الأكثر مشاهدة

أحمد الوارث* مرت السنون، كأيام الفرح، سريعة جدا، وبدأت نوبات المرض تنتابني من حي …

سبات عميق

منذ سنتين

498

0

أحمد الوارث*

مرت السنون، كأيام الفرح، سريعة جدا، وبدأت نوبات المرض تنتابني من حين لآخر، حتى عيل صبري، فزرت الطبيب.

أبدى الرجل انزعاجا واضحا حين علم أن الصفر(0) هو فصيلة دمي. وسأل نفسه جهرا: كيف للضغط أن يرتفع إلى هذه الدرجة؟ ثم أجاب عن سؤاله: إن مثل هذه الحالة لا تحدث سوى في ظروف قاهرة جدا..

أسعفني بكل ما أوتي من تجربة، لكن لا هو ولا الأطباء الذين زرتهم بعده، استطاعوا تشخيص العلة، فاضطررت، لمّا أرهقني المرض، إلى زيارة طبيب نفساني، وهو الذي رجح، ويا للعجب، أن تكون للأعراض صلة بقصور شديد في وظيفة الغدة الدرقية.  

رمى بي اختصاصي في الغدد في متاهات التحاليل ودهاليز الفحوصات بالأشعة. ولمّا تأكد المصاب، عدت أجرّ إليه نفسي على مضض. خصّني الرجل بجلسة مطولة، شرح لي خلالها بإسهاب علاقة العلة بنوعية الطعام الذي أتناوله. وألح عليّ بضرورة اتّباع حمية ملائمة، مع الدواء، ثم أنهى كلامه قائلا: جعل الله اللطف في ما قضت به المقادير، مما زاد من مخاوفي.

وأنا في الطريق، كنت أسائل نفسي: كيف يمكن هذا؟ واعاتبها، أقول لها وأكرر: ما بالي أهملت حالي كل هذا الإهمال !؟

أخذتني شبه السِّنَة في خضم التفكير، فما شعرت إلا وأنا أعاين الصيدلية، حيث يشتغل صديقي.
ألَانَ لي الصيدلاني القول، كأنه حنا عليَّ، لكنه نصحني أن لا أقبل على الأطعمة بدرجة متساوية من الاشتهاء. قال: عليك يا أستاذ، أن تبتعد بشكل قطعي عن الأطعمة الحلوة والمسكرات، والمأكولات الملفوفة والمعلبات، وكذا المحفوظة في المبردات، وأن تتفادى بشكل كلي الخبز إذا كان مصدره دقيق القمح

قاطَعَته مساعدتُه مبتسمة، وهي تنظر إلي: لا بأس، لا بأس أن تأخذ كسرة أو كسرتين، وتتناول من تلك الأطعمة أيضا قدر ما تسدُّ به الضرورة. في المقابل لك ما تريد من خبز الشعير والخرطال، ولك الحق في أن تكثر من اللحوم؛ حمراء وبيضاء، ولك الحرية المطلقة في التعامل مع بنات البحر سواء أكانت من الأسماك أم الحيتان أم الطحالب والصدفيات، متى أردت وأنّى شئت.
أضاف الرجل إلى ما سبق: أما في الفطور فخذ ما طاب لك من الزبدة والسمن والبيض والزيت، بشرط أن لا تكون رومية، وتجنب الحليب المعلب ما أمكن، فالشاي والقهوة لك أفضل.  

أصغيت باهتمام إلى كلامهما، وسلمت الواجب، أريد المغادرة، إذ بالمرأة تتكلم، مرة ثانية، وقد اختفت الابتسامة من محياها وركزت نظرها في عمق عيني: ارحم نفسك يا سيدي، ثمة غذاء آخر يجب أن تتعامل معه بحذر. أنا مثلك، ألبس قناع عنترة، وفي قلبي بركان يغلي من العواطف الرقيقة. أعاند الإكراه ولا يكسرني الجبروت، مهما بلغ من تجبر، وفي كبدي استعداد رهيب للرضوخ، أريد، فقط، أن أسمع كلمة طيبة أو اعتذارا ولو بلمح البصر، فيهدأ روعي بسرعة أكثر، وأصير أَمَة مطواعة. إنني، يا سيدي، أغضب بسرعة حد الصراخ احتجاجا على العبث والفوضى، أمقت الخداع، أصرخ في وجه التحايل، لكني لا أقوى على النكد الطويل، ولا أحمل الضغينة لأحد

كنت أنظر إليها باندهاش شديد، ولسان حالي يردد: إني كذلك، كذلك أنا، ورب الكعبة ...
فقالت على سبيل الختم، وكأنها سمعت نبرات لساني: نعم، إن فصيلة دمك كريمة جدا، يا سيدي، فكن كريما مع خلجات نبضك ... وارحمه ولا تعانده، ذاك أفضل له ولك كثيرا… حتى من انتقاء الطعام.

انقلبتُ راجعا وحدي، أفكر في الأذى الذي سببته لدمي وأنا لا أدري. صحيح !! لم يكن باليد حيلة، في البدء، فكنت أُقْبل على كل شيء حتى أشعر بالشبع. شيء واحد لم أكن أستطيع أن أتقنه؛ هو الصبر على الجوع. أما بعد أن تحول العسر إلى يسر، فيبدو أني لم أكن أبالي بنفسي، من شدة انشغالي بمن حولي كبارا وصغارا، بينما هم منشغلون بأنفسهم، حتى أشرفت على حافة المنحدر.

المهم، أقبلت على العلاج، واتبعت حمية صارمة، بل صرت خبيرا بما يليق بي وما لا يليق، أحاول استرجاع الماضي البعيد.

في اليوم المحدد، بعد شهور من الانتظار، كنت على موعد مع تحاليل جديدة. حين حملت النتائج إلى عيادة الطبيب، جس نبضي، وتأمل في الأرقام طويلا، ثم قال: يبدو أن جسمك اعتاد النظام المعيشي الذي فرضته عليه سنين طوالا، يا أستاذ

أطرقت برأسي، وأنا استمع إلى الموال الحزين، حتى أدركني شبه السِّنة، مرة أخرى، فما شعرت إلا وأنا أقول: وهل أصلح العطار يوما ما أفسده الدهر؟ يا سيدي

*كاتب من المغرب

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود