عبر قرائح الشعراء في منظوماتٍ رثائية، ولا أصدق من يائية مالك بن الريب في رثاء نفسه ورثائية  الخنساء في أخيها صخر وغيرها من القصائد الخالدة والحاضرة  على مر القرون في مراسم العزاء وفي رسائل التعزية، وقد توالت القصائد في فن الرثاء ولا تزال حتى اليوم تستنهضها مواسم الفقد المستمرة،

فرقد الإبداعية سبرت أغوار هذا الفن المتحسس للواعج الفقد والمتجذر في أعماق الأدب، والمنساب على ألسنة مبدعيه، برصد آراء كوكبة من الأدباء والشعراء حول قدرة الرثاء على احتواء القلوب وتخليد المآثر من خلال المحاور التالية:

– كيف تُقيِّم شعر الرثاء وحضوره بين الأغراض الشعرية الأخرى، وما مدى انعكاسه  على جبر خواطر أهالي الراحلين وتعزيز سلواهم ؟

هل لا يزال شعر الرثاء حاضراً رغماً عن ثورة التقنية وكيف نعزز من حضور هذا الفن خصوصاً وأنه مرتبط بالجوانب النفسية والاجتماعية والأدبية معاً؟

دخل الشعر الشعبي كثيراً على مسار الفصيح والحر في مجال الرثاء كونه الأكثر فهماً لدى العامة، ولكن يختلط بالكثير من العفوية، برأيك هل سيؤثر ذلك على مقام فن الرثاء بشكل عام أم أن الفصيح  هو الأكثر أثراً ؟

*الرثاء إرث أدبي هام في العديد من الثقافات

يستهل حوارنا الشاعر والأكاديمي د.أحمد قِرَّان الزهراني بقوله :

شعر الرثاء هو نوعٌ من الشعر الذي يعبر عن الحزن على فقدان شخصٍ ما، سواء كان شخصًا عزيزًا أو شخصيةً عامة ينعى فيها الشاعر شخصًا مشهورًا أو حدثًا تاريخيًا. يعتبر الرثاء شكلًا من أشكال التعبير الأدبي للحزن والأسى، ويتميز بأسلوبه العاطفي والمؤثر.

تعود أصول شعر الرثاء إلى العصور القديمة، حيث كان يُستخدم في الثقافات المختلفة للتعبير عن الحزن والمرارة لفقدان الأحبة والأشخاص ذوي الشأن العام. يعكس الرثاء غالبًا الأحداث الكبيرة والمأساوية التي تهز المجتمع، مثل الحروب والكوارث الطبيعية والرحيل المفاجئ لشخصية مهمة.

يعتبر شعر الرثاء أيضًا وسيلة للتعبير الشخصي والجماعي عن الحزن والمعاناة. ويمكن للشاعر في الرثاء أن يعبر عن أحاسيسه الشخصية للفقدان والألم، وقد يجد في الشعر منفذًا لتجسيد مشاعره وتوصيلها إلى الآخرين.

تعد قصائد الرثاء أيضًا جزءًا مهمًا في التراث الأدبي في العديد من الثقافات.

شعر الرثاء يعكس التعبير الشعوري عن الحزن والفقدان. ويستخدم الرثاء العديد من العناصر الأدبية والتقنيات الشعرية لإيصال رسالة الحزن والألم بشكل فعال، ويعد جزءًا هامًا من التراث الأدبي في العديد من الثقافات.

الشعر بكل أشكاله تعبير ذاتي عن الألم والحزن ولا فرق بين الشعبي والفصيح في التعبير عن تلك المشاعر.

الشعر الشعبي له دور في الذائقة الإنسانية مثله مثل الشعر الفصيحوكل نوع له جمهوره الذي يتفاعل معه.

*الرثاء  من أقوى الأغراض الشعرية وأصدقها

ويرى الشاعر مصطفى الكحلاوي من مصر:

أن شعر الرثاء من أجمل الأشعار وأكثرها تأثيراً على المتلقي ذلك لأنه يعبر عن المشاعر الصادقة للإنسان دون تجميل أو كذب وقديماً قالوا (ما يخرج من القلب يصل إلى القلب)

فهو يعتبر نوعاً من أنواع جبر الخواطر لأن الناس كلما استمعوا إليه أو قراؤوه يشعرون بنوع من السلوى والارتياح؛ فالشاعر يخرج ما بداخله من الأحزان والعواطف أو المشاعر الصادقة على هيئة بركان أو زلزال لكي يحرك مشاعر الناس لكي تتعاطف معه وكأنه يفجر حزنه الذي يسكن بين ضلوعه ليقول ما بداخله في هذا الرثاء

إن شعر الرثاء يعتبر من أقوى الأغراض الشعرية وأصدقها على مر التاريخ

فنحن مازلنا حتى الآن نتذكر رثاء ابن الرمي لابنه وأيضاً رثاء الخنساء لأخيها صخر قديماً

ورثاء نزار قباني لزوجته بلقيس في العصر الحديث وأيضاً رثاء عزيز أباظة لزوجته في ديوان (أنات حائرة)

وأيضاً رثاء الشاعر طاهر أبوفاشا لزوجته في ديوان (الليالي)

ورثاء أمل دنقل للشاعر محمود حسن إسماعيل ورثاء حافظ إبراهيم لأحمد شوقي وغيرهم كثير

ولهذا فأنا أرى أن هذا النوع من الشعر لا يمكن أن يموت لأنه حاضر في أذهان الناس وفي الذاكرة لأن المشاعر الصادقة لا تموت بمرور الزمن فهو يختلف عن شعر المدح

لأن الناس لا تميل إلى المدح وتميل أكثر إلى شعر الرثاء لأن فيه نوع من السلوى لهم ولأنه فيه نوع منجبر الخواطر أما المدح فالناس تعتبره نوعاً من أنواع المجاملة

فلهذا فإن شعر الرثاء موجود حتى الآن أنا شعر المدح فلم يعد موجوداً أو حاضراً مثل شعر الرثاء

أنا أرى أن الشعر الشعبي لا يؤثر على الشعر الفصيح في محال شعر الرثاء ذلك لأن الفصيح له جمهوره الذي يمتد على حدود الوطن العربي

وأيضاً له جمالياته وبلاغته

أما الشعر الشعبي فهو لا يشمل الوطن العربي بل يختص بجزء منه

فالشعر الشعبي في مصر يختلف عن الشعر الشعبي في العراق أو النبطي في السعودية

أخيراً أحب أن أقول أن التقنية الحديثة لم تؤثر بالسلب على شعر الرثاء بالعكس نحن ما زلنا نستمع إلى شعر الرثاء من خلال التقنيات الحديثة ولهذا فإنه يجب علينا أن نهتم بأن يكون شعر الرثاء مسموعاً ونستفيد من هذه التقنية في زيادة انتشار شعر الرثاء.

*الرثاء مازال قائمًا والاحتفاء به  تعزيزًا له

ويثري حوارنا بمداخلته الأستاذ حسن الزهراني رئيس نادي الباحة الأدبي متحسساً من خلال حديثه  لتجاربه الشخصية في هذا الفن الخالد بخلود المشاعر الإنسانية حيث قال :  

فن الرثاء في الشعر العربي هو أحد أغراض الشعر الأصيلة وأصدقها على الإطلاق حيث تتجلى فيه مشاعر الحب والحزن وصدق العاطفة وآلام الفراق ووجع الفقد
وللرثاء فنونه الخاصة كالندب والتأبين والعزاء ورثاء النفس
والندب هو البكاء ساعة الاحتضار وبكاء الأهل والأقارب
والتأبين هو ما يذكره الراثي من خصال وصفات عرف بها المرثي في حياته
والعزاء هو تصبير أهل الفقيد بأن ما أصابهم واقع لكل الناس وإن مزايا فقيدهم ستكون شافعة له عند ارحم الراحمين .
وأعتقد أن فن الرثاء في شعرنا العربي لم تغيره الظروف ومازال قائمًا بكامل أركانه ومؤثرًا حتى وإن تعددت أشكال ووسائل إيصاله الى المتلقي
وأرى أن أهم أساليب تعزيز هذا الفن الشعري الإنساني الراقي هو احتفاء النقاد والجهات المعنية بالأدب ووسائل الإعلام ووسائل التواصل به ونشره كقيمة إنسانية عالية ورمزية وفاء خالدة
ولا خوف على الرثاء في شعرنا الفصيح فهو الأصل الذي توارثته الأجيال وحفظت أعظم قصائده التي بقيت راسخة ومازال شعراء الفصيح يبدعون في هذا الفن بقصائد ذات قيمة فنية وإنسانية عالية ولن أنسى هنا أيضًا ما قيل من الشعر الشعبي في الرثاء وكان له آثره أيضا في نفوس المتلقين
ولا أعتقد أن هناك خوفًا على الفصيح من الشعبي ولا من الشعبي على الفصيح فكلاهما له عشاقه ومتذوقوه
ولقد كانت بدايتي الشعرية بما يشبه رثاء نفسي وأثمر تأثري بقصائد الرثاء الموجعة أن بكيت أمي رحمها الله في ديوان كامل بعنوان (ريشة من جناح الذل) وكان كما علمت أول ديوان يخصص لرثاء الأم
ثم أكرمني الله بأن تختار إحدى قصائده (الشمعة) لتكون ضمن مقرر طلاب الصف الأول المتوسط للبنين والبنات برًا خالدًا تعطر به ورود الأفواه البريئة مسامع الكون.
وفي ديوان ( أ .. : .. ي ) جمعت كل ما كتبت من قصائد الرثاء
ووجد الديوانان انتشارًا واسعاً وقراءات نقدية أكثر من غيرهما وهذا يعزز ما ذكرته هنا من أن شعر الرثاء مازال له حضوره الملفت.

*للشعر الفصيح رايته العليا ولبعض الشعبي إبهار

وتؤكد د. سعيدة بنت خاطر الفارسي من عُمان على مصداقية هذا الفن بقولها:

شعر الرثاء كما قال نقادنا العرب القدماء هو مديح الميت وتدبيج القصيد بأحسن الصفات للميت  وفقا للقول المأثور اذكروا محاسن موتاكم.

وهو من وجهة نظري أصدق الأغراض الشعرية  لما ينظمه من حرارة الشعور ومرارة الفقد وحزن صادق ينبع من دواخل الذات  المنكوبة إذا كان الشاعر راثياً أحد الغاليين عليه كأمه أو أبيه  أو ابنه أو أخيه. أو المقربين له من الأقارب  والأصدقاء  المقربين من روح الشاعر أما إذا كان راثياً مجاملاً لأحد المعارف أو الأصدقاء فهو جبر لخواطر المعزى الفاقد لأحبته، وفيه نعم بعض من جبر الروح الكسيرة والخاطر الحزين والقلوب المكلومة  وتسلية لهم عن مرارة الفقد، وسيظل شعر الرثاء حاضراً طالما هناك فقد وحزن وشعور مرهف يعاني من مرارات الفقد والوجع، ولا يجب إهمال هذا الغرض النبيل الصادق لأنه هو للنفس تنفيس وراحة وتسرية وتطهير من الحزن والهم وهو اجتماعياً شعر نبيل مؤثر يدل على مشاركتنا لبعضنا البعض في النكبات والأحزان وهو مساندة وجدانية للمعارف وللناس المتضررة من الفقد. ولعل المتعزي بها يتصبر بها  ويعلل  النفس بالسلوان ومثوبة الفقد متعللاً بقولة تعالى ( إنا لله وإنا إليه راجعون).

يخوض الشعر بأنواعه المختلفة في هذا الغرض الإنساني  النبيل ويبقى للشعر الفصيح راياته العليا الثابتة والمرفرفة عالياً لكونه الموروث الأسمى في الشعرية والذاكرة  العربية فمن منا لا يحفظ قول الخنساء

يُذَكّرُني طُلُوعُ الشمسِ صَخراً  

  وأذكرُهُ لكلّ غُروبِ شَمْسِ

ولَوْلا كَثرَة ُ الباكينَ حَوْلي  

على إخوانهم لقتلتُ نفسي

وقولها الأشهر :

أعيناي جودا ولا تجمدا

الا تبكيان لصخر الندى

او قول ابن الرومي

بكاؤكُما يشْفي وإن كان لا يُجْدي

فجُودا فقد أوْدَى نَظيركُمُا عندي .

تَوَخَّى حِمَامُ الموتِ أوْسَطَ صبْيَتي. فلله كيفَ اخْتار وَاسطَةَ العِقْدِ.

على حينََ شمْتُ الخيْرَ من لَمَحَاتِهِ. وآنَسْتُ من أفْعاله آيةَ الرُّشدِ .

أو قول جرير راثيا زوجته

لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ    وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ

وكثير غيرها مما احتفظت به الذاكرة العربية كأروع موروث من الإرث الشعري الإنساني

وإن كانت الجودة هي معيار التفاضل فقد تكون قصيدة شعبية مبهرة  طافت الامصار وتعطرت بها الذاكرة الإنسانية لصدقها الشعوري وصدقها الفني. وسجلت في سجل الخالدين على مر العصور والازمان.

*الرثاء باقٍ ما بقي الحزن والفراق

ويتحدث الشاعر حسن زكريا اليوسف من سوريا عن ملامح الرثاء وتجربته الشخصية معه بقوله:

يُعَدُّ الرثاء من أبرز وأهم الأغراض الشعرية في تاريخ الشعر العربي قديماً وحديثاً؛ لما فيه من مشاعر وأحاسيس صادقة وعواطف جيّاشة. وهو على أنواع، فقد يكون رثاءً لشخص عزيز متوفى، وتتركز القصيدة على إظهار هول المصاب والفجيعة بفقدان الراحل، والحزن الذي يعتصر القلب لفراقه، مع تعداد مناقبه وسجاياه، والتحسُّر على غيابه، ومن ذلك رثاء الخنساء لأخيها صخر وتعبيرها عن مدى مرارتها بفقدانه بقولها:

تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ

لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ

تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا

إذْ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ

وكذلك قول جرير في رثائه لزوجته :

لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ

وَلزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ

ولَقَد نَظَرتُ وما تَمَتُّعُ نَظرَةٍ

في اللَحدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ

ومن تجربتي الشخصية ومما قلته في رثاء والدتي رحمها الله:

جــنـاح الــذلِّ أخـفــضــهُ بـعِـزٍّ

أمـــامَــــــك إنَّ عِــــــزّي أنْ أذلاّ

تحـنُّ إلى حَـنـانـك بـِـيــدُ روحـي

وإنَّ غـيـومَــه بالــغــيـث حُـبـلـى

وجُـرحـي سـاهـرٌ يـأبــى رقـــاداً

إلـى أن نـلـتـقــي فـعـســى وعَــلاّ

وكذلك قولي في رثاء والدي رحمه الله:

إذا مـا لاح طـيفُ أبي

تخورُ عزيمة الحرف ِ

ويجثو واهِـناً شِـعري

فكيـف بحقـه سَـيَـفي ؟!

وكيف دموعيَ الحَرّى

ستروي غابةَ الأسـف ِ ؟!

إلى أن نلـتقـي نبـضي

يَخُـطُّ روايةَ الشَّـغَـف ِ

 وقد يكون الرثاء لشخصية عامة كالملوك والرؤساء والقادة، ومن ذلك رثاء الزير سالم ( المهلهل ) لأخيه كليب بدموع قوافيه، ومما قاله في ذلك:

كُـــليبُ لا خيرَ في الدُّنيا وما فـــــيها

إن أنتَ خلَّيتها في من يُخلّــــــــيها

نعى النُّعاةُ كُــليـــباً فـــــقلتُ لــــــــهم

سالتْ بنا الأرض أو زالتْ رواسيها

وكذلك قول أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء القائد الليبي عمر المختار، الذي أعدمه الاحتلال الإيطالي في عام 1931م:

يا أيُّها السيفُ المُجرَّدُ بالفَــلا

يكسو السُيوفَ على الزَمانِ مَضاءَ

تِلكَ الصَحاري غِمدُ كلِّ مُهنَّدٍ

أَبلى فأحسَنَ في العَدُوِّ بلاءَ

 وهناك نوع آخر للرثاء هو أشمل وأعمّ من العلاقة الشخصية العاطفية، ويتعداها إلى الهمّ العام والبكاء على أطلال مدن وممالك كانت ذات شأن عظيم ثم زالت وتلاشت، ومثال ذلك قصيدة أبي البقاء الرَّندي الشهيرة في رثاء الأندلس، ومما قاله فيها:

يَا راكِبيْنَ عِتَاق الخَيْلِ ضامِرةً

كأنها فِي مَجَالِ السَبْقِ عُقْبَانُ

أعِنْدَكُمْ نَبَأٌ مِنْ أهْلِ أنْدَلُسٍ

فَقَدْ سَرَى بِحَدِيْثِ القَوْمِ رُكْبَانُ

كَمْ يَسْتَغِيْثُ بِنَا المُسْتَضْعَفُوْنَ وَهُمْ

قَتْلَى وَأسْرى فَمَا يَهْتَز إنْسَانُ

 إنَّ الرابط الوثيق الذي يجمع تلك الأنواع من شعر الرثاء هو الحسرة والتوجُّع، كون الشاعر يغزل قصيدته الرثائية على نَول العاطفة والوجدان، وينضح من معين القلب والروح أنقى وأصدق المشاعر الإنسانية، وشَعرُ الرثاء مُنزَّه عن أية شُبهة يمكن أن تقدح أو تطعن فيه كالنفاق أو الرياء أو المحاباة أو المنفعة .. إلخ؛ خاصةً إذا كان رثاء أشخاص مُقرَّبين قرابةَ دَمٍ أو زواجٍ أو صداقةٍ متينةٍ؛ فيكون مُعَبِّراً بشفافية ودفء عن مكنون النفس وشقائها ولوعتها.  وشعر الرثاء باقٍ ما بقي الحزن والفراق ـــــ وهما مع الأسف باقيان ــــــ فتلك سُنَّة الحياة، لا بل لعله الأكثر حضوراً وملامسةً لمشاعر الناس ومحاكاة لكوامنها ولواعجها في أيامنا هذه مع كثرة الكوارث والفواجع وحوادث الزمن، وما في ذلك من خسارة لأرواح بشرية وفراق أحبَّةٍ بشكل متزايد، ولهذا نجد أنغرض الرثاء يكرّس حضوره كون مضمونه وما فيه من شجن ولوعة وتعبير عن الحزن والألم ، فكل من يقرأ قصيدة رثاء يجدها تعبِّر عمّا في داخله وما يعانيه من ألم بشكل أو بآخر، وتعزف على أوتار أوجاعه، وتستفز جراحه، ولكلٍّ مِنّا جراحٌ ممتدة وغائرة، وبغض النظر إن كان الرثاء في قالب شعري فصيح أم كان في قالب شعر عامّي شعبي يتقبّله الناس ويتفاعلون معه كونه بسيطاً وعفوياً ويلامس دواخلهم ويحاكي لواعجهم، فإن شعر الرثاء يبقى غرضاً شعرياً حاضراً بقوة وله مكانته الخاصة ويحظى بتفاعل إنساني ووجداني وعاطفي لدى المتلقّي، والتعبير عنه بلغة عامية وأسلوب شعبي بسيط لا أرى ضيراً منه ولا يمكن تجاهل حضوره، إلا أنه برأيي المتواضع لا يؤثر على مقام فن الرثاء بشكل عام؛ لأن الشعر الفصيح يبقى هو الأرسخ والأبقى والأكثر أثراً لأن مقومات تميزه وتفوّقه أكمل وأشمل ؛ فهو لا يقتصر على مجرد العاطفة والإحساس فقط ، وإنما وفضلاً عن ذلك، فهو قائم على أُسس فنيّة ، وفيه صنعة إبداعية، من حيث اللغة الفصيحة الأصيلة، وحُسن الصياغة، وجزالة التراكيب، وتنوُّع الصور والأخيلة، وانسكاب كل ذلك في قالب موسيقي للقصيدة، وهو ما يجعل لشعر الرثاء الفصيح الموزون مكانته السامية ومنزلته الرفيعة في الوجدان العربي عبر مختلف الأزمنة، ويحفظ له ديمومته وخلوده.

*لا فرق بين رثاء الفصيح والشعبي والمتلقي هو الحكم 

ويشير الشاعر خالد الكديسي إلى تجذر هذا اللون الشعري وتوجهاته في التاريخ  واستمراريته بقوله: 

شعر الرثاء أحد الأغراض الشعرية البارزة ويكمن بروز هذا اللون الشعري في صدق عاطفته وحرارة التعبير الموجود فيه، وهومن أقدم الفنون  ومازال  كثير من الشعراء يكتبون فيه رغم ما فيه من حزن وألم ووجع  للشاعر إلا أنه قد يخفف من ألم الفراق ووجع المصيبة، عندما يفرغ الشاعر مشاعره الحزينة والفقد الذي  يشعر به ويختلج  داخله على الورق قد نعتبره نوع من الاستشفاء الروحي وتفريغ الشحنات السالبة.

وسواء أكان الشاعر يعبر عن فقد خاص به أو  يكتب لشخص آخر فهو بهذه القصيدة يجبر كسر نفسه وجبراً لخواطر وتعزية لأهل الميت وتخفيفاً لمصابهم وذكراً لمآثر الميت وصفاته، وتفريغ لمشاعر الحزن والألم بفقد من نحب وتسلية للنفس عن فقدهم ورحيلهم.

وفي تاريخنا الأدبي الكثير من قصائد الرثاء بمختلف توجهاتها من رثاء أشخاص أو رثاء مدن وأماكن مازلنا نرددها حتى عصرنا الحالي، فمن منا لا يتذكر قصيدة حسان بن ثابت في  رثاء النبي “صلى الله  عليه وسلم، وقصيدة أبي البقاء الرندي  في  رثاء الأندلس، وقصيدة الخنساء.

ورغم التطور التقني الذي نعيشه في وقتنا الحاضر مازال شعر الرثاء حاضراً ولا يمكن أن يختفي فهو غريزة إنسانية وحالة من الوجع والفقد الذي  يحيط بنا  ونشعر  به في  قلوبنا، وواقع في حياتنا اليومية التي نعيشها.

أعتقد أن  التقنية  ووسائل التواصل الاجتماعي عززت من  انتشار فن الرثاء بين الناس مثله مثل بقية الأغراض الشعرية   الأخرى كالغزل والوصف، وساعدت الشاعر على أن  يصل  صوته  للناس وأن يشاركوه حزنه وألمه،  وقد يجد في ردودهم تعزية لنفسه وتخفيفاً لمصابه.

ومع  كثرة قصائد الرثاء  المنتشرة في  حسابات التواصل الاجتماعي إلا  أن الجيد والأكثر صدقاً  منها سيبقى  وسيصل  لقلوب  الناس، والمتلقي هو من يحدد ذلك، فقصيدة الرثاء ليست ذات نمط أو قالب واحد فلكل قصيدة خصوصيتها وطريقتها ويبقى صدق مفردته هو الفيصل.

وقصيدة الرثاء ذات طابع خاص من حيث بنائها الفني وتنوع الأساليب فيها بحسب الزاوية التي يدخل منها الشاعر ورؤيته الفنية، وسواء أكتب بالفصيح أو بالشعبي لن يؤثر أحدهما على الآخر، لأنها في النهاية مشاعر داخلية تُترجم حروفاً وأبيات، فلا يهم بأي طريقة  أو شكل خرجت بالفصيح أو بالشعر الشعبي أو كلام نثري، ويبقى الحكم للقارئ في تفضيل هذه أو تلك، وأعتقد  أن الشاعر لا يختار الشكل الشعري الذي سيكتب فيه كل ما يهمه أن يُخرج هذا الحزن من قلبه ويتنفس قليلاً،  فالكتابة عن  شخص عزيز أمر بالغ الصعوبة فقد يضل الشاعر أياماً وأشهر حتى يكتب  قصيدة رثاء  في والديه أو ابنه أوعن عزيز وقريب جداً، والبعض لا يستطيع الكتابة لأنه يشعر أن كل مفردات اللغة لا تصف من فقده ولا تفيه حقه ولا  تعبر بشكل كامل عن مدى حزنه والوجع الذي يسكن روحه.

فأعتقد أن قصيدة الرثاء لن تؤثر على فن الرثاء  فهي مشاعر داخلية  ينثرها الشاعر  بطريقته الخاصة فالمشترك النفسي واحد والمشاعر متشابهة، وهناك قصائد بالشعبي رائعة جداً ومؤثرة على سبيل المثال قصيدة الأمير خالد الفيصل في والده الملك فيصل، وقصيدة  شبيب  الرشيدي في ولده وغيرها  الكثيروقد  تكون قصائد الرثاء بالشعبي في الوقت الراهن أقرب  للناس وأكثر تأثيراُ عليهم لبساطتها وقرب مفرداتها لهم و الأكثر تداولاً  بينهم.

*في ظل تعدد وسائل التواصل  ضاع رثاء الشعر وبكاؤه

وللشاعر محمد عمر فلاتة وجهة نظره حول حضور هذا الفن سابقاً وتقلصه في عصر التقنية حيث قال :

 في بادئ الأمر، يظل شعر الرثاء غرضًا متجسدًا مع مشاعر الشعراء، ومتماهيًا مع عواطفهم حين تجرح، وأرواحهم حين تئن وتشتكي، وقلوبهم حين تذرف الدمع، فهو حاضر مع نوح مداد الأحرف وحنين معانيها، إذ هو في الجاهلية يعبر عن الفقد وخسران الحياة والخوف من العدم، وفي الإسلام أصبح محل فخر لكل صالح أو شهيد، أو فقد ما يرتبط بالإرث الإسلامي ورموزه، ثم مازالت تتقلص مؤشرات الرثاء عبر العصور حتى عصرنا الحديث، فانحسر حضورًا، وانكمش فنيًّا شيئًا فشيئًا، لا لأن الشعراء ما عادوا يتألمون أو ماتت أحزانهم، ولكن ما عاد يُتناول الرثاء كمان كان سابقًا، وما أضحى  لأنينه رجع صدى، وذلك لتتابع الأحداث والآلام، وقوة حضور التقنية المعاصرة، والتي لعب فيها الصوت والصورة الحديثة دورًا رائدًا في قوة التأثير!

فأين نحن من الرثاءات المبكية والمدوية التي جابت الآفاق، وعبرت البيد والبحار?!

يقول عمرو بن معد يكرب في رثاء أخ، ويمزج رثاءه بالفخر والشجاعة:

كم من أَخٍ ليَ صالحٍ

بوَّأتُه بيدَيَّ لَحدَا

ما إن جزِعتُ ولا هلِعتُ

ولا يردُّ بكايَ زَندَا

ألبسته أثوابَه ..

وخُلِقتُ يوم خلقتُ جَلْدَا

أُغنِي غَناءَ الذّاهبينَ ..

أُعدُّ للأعداء عَدَّا

ذهب الذين أُحِبُّهم

وبقيتُ مثل السيف فردَا!

ويقول ابن شهيد الأندلسي يرثي قرطبة:

ما في الطُّلول من الأحبةِ

مخبرُ

فمن الذي عن حالها

نستخبرُ?!

فلِمثل قرطبةٍ ..

يَقلُّ بكاءُ من يبكي

بعينٍ دمعُها مُتفجِّرُ!

وتقول البكاءة الخنساء:

يذكرني طلوعُ الشمسِ ..

صخرًا

وأذكره ..

لكل غروب شمسِ

ولولا كثرةُ الباكين ..

حولي

على إخوانهم ..

لَقتلتُ نفسي!

ويقول البوصيري في ميميته يحاكي البردة:

أمِن تذكرِ جيرانٍ

بذي سلمٍ

مزجتَ دمعًا

جرى من مقلدةٍ بدمِ

أم هبَّتِ الريحُ من تِلقاءِ

كاظمةٍ

وأومضَ البرقُ

في الظلماءِ من إضمِ?

فما لعينيكَ ..

إن قلتُ اكففا همتَا

وما لقلبك ..

إن قلتُ استفق يهِمِ?!

ويرثي الجواهري مجزرة الشهداء بعاطفة مشبوبة:

أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ

بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ?

فَمٌ ليس كالمدَّعي قولةً

وليس كآخَرَ يسترحمُ

يصيح على المُدْقِعين الجياعَ ..

أريقوا دماءَكمُ تُطعَموا!

ويقول شوقي يرثي عمر المختار:

ركزوا رُفاتَك ..

في الرِّمال لواءَ

يستنهضُ الوادي ..

صباح مساءَ

يا ويحَهم ..

نصبوا منارًا مِن دمٍ

توحي إِلى جيلِ الغدِ البغضاءَ

ما ضرَّ لو جعلوا العلاقةَ

في غَدٍ

بَينَ الشُعوبِ ..

مودةً وإِخاءَ?!

وغيرها من المراثي التي خلدتها

ذاكرة التاريخ، وتناقلتها الأحزان عبر العصور!

واليوم في ظل تعدد وسائل التواصل المختلفة يضيع رثاء الشعر وبكاؤه، خلافًا للزمن الماضي الذي يؤثر فيه الكتاب الورقي، والجريدة اليومية والرسائل الإخوانية، والمجالس الأدبية، والمنتديات الثقافية. واليوم ربما انحصر أثر الرثاء على ذوي الراحلين في جبر مصابهم، وتعزية نفوسهم، وهذا الأثر لن يكون قويًّا مالم يصحبه صوت قوي أو صورة متَّقدة، تماشيًا مع العصر الحديث، وهذا تحدٍّ كبير يقف أمام الشاعر وقلمه، فالتقنية الحديثة أثرت كثيرًا على الثقافة عمومًا، وعلى الشعر خصوصاً بجميع أغراضه، والرثاء أضعف غرض من ناحيتين: ضعف صياغة الرثاء وكيفية تناوله، وقلة المراثي الحديثة المؤثرة، فقد بات الشاعر ينثر حينًا أسطرًا مقتضبةً منثورةً أو منظومةً لمراثيه، وأخرى على خجل يندب محاسن الفقد، وأنينَ الفاجعة، محفوفة بالترحم والدعاء!

وعلى إثر هذا طُرح سؤال من قبل النقاد والأدباء: هل نحن في عصرنا بحاجة إلى الرثاء؟

ويقول معلقاً على المحور الثالث

يبقى الشعر الشعبي حاضرًا بين جمهوره ومتذوقيه، لكن لا أتوقع يؤثر على الفصيح، لأنه منحصر لدى فئة معينة تلقيه في مجالسها، وأنديتها ومناسباتها، فالفصيح أوسع شيوعًا، وأرحب مساحة، وأكثر أروقة وصرحًا، ولكن أعود للنقطة الأساسية وهي أن الشعر والثقافة بالعموم يصطدمان بالتقنية الحديثة الجارفة، والتي غيرت ملاح الحياة، وحدَّثت كل وسائل التواصل والتأثير، فبات لزامًا على الشعراء والأدباء والمثقفين تغيير اتجاه بوصلة أدوات التأثير، واختراع الجِدة والإبداع في الطرح والأسلوب.

*لا تزال الحاجة مستمرة لفن الرثاء في أشعار العرب

ويؤكد الشاعر عامر الجفالي على تميز فن الرثاء واستمراريته وإن تغيرت ديباجته في حاضره، قائلاً: .

لشعر الرثاء امتياز على بقية أغراض الشعر منذ القدم، وما ذاك إلا لاتسامه بصدق العاطفة وقوتها؛ فهو تعبير عن مشاعر الحزن والألم ولا يمكن التعبير عن ذلك مالم يكن حقيقياً، كما أن دوافعه خالصةً يتقدمها دافع المحبة.

إلا أن شعراء العرب مؤخراً لم يتناولوا أغراض الشعر كما كانت لدى أسلافهم في تعددية الأغراض في القصيدة الواحدة ووحدة الأبيات في المقطع الواحد ثم الخروج لغرض آخر، بل عمدوا إلى الوحدة العضوية في النص الواحد إما رثاء أو غير ذلك من الأغراض، ولم تعد المطولات حاضرة في القصيدة العربية كما كانت .

ويبقى فن الرثاء ذو تأثير بالغ لما يحمل في طياته من مشاعر مؤلمة يجد فيها المكلومون حاجاتهم من التعبير، ويشعرون بأنها تعبر عن مشاعرهم في مواقف الفقد والأحزان، وطالما هناك موت وحياة وفقد؛ فالحاجة لمثل هذا الفن حاضرة وقوية.

فمنذ رثاء عدي بن ربيعة أخاه كليباً حين قال:

دَعَوْتُكَ يَا كُلَيْبُ فَلَمْ تُجِبْنِي

وَ كيفَ يجيبني البلدُ القفارُ

أجبني يا كليبُ خلاكَ ذمٌّ

ضنيناتُ النفوسِ لها مزارُ

أجبني يا كليبُ خلاكَ ذمُّ

لقدْ فجعتْ بفارسها نزارُ

ورثاء الخنساء لأخيها صخرا إذ تقول:

يُذَكِّرُني طُلوعُ الشَمسِ صَخراً

وَأَذكُرُهُ لِكُلِّ غُروبِ شَمسِ

وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي

عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي

مروراً بقول جرير راثيا زوجه:

لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ

وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ

وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّعُ نَظرَةٍ

في اللَحدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ

إلى رثاء محمد مهدي الجواهري وقوله :

في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ
أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا

ولا تزال الحاجة مستمرة لفن الرثاء في أشعار العرب، ولا يسعنا في هذا  المقام استعراض أجمل ما قيل في فن الرثاء سابقاً وحاضراً، إلا أنني أود الإشارة إلى أن عذوبة وتميز هذا الفن تكمن في هول موقف الفقد وحاجة الفاقد للرثاء، خاصة أنّ العرب أكثر شعوب الأرض عاطفة ومشاعرهم جيَّاشة بطبيعتهم.

كما ألمح إلى أضربٍ للرثاء كرثاء الأوطان والأديان ورموز المجتمعات، كقول نزار ناعياً عبدالناصر:

قتلناكَ .. يا آخر الأنبياءْ

قتلناكَ ..

ليس جديداً علينا

اغتيال الصحابة والأولياء

فكم من رسول قتلنا ..

وقول أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس (لكل شيء إذا ماتم نقصان)

وقول محمود درويش في وطنه:

(وطني ! يا أيها النسرُ الذي يغمد منقار اللهبْ

في عيوني أين تاريخ العرب؟

كل ما أملكه في حضرة الموت: جبين وغضب)

وليس كل ما كتب عن الموت رثاء أو يدور في فلكه فهناك من تناول الموت بنظرة فلسفية أخرى كما فعل أيليا أبو ماضي حين يقول:

أن يك الموت رقاداً بعده صحو طويل

فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل؟

ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل؟

ومتى ينكشف السر فيدرى؟

لست أدري!

إن يك الموت هجوعا يملأ النفس سلاما

وانعتاقا لا اعتقالا وابتداءً لا ختاما

فلماذا أعشق النوم ولا أهوى الحماما

ولماذا تجزع الأرواح منه؟

لست أدري!

وهناك من رثى الشباب، كما قال أبو عمرو بن العلاء:ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب وما بلغت مايستحقهوكقول الأصمعيأحسن أنماط الشعر المراثي، والبكاء على الشباب

وقول محمود سامي البارودي راثيا شبابه :

أين أيام لذتي وشبابي

أتراها تعود بعد الذهاب

ذاك عهد مضى وأبعد شيء

أن يرد الزمان عهد التصابي

فأديرا علي ذكراه إني

منذ فارقته شديد المصاب

كل شيء يسلوه ذو اللب إلا

ماضي اللهو في زمان الشباب

وما لدخول التقنية حديثاً من أثر سلبي على تناول الشعر لفن الرثاء بل من الممكن أن يساعد على سرعة انتشاره بين الناس خاصة حال تماسه مع حدث فقد مجتمعي.

أما فن الرثاء في الشعر المحكي أو كما يسمى الشعبي، فله محبيه وجمهوره، وهو لا يختلف عن فصيح الشعر، فالشعر مهما كان ضربه يبقى شعراً وله نفس التأثير لدى محبيه، ومن ذلك رثاء خالد الفيصل أباه الملك فيصل حين قال:

لا هنت يا راس الرجاجيل لا هنت

لا هان راسٍ في ثرى العود مدفون

والله ما حطّك بالقبر لكن آمنت

باللي جعل دفن المسلمين مسنون

وسرى هذا البيت مسرى المثل بين الناس

إلا أن فصيح الشعر أكثر انتشارا بين أقطار العالم العربي ويبقى الشعر المحكي محلياً في انتشاره نوعا ما.

وختاما أود التأكيد على أن فن الرثاء يعد من أنبل أغراض الشعر وأبلغها لما يحمل من خصائص الصدق وقوة العاطفة الجياشة، وجلاء ذلك ما قيل في رثاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كقول حسان بن ثابت في رثائه:

بطيبة رسم للرسول ومعهد

منير وقد تعفو الرسوم وتهمد

ولا تمتحى الآيات من دار حرمة

بها منبر الهادي الذي كان يصعد

إلى أن يقول :

وما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يفقد

*الرثاء مازال متربعاً على قمة الأدب الصادق

ويرى الشاعر د. يحي الزبيدي عمق هذا الفن وجماله ولاسيما فصيحه ويؤكد استمراريته حيث قال :

يُعَدُّ شعر الرثاء من أصفى وأعمق أنواع الشعر العاطفي؛ لارتباطه بمشاعر الفقد والأسى وأحاسيس البعد والفراق الأبدي.

وهوأي شعر الرثاءممتد على مدار العصور الأدبية منذ الجاهلية حتى يومنا هذا وسيظل؛ طالماً أن هناك روحاً تتألم وتتأوه وتبكي ندباً وتأبيناً وعزاءً.

ولا شك أن هذا النوع من الشعر يبعث على المساواة والمشاركة في المصاب وتقاسم وقع النازلة مع ذوي المخصوص بالرثاء؛ وفي ذلك جبرٌ لأصحاب الفاجعة وبعثٌ على تعليلهم بالصبر ودفعٌ بهم إلى مدارج السلوان.

وبرغم تطور الحياة وسيطرة مظاهر المدنية وغلبة التقنية وظهور العبارات العزائية (المُعلّبة)إن صح التعبيرإلا أن هذا الغرض الشعري الإنساني النبيل ما يزال متربعاً على قمة الأدب الصادق المعبِّر بحق عن مشاعر جياشة وأحاسيس أصيلة متدفقة من الذات الشاعرة.

والحقيقة أن شعر الرثاء لم نتعلمه ونتعمق في أسرار تدفقه ونتذوقه بكل شغفٍ ونغوص في كُنْهِ جوهره الثمينإلا عربياً فصيحاً، حاملاً في عمقه أسرار هذه اللغة الجميلة بحروفها ومعانيها وصورها وأخيلتها البديعة مهما اعترى الأذواق من تأثيرات اللهجات المحكية أو اللغات الإقليميةلنخلص في نهاية المطاف إلى أن هذا النوع من الشعر بلغته العربية الفصحى  هو الأبقى أثراً والأسمى امتداداً والأجمل روحاً وبوحاً وتدفقاً.

*علينا ألا نعمل على تعزيز حضور هذا الفن أو تلافيه

ويشاركنا الشاعر اللبناني لامع الحر برأيه قائلاً :

المعروف أن الأغراض الشعرية التقليدية قد تجاوز معظمها الزمن، فالمناسبات صغيرة كانت أم كبيرة، تمر دون أن يكون للشعر موقف منها، أو تعليق يتناولها، أو قصيدة تنهل من معينها .

فالرثاء كان في الماضي  غرضاً شعرياً كثير التداول وكان الشعراء يتبارون في تأبين هذه الشخصية أو تلك، والجمهور يصغي بإمعان شديد للشعراء المعروفين الذين يضفون على المناسبة نفساً ابداعياً جديداً

واليوم يتجنب شعراء الحداثة الاستغراق في مواضيع تقليدية كالرثاء والمديح والهجاء و ما شابه ذلك ؛سعياً إلى نهج جديد شكلاً ومضموناً،

فمحمود درويش في قصيدته ( مديح الظل العالي ) التي كتبها اثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام١٩٨٢ تجنب رثاء الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي على الرغم من الصداقة العميقة التي كانت تربط بينهما واكتفى بالإشارة إليه إشارةً لا تليق بمبدع من طراز صاحبجحيم الكوميديافقال : “وخليل حاوي لا يريد الموت رغماً عنه / لا يريد الموت “ .

لكن العلاقات الحميمة تحتم في بعض الأحيان على الشاعر أن يلجأ للرثاء للتعبير عن حاله وإحساسه أثر فقدان قريب أو عزيز، فلحظات البكاء والدمع الغزيز يدفعان الشاعر إلى الكتابة، لتفريغ شحنة الحزن الشديد عبر قصائد تعبر عن شدة المعاناة وعن الفقدان الكبير الذي لا يعوض، فأنا على سبيل المثال لا الحصر عندما توفي ابن أختي وثم أختي انغمستُ من رأسي إلى أخمص قدمي في الرثاء الذي تملكني على غير عادة وسار معي إلى عوالم لم تكن في الحسبان وإلى رؤى شعرية ترقى إلى مستوى الحدث الكبير  وبعد الكتابة والنشر تكتشف أن تأثير هذا الشعر ينعكس إيجاباً على الأقارب والمقربين ويخفف من حدة الحزن والألم ، كما ينعكس على المشغولين بالهم الشعري انشغالاً يضيء مساحاتٍ كانت مظلمة في الساحة الإبداعية العربية

وهذا يدل على أن شعر الرثاء ما يزال حاضراً في عالمنا وفي الساحة الأدبية ، وعلى الرغم من التنظيرات الحداثوية التي تمقت الفنون التقليدية برمتها ولاسيما الرثاء

ولهذا علينا ألا نعمل على تعزيز حضور هذا الفن أو تلافيه ونترك الأمور تجري دون أدنى تدخل ودون الالتفات إلى ما يقوله النقد السائد الذي يحارب الذي يحارب هذه الأغراض ويدين العودة غير المشكورة إليها، ولابد من الإشارة إزاء هذا الموقف الصارم من الرثاء إلى أن التغيرات الكثيرة التي طالت عالمنا وماتزال لم تستطع أن تلغي هذا الفن، لا لشيء إلا لأنه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوجود الإنساني وما يكنز من مشاعر حميمية صادقة، ولا شك أن شعر الرثاء بالعربية الفصحى أخلد من سواه، أما الرثاء بالعامية فهو الأكثر انتشاراً ؛ وذلك لبساطته وعفويته ولمحاكاته لمشاعر الناس العاديين ويبقى الرثاء فناً منتشراً في الساحة الشعرية العربية على الرغم من كل المعوقات التي تحد من وجوده ويبقى اللجوء إليه خياراً يخفف من حدة المأساة ويفتح للقارئ والمبدع على حد سواء أبواباً متعددة لم تكن منتظرة، وطرقاً ليس من السهولة بمكان الخوض فيها أو تجنبها.

*الشعر الفصيح هو الأكثر بقاءً

ويؤكد القاص والإعلامي الأستاذ بخيت طالع الزهراني على دور التقنية في تعزيز مكانة الشعر وحفظه بقوله :

مما لا شك فيه أن قصائد الرثاء، مما يجبر خاطر أهل الميت، وأيضا مما يسليهم ويخفف من مصابهم، خاصة إذا كان الشاعر فطناً، وأورد في نصه مضامين وصورًا شعرية ملهمة، تؤكد على أمرين، الأول: ذكر مناقب الميت وخصاله.

والثاني ما يفيد أن أبناء المتوفي سيكونون في ذات كرم المتوفي، وشجاعته ونبله .. وأن الموت سنه كونية، وان الجميع ميتون وإن طال مقامهم، وأن الصبر في هذا المقام هو القيمة العليا .. مثل هذه المعاني إذا تضمنها النص الشعري، كانت بالفعل مما يصل إلى الهدف المنشود من القصيدة الرثائية.

وشعر الرثاء كان وسيظل حاضرًا، لسبب بسيط وبديهي، وهو أنه تفاعل وجداني مع حالة إنسانية، وهذا التفاعل سيبقى سيرورة حياتية لازمة.

وفي ظني ليس ثمة تضاد بين الشعر وثورة التقنية، فالمنصات الرقمية لا أراها عائقا أمام المزيد من انسياب شعر الرثاء وانثياله، بل على العكس فهي معززة له، كونها قنطرة تحمل على جناحيها رسائله ومضامينه عبر أقرب وأسرع الطرق .. ثم أنها أيضا حاضنه مهمة تحفظ لنا المنتج الشعري.

ويرى أن الشعر الفصيح هو الأكثر بقاء، والأكثر فهماً لدى مختلف بيئات الوطن العربي، ولا يعني هذا الانتقاص من قيمه الجانب المقابل، وهو الشعر الشعبي، فهذا الأخير إن كان قائله يجيد قول الشعر فعلاً، فإن الرسالة تصل، حتى أن الملاحظ الآن أن الشعر الشعبي له شعبيته ومحبوه .. ودعوني أقول شيئا: إن الشعر الشعبي يحظى بشعبية كبيرة قد تفوق شعبية الشعر بالفصحى، بشرط عدم الإغراق في المحلية، والتعاطي مع مفردات محدودة الانتشار.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود