مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

وفاء عمر حصرمة*   أمه طويلة القامة معتدلة البنية. يبصرها تعتلي {التلة} منتص …

الأرض

منذ سنة واحدة

184

0

وفاء عمر حصرمة*

 

أمه طويلة القامة معتدلة البنية. يبصرها تعتلي {التلة} منتصبة كالرمح الرديني، يأخذها عصف من اللهاث يحس أن ناراً تستمر وتهدر في عروقها، فقد أسكنت يدها بين الحزام المصنوع من خيوط الصوف الملونة وثويها الفراتي، استشعر أنها غاضبة، وفي داخلها تعتمل عاصفة هوجاء، أنها غاضبة منه، ترجوه ناصحة أن يبقى بجانبها، يدرك ذلك من وضعية يدها ووقفتها الرجولية .. أمه ويعرفها، كانت تبطح الخروف أمامه وتذبحه بدم بارد، تسلخه وتقطعه وتطبخه وتتبسم ثم تلهس، وبعدها تكركم وتدمدم: -السلخ لا يؤلم المذبوح ـ أنت الستر والغطاء لا يرعبك الدم.

طأطأ برأسه أرضا، وليس بوسعه في تلك اللحظة أن يرتب أفكاره، ولا حتى بمقدوره تهريب (أف) قال في نفسه: من اللائق أسير صوبها واحتضنها، أرفع بصري جهة وجهها الكستنائي المدور والمقمر، وبالكاد تقدم، رمقته بعينيها الواسعتين ونظرت إليه طويلا ورشفته: من هذا الذي أوهمك أن الماء صافية، وأن الزوبعة غادرت المدينة والقرى التي أكلها النهر أيها الولد الصغير، وكيف تلح على رؤية (فاتن) هي تنتظرك، فلا تغامر، الأرض كالحناء، شمر عن ساعديك وأعمل بها، أحلامك مؤجلة الآن، وقالت في نفسها: أنحيه عن هذا الخاطر الأليم .

شدته من ياقة ثوبه؛ وفرت حبات دمع من عينيها، ثم فغرت باكية، وبصوت متهدج خاطبته وجهاً لوجه: عدنان، تذكر مأساتنا مع النهر الذي تركنا نسافر وهو لم يسافر طفشنا، وها نحن نزرع ونحصد ….. الأرض البديلة، خصبة وعين الله عليها. لا تهاجر وأجهشت بالبكاء .. احتضنها. دفن رأسه داخل صدر ثوبها الريفي المزركش بألوان زاهية، وتسلق إلى قمة رأسها، غرس قبلة وكرف رائحة الحناء وخبز الصاج رائحة دخان حطب القطن المحترق، وخنس كطفل رضيع، ودمدم: الشجرة التي اقتلعت من أرضها وغرست هنا؛ حنت إلى مرابع الطفولة … أمي سأرحل، وسأعود، حمليني رضاك بالموافقة، وحولي ساحة الحوش إلى عرس، سأذهب وأتفقد مرابعنا قبل التهجير، أكرع من الماء كما كنا نفعل، وهناك سأسمع صوت أبي وهو ينادي على الخراف، ويصرخ علي أن أقعد هناك فوق (التلة) وأشاهدك كيف تحلبين النعاج، أنا مشتاق، مشتاق. وبحرقة أفلتته ـ رافقتك السلامة، وبقيت متسمرة، ولا تزال يدها مندسة ما بين الحزام والثوب ـ لا تتأخر الدنيا عجاج … عجاج ملون ولا ندري متى يهبط ويطمرنا؛ يلغ فتنة أننا على الوعد. ينهب سيارة كبيرة (الكميون) المسافات، وصوت أغنية شعبية يرافقها صوت الزمارة، تؤنس المكان وتخفف من هدير محرك (الكميون). تتحول الشمس إلى برتقالية اللون، وفي طريقه أشارت له كتلة بشرية اقتعدت تلالا من الفرش والبسط، حملهم وحملهم وتابع، استلف نظرة، فرأى النهر وحيداٌ، هادئاً وهو في مكانه ذاته، وأوراق الأشجار تتساقط بغير موعدها .. تئن البهائم، وكفت الزرازير عن الغناء بين أشحار الطرفة والغرب، شيء تكسر في داخله وتهاوى، وموجات رعب تتلاطم بكل قوة … بحثا عن الكلاب التي كانت تنبح طوال الليل؛ التي لاحقتهم ساعة رحيلهم فلم يجدها… رجال أشاروا إليه أن يغادر المكان على عجل، تركهم، وفي لهاته يجول سؤال… هل ضللت طريقي؟

يخرج رأسه من نافذة الكميون يتساءل: أين نحن؟ قولوا لي، كم نحن على مسافة من الحدود، فلم ينبس أحدهم ببنت شفه، سوى الأنين ولطم وندب النسوة، ثم مدت امرأة تشبه أمه رأسها، وقد اعتراها النحول وتلبسها الذعر. تعاتب تلكئي وهي ترمقني بعينيها الصغيرتين المتوقدتين: عيني أخرجنا من هنا، نحن نريد أن ننحر صوب الجزيرة، وراح دمعها يهمي، وتوسلت بحنان مرتجف … نريد أن نحافظ على شرفنا لا غير ذلك يا بني، يلعن البيوت ويلعن (الكش)، عد بنا يا كبيري، وأشارت نحو الشمس الجائحة نحو الغروب، ثم انسحبت وهي تبسمل.

في المكان وكل مكان، وجد الموت المجاني، وقوافل الناجين من الموت ترفرف عسى أن تجد أعشاشا لها وتبيت ليلتها المؤقتة… حينها أدرك أنه محاصر، والذين زجروهم؛ هم من أبناء لحمته، لقد ملأ منهم نظره .. البعض له رائحة الزرقة الرمية والصمل الجيفي.. السحن صفراء وسوداء وشقراء، وشعر عندئذ خسارة كل القرى، وقرر أن يستدير شرقا. التهمت السيارة الطريق، والشمس راحت تجنح إلى الغروب.. ألم ينهض في قلبه، وموجات رعب تتلاطم بكل قوة.. وهمس العجوز يجري معربداً في روحه، وانطلق يخمد موجات رغباته التي دفعته لرؤية مرابعهم التي هجروها… تركها متعبة ملتحفة بحزنها الأسود.. عرفتني، ولكن النهر كان يتابع طريقه جهة الشرق وكأنه يقول له: هذا مكاني أيها الرجل . أنت الراحل وليس أنا.

في قريتهم حط بهم الرحيل الأخير، وعلى (التلة) كانت أمه واقفة ولا تزال يدها تسكن أسفل حزامها الصوفي، وقد افترت شفتيه عن بسمة عندما وجهت أصبعها صوب مدخل القرية ليرى ثيابا مزهرة بألوان الأرض المشبعة من زخات المطر، وجيوش من أمة الناس تعتلي الدبابات والمدافع تزحف في كل الجهات، أمسكت يده، أومأت إليه بعينيها جهتهم، ثم وضعت شفتيها الناعمتين على خده وقبلته… دفعته صوبهم وهي توزع زغاريدها بفرح، ولا تزال تضع يدها تحت الحزام المصنوع من الصوف الملون.. تتابع زحف الأرتال، وانفلتت من عينيها دموع ما بين الفرح والألم…

*كاتبة من سوريا

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود