49
043
0112
0109
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11911
06177
06085
05928
05038
5ترجمة_ د. آلاء الغامدي
جبران خليل جبران، اسماُ يتلألأ وينبض بالإبداع والتأمل في شتى الثقافات المختلفة وفي أعماق الادب العالمي. إنه الشاعر والفيلسوف اللبناني الذي أنشأ جسوراً خالدة بين الشرق والغرب وأعاد تعريف الشرق للغرب بلغة رقيقة وعميقة، تنسجم بين الثقافتين وتجسد الجمال العالمي. وُلد جبران في لبنان، ولكن قلبه كان ينبض بالشوق لاكتشاف عالم جديد. وكانت أمريكا تُعبر عن الطموحات الجديدة والحرية المتجددة التي شدته نحوها. وهكذا، قرر جبران أن يضع قدمه الأولى في هذا البلد الجديد بحثًا عن تحقيق طموحاته وتجسيد أحلامه الأدبية.
كانت رحلة جبران في أمريكا مليئة بالتحديات والصعاب. فالاندماج في مجتمعٍ جديد يتطلب فهمًا عميقاً للثقافة والقيم والعادات المحلية. ولكن استخدم جبران هذه التحديات كفرص لتطوير ذاته وموهبته. تأثرت كتابات جبران بشكل كبير بتجاربه وتفاعلاته مع المجتمع الأمريكي. فقد سعى جاهداً لإيجاد توازن بين هويته الشرقية العربية والتأثيرات الغربية التي تلقاها في أمريكا. ومن خلال كتاباته، حاول جبران أن يلقي الضوء على أجزاء معينة من هويته لكي يثبت كفاءته في أن يكون مواطنًا أمريكياً. ومن بين هذه الأجزاء كانت ديانته المسيحية وقرب انتمائه لأرض الرسالات والنبوات. ومن خلال هذه القصص ودواوين الشعر، استطاع جبران أن يصنع جسراً بين الثقافتين ويعزز التفاهم المتبادل والاحترام، مما جعل جبران رمزاً للتعايش الثقافي والتناغم العالمي.
جبران وكتابات جبران باللغة الإنجليزية هي حالة ثقافية خاصة يمكن قراءتها وفهمها من منظور ما يُعرف بمفهوم “الترجمة الثقافية” وهو مصطلح شائع في ارجاء نقد ادب الأقليات وادب الهجرة يشير الى عملية الترجمة التي تتجاوز مجرد نقل الكلمات والجمل من لغة الى أخرى، وتركز بدلاً عن ذلك على نقل المعاني والثقافات والسياقات الاجتماعية والتاريخية وإعادة صياغة وتعريف الذات للآخر والعكس. يجدر الذكر هنا ان مصطلحي الترجمة والمترجم في هذا السياق لا يقصد بهما الترجمة بين لغتين مختلفتين، ولكن يقصد بهما مهمة الكاتب المتصل بثقافتين مختلفتين، كالهوية العربية- الامريكية لجبران خليل جبران، في إعادة تعريف العالمين لبعضيهما البعض، إما عن طريق تحدي الصور النمطية عن ثقافة الكاتب وإعادة تعريفها للآخر او عن طريق تكريس تلك الصور او عن طريق الاتجاهات العدة التي تتوسط هذان الاتجاهان.
ووفقاً لأستاذ الادب المقارن في جامعة إلينوي في الولايات المتحدة الامريكية بروفسور وائل حسن، تُعرف الترجمة الثقافية بأنها عملية تتطلب فهماً عميقاً للثقافتين المشاركتين في عملية الترجمة. يرى بروفسور وائل حسن ان الكتّاب العرب المهاجرين الذين اختاروا الكتابة باللغة الإنجليزية يجدون أنفسهم في موضع ترجمة وتوضيح وتفصيل دائم لثقافتهم الاصلية لقرائهم، وهم بذلك يتقلدون مكانة “المستشرق” و “المستغرب” بحكم اتصالهم بالشرق حيث تنتمي جذورهم الثقافية والعرقية، وانتمائهم للغرب بحكم ظروف الهجرة والاستيطان في العالم الغربي. ويفصل لنا بروفسور وائل حسن بعضاً من اتجاهات الترجمة الثقافية لدى بعض الكتّاب العرب المهاجرين والتي تتراوح بين متحدثاً باسم الثقافة الاصلية إلى مستشرق وبين وسيط يحاول زعزعة بعض جوانب النظام الفكري الإستشراقي، وبين مترجم ثقافي متردد يعاني من عبئ التصوير الجمعي لثقافته وبين مترجم آخر لا يأبه في ترجمة ثقافته لمجتمعه المضيف.
وبالنظر لكتاب “النبي” لجبران خليل جبران، نجد ان جبران اتخذ اتجاهاً في الترجمة الثقافية يمزج بين مسارات عدة تتراوح بين إعادة تعريف الشرق بالغرب من خلال تركيزه على جوانب مختلفة من ثقافته العربية والدينية التي تتماشى مع بعضاً من جوانب ثقافة المواطن الأمريكي وتؤكد استحقاق المهاجر العربي بأن يكون جزءً لا يتجزأ من مكونات الشعب الأمريكي. فيقدم جبران للقارئ الغربي في كتابه “النبي” صورة للمواطن الشرقي في ثوب النبوة محملاً بالمواعظ والحكم والصور الجمالية والابداعية التي تنبثق من الشرق وتؤكد تميز هذا الجزء من العالم على سحرِ فريد لا يغير فقط من صورة الشرق للغرب، ولكن يضفي أيضاً شعوراً بالعلو والفخر لهذا الجزء من العالم.
يفتتح جبران كتابه بشخصية نبياً على سفح تل يتأمل أمواج البحر وهو ينظر إلى السفينة التي ستبحر به الى وطنه تقترب من شواطئ مدينة اورفاليس حيث أمضي الاثنا عشرة سنة الماضية ينشر دعوته. وفي تلك الاثناء، يلتف حوله جمعٌٍُِِ من أبناء المدينة ليودعوه ويستقوا من حكمته في اخر لحظات تواجده في المدينة. بدأ سكان المدينة في سؤال النبي عن شتى أمور الحياة، في الحب والزواج والأطفال. سألوه عن العطاء، عن الاكل والشرب، عن العمل وعن الفرح والحزن وعن اموراً أخرى كثيرة. وفي سؤال أحدهم عن الحب، رد النبي:
“When love beckons to you, follow him,
Though his ways are hard and steep.
And when his wings enfold you yield to him,
Though the sword hidden among his pinions may wound you.
And when he speaks to you believe in him,
Though his voice may shatter your dreams as the north wind lays waste the garden.
For even as love crowns you so shall he crucify you. Even as he is for your growth so is he for your pruning“…
“إذا أومأ الحب إليكم فاتبعوه وإن كان وعر المسالك زلق المنحدر.
و إذا بسط عليكم جناحيه فأسلموا له القيادة وان جرحكم سيفه المستور بين قوادمه. وإذا حدثكم فصدقوه وإن كان لصوته ان يعصف بأحلامكم كما تعصف ريح الشمال بالبستان. إن الحب كما يشدُّ من عودكم، كذلك يشذب منكم الأغصان. وكما يرتقي إلى قنن هاماتكم ويداعب أغصانكم الغضة تميسُ في ضوء الشمس، كذلك يهبط إلى جذوركم العالقة بالأرض فيهزُّها هزاً. الحب لا يُعطي إلا ذاته، ولا يأخذ إلا من ذاته. والحب لا يَملك، ولا يَملكه أحد، فالحب حسبه أنه الحب.
ليُحبَّ أحدكما الآخر، ولكن لا تجعلا من الحب قيدًا، بل اجعلاه بحرًا متدفقاً بين شواطئ أرواحكما.
وكل عمل خواء، إلا إذا امتزج بالحب.
فإذا امتزج عملك بالحب فقد وصلتَ نفسَك بنفسك، وبالناس وبالله.
وما يكون العمل الممزوج بالحب؟
هو أن تنسج الثوب بخيوط مسلولة من قلبك، كما لو كان هذا الثوب سيرتديه من تحب.
هو أن تبني دارًا والمحبة رائدك، كما لو كانت هذه الدار ستضم من تحب.
هو أن تنثر البذور في حنان، وتجمع حصادك مبتهجًا، كما لو كانت الثمار سيأكلها من تحب.
هو أن تنفح كل ما تصنعه يداك بنسمة من روحك، وأن تدرك أن كل الراحلين المباركين ملتفون حولك يراقبون.”
وينتقل صوت النبي في سرد حكمه الممزوجة بالصور الفريدة والاستعارات المتميزة من جانب الى اخر من جوانب الحياة، فيسأله أحدهم عن الزواج فيقول:
“You were born together, and together you shall be for evermore.
But let there be spaces in your togetherness.
Love one another but make not a bond of love. Let it rather be a moving sea between the shores of your souls. Fill each other’s cup but drink not from one cup. Give one another of your bread but eat not of the same loaf. Sing and dance together and be joyous, but let each one of you be alone, even as the strings of a lute are alone though they quiver with the same music”.
لقد ولدتما معاً ومعاً تظلان إلى الابد. ومعاً تكونان حينما تذهب بأيامكما اجنحة الموت الشهباء. اجل كذلك تظلانِ معاً في سر الله المكنون. ولكن فليتخلل التئامكما فُسحات حتى تُتيحا لرياح السماوات ان ترقص بينكما. ليحب احدكما الاخر، ولكن لا تجعلا من الحب قيداً. بل اجعلاه بحراً متدفقاً بين شواطئ ارواحكم. وليملأ احدكم كأس رفقيه وحذاري ان تشربا من كأساً واحدة. وليعطي احدكم الاخر من خبزه، وحذاري ان تجتمعا على رغيف واحد. غنيا وارقصا وامرحا معاً، ولكن ليخلو كلاٌ إلى شأنه، فإن أوتار القيثارة مشدودة على افتراق وإن خفقت جميعاً بلحن واحد.”
وعند سؤال أحدهم له عن الأطفال، يُضفي جبران على لسان شخصية النبي رؤية مميزة عن العلاقة بين الاباء والابناء فيقول:
“Your children are not your children.
They are the sons and daughters of Life’s longing for itself.
They come through you but not from you,
And though they are with you yet they belong not to you.
You may give them your love bit not you thoughts,
For they gave their own thoughts.
You may house their bodies but not their souls, for their souls’ dwell in the house of tomorrow, which you cannot visit, not even in your dreams…”
“إن اطفالكم ماهم بأطفالكم، فلقد ولدهم شوق الحياة إلى ذاتها. بكم يخرجون إلى الحياة، ولكن ليس منكم وإن عاشوا في كنفكم فما هم ملككم. قد تمنحونهم حبكم، ولكن دون افكاركم. فلهم أفكارهم. وقد تؤوون أجسادهم لا ارواحهم. فأرواحهم تسكن في دار الغد وهيهات ان تلموا به ولو في خطرات احلامكم. وفي وسعكم السعي لتكونوا مثلهم، ولكن لا تحاولوا ان تجعلوهم مثلكم. فالحياة لا تعود القهقرية ولا هي تتمهل عند الامس. أنتم الاقواس منها ينطلق ابنائكم سهاماً حية. والرامي يرى الهدف قائماً على طريق اللانهاية ويشدكم بقدرته حتى تنطلق سهامه سريعة إلى ابعد مدى. وليكن انحنائكم في يد الرامي عن رضاً وطيب نفس. لأنه كما يحب السهم الطائر كذلك يحب القوس الثابت.”
فمن خلال هذه النماذج، يتجلى للقارئ الرؤية الفلسفية والفكرية لجبران والتي أصاغها في ثوب النبوة والرسالات، كرمز ينتشر في تصورات المستشرقين عن العالم الشرقي، فهو بذلك يعيد صياغة هذا الرمز بشخصية مليئة بالحكمة والموعظة تضيف انهاراً من المعرفة والرؤى الفلسفية إلى الادب الأمريكي بشكل خاص، والادب العالمي بشكل عام. وعند قراءة كتابات جبران في كتاب “النبي” بمفهوم الترجمة الثقافية، يتجلى لنا توظيفه لبعضاً من عناصر ثقافته العربية والدينية مثل الروحانية، والايمان، والحكمة، والبحث عن الذات. كتاب “النبي” هو نتاج التفكير الجبراني وتجسيد للرؤية الفلسفية للحياة للكاتب بين ثقافتين متناقضتين في ذاتيها، ولكن متداخلتين في هويته. قضى جبران ما يقرب من أربع سنوات في صياغة الكتاب بعناية فائقة وبراعة استثنائية. ليس بغريب أنه وصف كتابه بأنه فكر فيه لألف سنة! في عام ١٩٣١م، قبل وفاته بأشهر قليلة، أكد أنه لم تخطر بباله أي فكرة لم يتم تضمينها في النبي، وأن هذا الكتاب احتل كل تفكيره وأنه رمز لحياته بأكملها.
__________
المراجع:
Waïl Hassan, Immigrant Narratives, Oxford University Press, 2011.
Gibran Khalil Gibran, “The Prophet”, Wisehouse Classics, 1923.
جبران خليل جبران، “النبي”، ترجمة يوسف الخال، عام ٢٠٠٠، دار النهار.
التعليقات