الأكثر مشاهدة

صالحة حكمي* فِي عَام أَلْفٍ وَتِسْعمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ الْتَقَطَ ال …

السَّنوسِي.. المفَارَقة والائتِلاف معا

منذ سنة واحدة

170

0

صالحة حكمي*

فِي عَام أَلْفٍ وَتِسْعمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ الْتَقَطَ السّنُوسِيُّ أَوَّلَى أَنْفَاسِهِ، معلنا عَنْ قُدُومِهِ إِلَى أَرْضٍ سَيَتَوَلَّى عَمَّا قَرِيبٍ وَضْعَهَا فَوْقَ القمم.
ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ عَامًا فَقَطْ كَانَتْ رِحْلَتُهُ مِنْ بَوَّابَةِ الدُّخُولِ حَتَّى بَوَّابَةِ الدُّمُوعِ، لَسْنَا نُبَالِغُ إِن قُلْنَا إِنَّهُ أَسَّسَ فِيهَا مَجْدًا لِأُمَّتِهِ يَفُوقُ مَجْدَ مُؤَسَّسَاتٍ وَجُهُودَ جَمَاعَاتٍ وَفِرَقٍ مُجْتَمِعَة.
ثَلَاثَة وَسِتُّونَ عَامًا، ثُمَّ هَزَمَ ابْنُ جازانَ سَطْوَةَ الْمَوْت؛ وقد قال:
نحضن الموت بالصدورِ ونمشي فوق ألغامهِ حفاةً ونزرعُ
وهذا هو فِي كُلِّ مَحْفِلٍ تُرْفَعُ سِيرَتُهُ، وَفِي كُلّ طَرَبٍ يُنْشَدُ شِعْرُهُ، فَكَأَنَّهُ أَمَامَنَا يَبْتَسِمُ، وَاثِقًا مِنْ أَنَّ أَبْيَاتِهِ سَتَعْبُرُ حَوَاجِزَ الزَّمَانِ وَالْمكان، كَمَا عَبَرَ هُوَ الْجَمِيعَ وَسَبَقَهُمْ يقول:
(العالم العربي ) قبلة خاطري
ومطاف أَخيلتي وغار (حرائي)
ألقاه في لمح الكواكب والدجى
يرنو إلى إطراقةِ الشعراء
ثَلَاثَة وَسِتُّونَ عَامًا عَاشَهَا مُؤْمِنًا بِمَوْهِبَتِهِ، فَآمَنَّا بِهِا، وَبَيْنَمَا لَمْ تَكُنْ الْمَطَابِعُ قَدْ غَزَتْ أسواق الْمَمْلَكَةَ، كَانَ يُرْسِلُ إِبْدَاعَهُ لِيُطْبَعَ فِي بلدان مُجَاوِرَةٍ، فَتَلُفُّ قَصَائِدُهُ قَبْلَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ تَعُودُ لِتَبِيتَ فِي أَحْضَانِهِ عَلَى رِمَالٍ دَافِئَةٍ وَأَرْضٍ طَيِّبَةٍ لَا تُخْرِجُ إِلَّا طِيبًا، يَلْتَحِفُ بِهَا فَلَا يَعُودُ رَاغِبًا إِلَّا فِي إِكْمَالِ الْمَقْطُوعَةِ، وَأَنْ يَعُودَ لِيَحْلُمَ بِأَعَاجِيبِ الصِّيَاغَة.
ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ خُطْوَةً، عَلَى صَفْحَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ، يَقُولُ:
مِنْ الْجَزِيرَةِ مِنْ أَرْضِي وَمِنْ بَلَدِي * تَأَلَّقَ النُّورُ نُورُ الْحَقِّ وَالرَّشَدِ
وَمَنْ رُبَاهَا رُبَاهَا الطَّاهِرَاتِ ثَرَى * تَنَفَّسَ الصُّبْحُ مَنْ بَدَرٍ وَمَنْ أَحَدٍ
نَقْرَأُ أَبْيَاتِهُ فَنَسْأَلُ أَنْفُسَنَا: بِاللَّهِ لِمَاذَا تُطِلُّ الدُّمُوعُ؟! وَلِمَاذَا نَشْعُرُ بِهَذَا الصِّدْقِ يَلْذَعُ الْقَلْبَ، فَلَا يَعُودُ فِيهِ إِلَّا الْإِيمَانُ بِالْمَكْتُوبِ؟!
بكينا على الماضي كثيرا وإن يكن
خطيرا فما يجدي البكاء والتفجع
مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم
فسيروا كما ساروا على الدهر واصنعوا
ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ دَرَجَةَ سُلَّمٍ، وَصَلَ بِهَا إِلَى الْمَجْدِ، هُوَ شَاعِرُ الْجَنُوبِ، وَلَنْ يُنَازِعَهُ أَحَدٌ، وَالرَّائِدُ الْأَدَبِيُّ، وَرِيثُ الْمُتَنَبِّيِّ، وَلَيْسَتْ مجرد قِلَادَةٌ نَالَهَا، وَلَا مِيدَالْيَةٌ ذَهَبِيَّةٌ جَاءَتْهُ تَسْعَى وَلَمْ يَأْتِهَا، إِلَّا شاهدا عَلَى رُسُوخِهِ، وَصِدْقِهِ، وَإِجَادَتِهِ.
الْيَوْمَ نُعَايِنُ سَطْرًا فِي صَفْحَتِهِ، وَنُرَدِّدُ مَعًا جَانِبًا مِنْ أُنْشُودَتِهِ الَّتِي عَزَّتْ عَلَى الْفَنَاءِ، أنشودة الوفاء والانتماء قَصِيدَة الْمُتَنَاقِضَاتِ كَمَا أُسَمِّيهَا، وَدُفْقَة ضَوْء تُنْبِئُنا بِأَنَّ خِيَارَاتِ الْقَصِيدَةِ مَا زَالَتْ (بَعْدَ أَنْ رَحَلَ) طَوْعَ بَنَانِهِ وَمَلِكُ يَدَيْهِ!!
قصيدة الليل في الريف.
هي رِحْلَةٌ مِنْ مُفَارَقَةٍ إِلَى مُفَارَقَةٍ، يَسْتَحْوِذُ فِيهَا عَلَى الِانْتِبَاهِ، فَلَا يَتَشَتَّتُ، وَيَحُوزُ زِمَام الْمُبَادَرَةِ، فَيُفَاجِئُنَا مُنْذُ مَطْلَعِهَا بِرُوحِ الْأَدِيبِ الْمُفَكِّرِ، وَنَقْصِدُ بِالْمُفَارَقَةِ؛ مَا سَطَّرَهُ أَرِسْطُو وَمَا أَوْرَدَهُ أكسفورد وَمَا تَنَاوَلَتْهُ المعاجم الْعَرَبِيَّةُ، مِنْ شأن الْمُغَايَرَةُ، الْإِحْسَاسُ بِالنَّقِيضِ بِإِيرَادِ نَقِيضه، وَهُوَ حِينًا التَّهَكُّمُ وَالِاحْتِفَاءُ بِمَنْطِقِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ الْوَعْيُ بِالْفَوْضَى اللَّانِهَائِيَّةِ، وَبِحَشْدِ التَّنَافُرِ الْمُؤْتَلِفِ، وَالْمُخْتَلِفِ الْمُتَوَافِقِ، والمتتبع للمفارقةِ وأنماطِها البلاغيةِ في الآثارِ الشعريةِ العظيمةِ، يجدها أنها لغتهُ الحتمية وسلاحُ الشعراءِ الكبار في سجل الشعريةِ الكونيةِ.
يَقُولُ السّنُوسِيُّ:
اللَّيْلُ فِي الرِّيفِ غَيْرُ اللَّيْلِ فِي الْمُدُنِ * فَافْتَحْ ذِرَاعَيْكَ لِلْأَرْيَافِ وَاحْتَضِنِ
تَنْشَطِرُ أَرْضُ الْقَصِيدَة، وَيَقِفُ الشَّاعِرُ مُتَأَمِّلًا النِّصْفَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا نَهْرُ الْحَيَاةِ؛ فَاللَّيْلُ الْوَاحِدُ صَارَ لَيْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ، والْمَشْهَدِيَّةُ مَرْسُومَةٌ بِاحْتِرَافِيَّةِ رَسَّامٍ مُقْتَدِرٍ، وَكَيْفَ لِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ (اللَّيْل) أَنْ تَحَمِلَ إِيحاءَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ؟! سَلُوا السّنُوسِيَّ، وَمِنْ قَبْلِهِ قَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي (مِفْتَاحِ الْعُلُومِ): (تَجِدُ الضِّدَّ أَقْرَبَ خُطُورًا بِالْبَالِ مَعَ الضِّدِّ)! لذلك تقوم شعريةُ المفارقةُبشكلٍ أساس على التضاد بين المعنى الظاهري والباطني. وكلما اشتد التضادُ بينهما، ازدادت حدة المفارقةِ في النص ،
وَالْمَدِينَةُ تُضَادُّ الْقَرْيَةَ، وَفَتْحُ الذِّرَاعَيْنِ يُعَاكِسُ ضَمَّهُمَا، وَالْمُفَارَقَةُ تمتد وَتَتَّسِعُ!
بَيْتٌ وَاحِدٌ وطِباقَاتٌ تُرَسِّخُهُ، ، وَتَرْفَعُ أَلْسِنَةَ لَهَبِ الْقَصِيدَةِ إِلَى مَصَافِّ الْمُفْتَتَحَاتِ الِانْفِجَارِيَّة، غَيْر أَنَّهَا هَادِئَة، وَالْقَافِيَةُ نُونِيَّةٌ مُطَئطِئَةٌ مَكْسُورَةٌ.. سُكُونٌ تَامٌّ، يُشْبِهُ سُكُونَ اللَّيْلِ الَّذِي يُغَلِّفُ الْقَرْيَةَ وَالْمَدِينَةَ مَعًا.
وَاسْتَقْبِلِ اللَّيْلَ فِيهَا إِنَّهُ مَلِكَ * ضَافِي الْجَنَاحَيْنِ يُغْرِي الْعَيْنَ بِالْوَسَنِ
كَأَنَّهُ فَيْلَسُوفٌ مُطْرِقٌ عَجَبًا * مِمَّا يَرَى فِي حَيَاةِ النَّاسِ مِنْ دَرَنِ
أَوْ شَاعِرٌ عَبْقَرِيُّ الْفِكْرِ مُنْغَمِرٌ * فِي لُجَّةِ الْوَحْيِ لَا يَدْرِي عَنِ الزَّمَنِ
أَوْ خَاطِرٌ فِي ضَمِيرٍ بَاتَ منفصلًا * بِطُهْرِهِ وَمَزَايَاهُ عَنِ الْإِحَنِ
أَوْ عَاشِقٌ غَارِقٌ فِي حُبِّ فَاتِنَةٍ * فَلَيْسَ يَعْنِيه شَيْءٌ كَانَ أَوْ يَكُنِ
صَمْتٌ يُحَلِّقُ بِالْأَرْوَاحِ فِي أُفُقٍ * مِنَ السُّكُونِ ثَرِيٍّ بِالْجَمَالِ غِنَى

تَتَعَدَّدُ الْأَوْصَافُ وَيَتَفَرَّدُ الْمَوْصُوفُ، هُوَ سَيِّدُ الظَّلَامِ، اللَّيْل الْمُدْلَهِمّ السَّائِل، مُفَارَقَة أُخْرَى عَلَى مُسْتَوَى الصِّيَغِ، (اسْتَقْبِلْ) الْأَمْرِيَّة، لـ(يُغْرِي) الْخَبَرِيَّة، الْآنَ نَشْهَدُ أَنَّ اللَّيْلَ صَارَ مَعَهُ فَيْلَسُوفًا وَشَاعِرًا عَبْقَرِيًّا، وَخَاطِرًا ضَمِيرِيًّا وَعَاشِقَ فَاتِنَةٍ، لَكِنَّهَا وصوف مُسْتَكِنَّة لَا مُضْطَرِبَةَ مُخْتَلِطَةً، فَلْسَفَتُهُ الْهُدُوءُ وَعَبْقَرِيَّتُهُ الِانْسِيَابِ وَالْأَمْنِ وَخَاطِره التَّحْلِيق فِي فَضَاءَاتِ الْوَحْدَةِ الْغَنِيَّة بِالْجَمَالِ. فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا هَذِهِ الْمَقْطُوعَةِ يَقْبَعُ الْفِعْلَانِ (كَانَ وَيَكُنْ) امْتِدَادَيانِ زَمَنِيَّانِ نَاسِخَانِ مُتَنَاقِضَانِ، أَحَدُهمَا يَحْوِي فِي بَاطِنِهِ الذِّكْرَى، والآخر يَنْظُرُ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
إن حسَ الشاعر السنوسي بالمفارقةِ لم يقتصر على رؤية الأضداد ووصفها في إطار المفارقة، بل في قدرته على إعطائِها صورة في الذهن، وليس كل شاعر يستطيع أن يتلبس فلسفة المفارقة، فهي ليست لبوسا خارجياً، بل فلسفةٌ ونظرةٌ جوهريةٌ للعالم وإذا لم يستغرق الشاعر فيها، ويتشبع بها، لا يجدُ فكرهُ وشعرهُ طريقا إليها. وحين تصبحُ المفارقةُ عند الشاعر فلسفةً وسلوكاً وشعوراً يستطيع عندها أن يلتقط أشتات المفارقة من الواقعِ والكون ويجمعها في منشورِ اللغةِ والشعرِ كما جمعها السنوسي.
اللَّيْلُ فِي الرِّيفِ لَيْلٌ فِي مَعَاطِفِهِ * وَمَلْءُ أَرْدَانه رُوحُ الْهَوَى اللَّدِنِ
هُنَا غلَالَتُهُ الزَّرْقَاءُ زَاهِيَةٌ * (كَطَرْحَةٍ) فَوْقَ وَجْهٍ فَاتِنٍ حَسَنِ
وَاللَّيْلُ فِي الرِّيفِ وَجْهٌ فِي شَمَائِلِهِ * سَمْتُ التقىِّ النَّقِيِّ الْخَاشِعِ الْفَطِنِ
هُنَا السَّمَاءُ تَرَاءَى مِنْ جَوَانِبِهِ * نَقِيَّةً مِنْ دُخَانِ الْغَازِ وَالْعَفَنِ
يَمْتَدُّ فَوْقَ تَجَاعِيدَ وَأَفْئِدَةٍ * فِطْرِيَّةِ الْعَيْشِ وَالْعَادَاتِ وَالسُّنَنِ
وَلَئِنْ شَعَرْنَا بِأَنَّ الْقَصِيدَةَ طَرَفَانِ؛ رِيف وَمَدِينَة، وَأَنَّ مِيزَانَهُ كِفَّتَانِ: لَيْل هَذِهِ وَلَيْل تِلْكَ، فَإِنَّ الشَّاعِرَ يُنْبِئُنَا بِأَنَّ الْحَدِيثَ مُعَلَّقٌ بِلَيْلِ الرِّيفِ وَحْدَهُ، وَالْمَدِينَةَ مَا اسْتُجْلِبَتْ إِلَّا لِلْمُفَارَقَةِ، وَقَدْ انْتَهَى عَمَلُهَا، فَعَلَيْهَا الرَّحِيلُ، لِيَعُودَ إِلَى فِطْرِيَّة الْقَرْيَة، الَّتِي تُشْكِّلُ سَمَاؤهَا الزَّرْقَاءُ (طَرْحَةً) عَلَى الْوَجْهِ الْجَمِيلِ.. وَنَعَمَ، أَقُولُ: نَعَمَ، مُفَارَقَة أُخْرَى بَيْنَ (الطَّرْحَةِ) الَّتِي تَسْتُرُ وَالسَّمَاءِ الَّتِي تَكْشِفُ، وَهِيَ لَوْحَةٌ لَوْنِيَّةٌ قِوَامهَا زرقة السَّمَاءِ الزَّاهِية وَسُفُور الْوَجْهِ الْحَسَنِ، سَمَاء نَقِيَّة غَيْر مُعَبِّأةٍ بِدُخانِ الْمَدِينَة، وَوَجْهٍ لَا تَعْرِفُ التَّجَاعِيدُ غَزْوَهُ.. صَافٍ مِثْلُ قُلُوبِ أَهْلِ الرِّيفِ، أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ، وأبناءِ الإخضرارِ اللانهائيِّ، فَهُمُ الْفَائِزُونَ بِنَعِيمِ الْحَيَاةِ، عَلَى أَنَّ فِي كَلِمَة (طَرْحَة) جُرْأَةَ اقْتِحَامٍ، وَتمرُّدًا عَلَى قُيُودِ كُلِّ مَأْلُوفٍ، وَخُصُوصِيَّةً لِلسّنُوسِيِّ وَلِصِدْقِ تَشْبِيهَاتِهِ.
قُلُوبُهُمْ وَأَمَانِيهِمْ وَنَظْرَتُهُمْ * صُوفِيَّةُ الرُّوح مِنْ صُوفِ الثَّرَى الْخَشِنِ
الشَّاكِرِينَ إِذَا مَسَّ الْحَيَاة نَدَى * وَالصَّابِرِينَ عَلَى الْآلَامِ وَالْحُزْنِ
هُنَا السَّمَاءُ لَهَا لَحْن يُرَجِّعُهُ * عَزَفَ النَّسَائِم فِي الْآكَام والقٌنَنِ
مِنْ كُلِّ عَاطِرَةٍ رَيَّا مُضَمِّخَة * بِالْمِسْكِ يَنْدَاحُ مِنْ زَهْرٍ وَمِنْ فَنَنِ
وَاللَّيْلِ فِي الرِّيفِ لَيْلُ الْعَاشِقِينَ وَقَدْ * نَامَ الْوُجُودُ وَهَامَ الْقَلْبُ بِالشَّجَنِ
يَا لَيْلَ الْهَوَى وَالْجَوَى وَالْحُبّ مُنْطَلَقًا * مَلْء الرُّبَا وَالصِّبَا وَاللَّحْظِ وَالْأُذُنِ
مَرَّةً أُخْرَى تَتَّخِذُ الْمُفَارَقَةُ مَنْحًى حَادًّا يُنْبِئُ بِرُسُوخِ الْمَعْنَى.. كُلُّ وَصْفٍ لِهَؤُلَاءِ الْبُسَطَاءِ الطَّامِعِينَ فِي لُقْمَةِ عَيْشٍ حَلَالٍ، الصَّابِرِينَ عَلَى الْأَذَى يُعَادِلُهُ وَصْفٌ يَسْتَدْعِيه إِلَى الذِّهْنِ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، عَنْ أُنَاسٍ طِينَتُهُمْ التَّمَرُّدُ وَقِلَّة الصَّبْرِ وَالْخُشُونَةِ.. لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ (كَمَا يُغَرِّدُ السَّنُوسِيُّ) أَيْضًا خُشُونَة، لَكِنَّهَا خُشُونَةُ الثَّرَى الَّذِي يَشِفُّ الرُّوحَ النَّاسِكَةَ، وَيَرْفَعُ الْقَلْبَ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، هِيَ مُفَارِقَةٌ بَيْنَ مَذْكُورٍ فِي الْقَصِيدَةِ، وَمَفْهُومٍ مِنْهَا مَوْجُودٍ خَارِجَهَا، مُفَارَقَةٌ قِوَامُهَا خُلُوصُ لَيْلِ الرِّيفِ إِلَى الْعَاشِقِينَ يَحْتَوِيهِمْ، فَهُوَ لَيْلُ التَّجَمُّعِ لَا التَّفَرُّقِ، وَهُوَ لَيْلُ الْحُبِّ لَا الْكَرَاهِيَةِ، وَهُوَ لَيْلُ الْعَزْفِ وَالْأَلْحَانِ لَا الضَّوْضَاءِ وَالضَّجِيجِ.
إن المفارقة لا يقدم عليها إلا الشعراء الكبار ويَفر منها من كانت تجربته بسيطة ومحدودة. فهي تحتاج إضافة إلى تحديد معالمِها والتفاعلِ معها والشعورِ بها في الحياة اليومية، قدرة في تجسيدها لغة وشعراً وإحساسا.
إِنَّهَا قَصِيدَةٌ الليل في الريف قصيدة السَّلَامِ وَالْحُبِّ وَالِاحْتِوَاءِ، وَعَنْ خِبْرَةِ شَاعِرٍ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي وَضْعِ الصُّورَةِ إِلَى جِوَارِ أُخْتِهَا، وَفِي مُتَابَعَةِ الزُّهْرَةِ وَهِيَ تَنْمُو، وَالطُّيُورِ وَهِيَ تَبُثُّ تَغْرِيدهَا، وَالسَّنَابِلِ وَهِيَ تَتَمَايَلُ بِلَثْمَةِ رِيحٍ، أَلِفَ الْجِمَالَ فَعَانَقَهُ، وَأَلِفَهُ الْجَمَالُ فَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ – وَإِنْ كَانَ عَلَى الضَّفَّةِ الْأُخْرَى مِنْ نَهْرِ الْحَيَاةِ الْجَارِي – يُلَوِّحُ لَنَا بِيَدِهِ أَنَّ كُونُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَحْضَ مُحِبِّينَ، أَحِبُّوا.. أَحِبُّوا.. أَحِبُّوا!
فَتَنْجَلِي الْمُفَارَقَةُ وَيَنْسَجِمُ الْمُخْتَلِفُ وَتَتَجَاذَبُ الْأَضْدَاد!.

*ناقدة سعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود