مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

شمعة جعفري* أقف بين زميلاتي مفتخرة، واضعة يدي في وسطي، أغيظ زميلاتي حين يتحدثن ع …

الموناليزا الباكية

منذ شهر واحد

118

0

شمعة جعفري*

أقف بين زميلاتي مفتخرة، واضعة يدي في وسطي، أغيظ زميلاتي حين يتحدثن عن أمهاتهن، أقول:
أما أنا، فلم أرَ أمي مرَّة باكية، قط!
كانت تُشبِه نخلتنا القريبة، مهما قلّ ماؤها، رفعت أجنحتها إلى السماء، كأنما هي من عالم علوي!
يومَ أن وقفَتْ لمعلمتي التي ضربتني، توبِّخها بثبات مقاتل في أرض المعركة، قالت لها بصوت نفد منه الحنان:
ابنتي لا تُضرب، ابنتي لا تُهان.. علموا أبناءنا لا تقتلوهم، لا تتسلطوا عليهم فقط لأنكم أكبر.. أنا أسنّ منك، أترين أن بإمكاني ضربك!
يومها تعلمت درسين: الظلم ممقوت، وكيف أقف أمام الأهوال لا أهتزّ!
مات أبي ففزعنا، جرينا كل صوب، لا طريق واحد نعرفه، كدنا نتوه، لولا أن لَمْلَمَتنا يداها، وصمدت، وأمام البشر ومن خلف نقابها، جمّدت ملامحها، وكأنني سمعتها تقول: فلنؤخر البكاء.. أطلقَتْ إرشاداتِها، وبقيَتْ ربّانة السفينة، ونحن بتوجيهاتها، أمهر ملاحين، حتى عبرنا المضيق!
ما زلت أراها وهي تضع كعكاتها المنزلية، توزّع خمس قطع علينا، وتنسى نفسها، فإذا عرضنا عليها أن تأكل كعكة أحدنا، ابتسمت وقالت: الكعك يتعبني.. كبرتُ فعرفت أن ما يتعبها ألا ترى البسمة، ومشاكساتنا الدائمة.
كانت التضحيةُ الدرسَ الأول، سَقَتْه لأخويّ اللذين لبسا معطفهما الأبيض، وغابا في جوف المستشفى البعيد، في أخطر لحظات الكون.. وباء وفواجع حول العالم، وطواقم طبية لا ترتاح، يتصلان بها، فترجوهما أن يعودا، فيعتذران بأن الله قد تخيرهما لمهمة.. وأن الرسول جعل من الموبقات التولِّي يوم الزحف.. وأي زحفٍ أخطر من زحف فيروس لعين على أمتنا؟! فتغلق ببسمة ارتياح، لكنها لا تلبث أن تلمس الحواشي في الأرض، موضع جلوسهما، وتستعين بالدموع، والدموعُ لا تُعين!
سكن أخواي الآخران مدينة، وبقيتُ وحدي، أُشبِهُ جوهرةَ عقدٍ انفرطَتْ حبَّاتُهُ، أُسرِّي عنها وأسليها، وكيف يسلي الواحد عن الخمسة؟!
ما زالت تصنع ستة فناجين للقهوة، ولا أجرؤ على سؤالها: لمن؟!
ما زالت تعد كعكاتها الخمس، ولا تأكل منها!
صامتةً بعد أن كنا نرجوها أن تصمتَ، وتترقب نشرات الأخبار مُحصِيةً عدد الإصابات والمتعافين والمتوفين، وكانت من قبل تتبرم إذا فُتح التلفاز أمام عينيها، قاطعًا عليها مسامرات الحب ودفء العائلة.
أنام في غرفتها، فأسمعها تناديهم، تناديهم، حتى يغلبها النوم، أو تغلِبُه، فتظل تدعو إلى الصباح: اللهم إنك تعرف كم أحبُّهُم، اللهمّ إنك لن تُفجِعَ قلبي، ولن تحرمَني ضمة أخرى، وحضنًا جديدًا.
ربّي إنك رزقتني إياهم، وأعوذ برزقك من الزوال، ووهبتني قُبلَتَهُم فلا تؤخرها عن وجنتي.
فإذا اطمأنَّتْ إلى أنني نمتُ، وإنني منذ رحل إخوتي لا أنام.. أرقبها، تفجَّرَتْ الدموع وسمعتُ الشجن، ورأيت هذا الجبل الصلب الذي أدَّب معلمتي، وربّى إخوتي، وحرم نفسه من كعكة محلاة، ومن نومةٍ هانئة.. تقول بنفاد صبر: ربي لا أقدر.. أنا لا أقدر، وتنفجر في نوبة بكاء ونشيج.
حين يطلّ النور، يعود الأمل، فتسكن قليلًا، أصحو فتقبِّلُني ماسحةً دمعتين تأخرتا في النزول.
أُعِدُّ لك الفطور يا حبيبتي؟!
فأشكرها، وأساعدها لتستقيم، وتخطو معي إلى أمام التلفاز، مقرّبةً سلك الهاتف، كأنها لوحة مرسومة أو صورة فوتوغرافية، لو عثر عليها دافنشي، لأعطاها ألف لونٍ، ولو أدركها بيكاسو لصنع منها تعويذةَ الألم.. مستندةً على الحائط كأنما صُنعت من حجارته، تردّ عليَّ بجفاء لم أعتده، ولم تعتده، لأنها عن نفسها غائبة، رنَّة الهاتف تحييها، وما إن تسلِّم حتى تعاود الذبول، تنغلق السماعة فتشير إلي: هذه عمتك.. هذه خالتك..! كأنها تشاركني فشلٍ جديد وأمل لم يتحقق!
اللهم رنّة هاتف تسعدها، أو طرقة باب تعيد أمي إلينا!!

*كاتبة من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود