85
0355
0202
0127
0150
0182
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11769
04707
04351
174206
03828
0محمد الشريف*
جاءت الرواية في (١٤٤) صفحة من القطع المتوسط، أشاد فيها الراوي بنيانه السردي على عدة فصول، مانحًا إياها مداخل فرعية، تتناسب مع مقامها الوصفي، وتتسق معه في التوصيف السردي.
العنوان هو (دموع الرمل)، وهو عتبة النص أو المدخل الذي قد يمنح الانطباع الأول وإن كان مجازيًا إلى حدّ كبير، فللوهلة الأولى سوف تحيلنا هذه الإضافة إلى أنّ الرمل هو الذي يذرف الدمع، لكن الراوي لم يلبث كثيرًا حتى يكشف لنا سريعًا في ذكرى وفاة جدته أن الدموع دموعها ولكنها تشكّلت من رمل، فإذا كان الرمل وقعًا لا يذرف الدمع والإنسان حقيقة لا يذرف الرمل، فسوف يتبدَّى لنا بجلاء ذلك القدر الكبير من ممكنات التفلسف في المعنى المجازي الذي اختاره الراوي عتبة لسرديته.
فوحده الحفيد الذي كان يرى دموع الرمل التي تُنسج أخاديدها على جبين جدته المتجعّد، ووحده الذي كان يفهم المدى البعيد في الذكرى الغبارية لجدته، ذاكرة نوير المتخيلة والتخييلية في آن واحد، هكذا سوف تنتقل حكايات الجدَّة بين التندُّر والسماع، بين مصدِّق وساخر ومستمع، على كل حال إنها الصحراء، حيث يفقد الوقت قيمته.
الصحراء هي الثيمة الأساسية في التصميم السردي في رواية دموع الرمل، وهي مرادف للجدَّة محور التصميم الحكائي في العمل، ولعل الكاتب وُفِّق كثيرًا حين جعل عمله السردي الأول يتحرّك في مكان يعرفه وينتمي إليه؛ حيث حياة البداوة والأفق الصحراوي حملا على الدلالة الأكثر اتساقًا وتماهيًا مع شخصية نوير، نوير تلك المرأة المتمرّدة التي تقتصر الكون، وتختصره في الصحراء بكل بساطة؛ لأنها لا تعرف سواه، ولا تريد أن تعرف.
الصحراء مدى لا متناهٍ، ينتهي عند مدى رؤيتها، ما عدا ذلك هو تجسيد لتجسد الجنان على الأرض، هكذا تعتقد وهي تسمع مرويات البدو عن العوالم الأخرى.
يقدّم الراوي بطلته بشيء من الغموض وشيء من طباع الصحراء التي أضفت مسحتها القاسية على ذوات ساكنيها، فهو في الوقت الذي يلامس شعورها في متخيله السردي؛ لا يحكي كثيرًا عن أسباب تبلور مكونات هذه الشخصية ولا يهتم لبنائها من الصفر.
هي شخصية صحراوية بامتياز، منغلقة على ذاتها، لا تحيط نفسها بكثير من علائق المجتمع الإنساني حولها الذي تمثّله هنا العشيرة، عدا تلك العلائق المنطقية التي سوف يبنيها الراوي خلال تشاكلها مع الشخوص التي سوف يستنطقها لاحقًا مع تسلسل الأحداث بتقنية الفلاش باك من عمر التسعين المتزامن مع الحكاية الأخيرة، وبعد أربعين عامًا سيعود الراوي إلى الذاكرة الغبارية؛ ليجسِّد من خلالها عامل الحركة والزمن والأحداث، ويعقّد من خلالها مصافحة أولى أشبه ما تكون بتعريف القارئ على شخصياته الأساسية، وعقدة النص في الرواية هنا سوف تتجلى في نوير بنت الرجال وأخت الرجال لتبدأ تراجيديا الألم، من خلال عنوان فرعي ينشأ ابتداء مع الألم (في البدء كان الألم)؛ ألم المخاض الأول، والفقد ثانيًا وثالثًا ورابعًا الإخوة الأب والابن لاحقًا، وهنا تلاشت العزوة والظهر حسب قوانين الصحراء الصارمة في واقع نوير، ما قد يعصف بكوامن التمرد الذاتية لها كأنثى.
ففي الصحراء عليك أن تكون منتميًا للعائلة الأكبر العشيرة، والعائلة الأصغر الأسرة والرجال عندما يتعلق الأمر بامرأة، العزوة والسند والذراع والحمى فسيفساء الانتماء التي تفرضها طبيعة الصحراء المتحركة التي تطارد البقاء بأدوات مثّلت ضروريات ذلك البقاء، وهما الماء والمرعى، ولكي تبقى في الصحراء، عليك أن تتبلور بحسب الحاجات التي قد لا تتجاوز الضرورة أحيانًا كثيرة.
يستعرض الراوي بسرد فلسفي معنى الألم، ثم يضفي عليه لمسة من الأمل حين يضيف على شخوصه شيم البداوة: المروءة، والنخوة، والشجاعة، إلى غير ذلك من أخلاق البدو، ثم ما يلبث أن يعود للموت مُقدِّمًا وجهًا آخر للألم، فماء النهر جزء من الجنان، فكيف للمرء أن يموت في الجنة؟!
هكذا يقضي البدوي نحبه حين صافح جسده شفافية الماء التي لم يعهدها في سيول البادية، مات متأبّطًا شيمه، حيث تأكَّد أن لا أحد يراه، وبالتالي لا أحد قد ينقذه.
الذئاب تقتل بعضها بعضًا، هكذا ينعى ضاري الأب ابنه الذي صرع الذئب وصرعه الذئب! هكذا يجول الموت بوجهه العبوس وتلك عبثية الحياة.
تستمر الحياة من خلال شخوص، يتم بناؤها على حسب تعالقها المنطقي مع شخصية نوير، كانت نوير في مرحلة ما تحتاج إلى امرأة كي تدرك معنى أنوثتها؛ كي تتعرف على جسدها وتفهم تغيراتها الأنثوية البيولوجية، لعبت الجدة هذا الدور، لكنه لم يتجاوز الحاجة المؤقتة.
قدّمها الراوي على أنها امرأة لا تؤمن بأنه يمكن لرجل أن يسد مكان الأب أو الأخ، فقد فقدت عزوتها، ولم تعد بها حاجة للرجال، حسبها العم وأبناؤه إن كان ولا بد!
لم يحرص الراوي -فيما أزعم- على تقديم نموذج سردي شامل لحياة المجتمع الصحراوي، يلتقط من خلاله تفاصيل ويوميات حياة المضارب، من خلال المتداول اليومي الذي يمكن من خلاله خلق حدث ينشأ من الأقوال والأفعال وما يترتب عليها من حدث، فخلاف ما أشار إليه من رعي الإبل والأغنام وجلب الماء، يمكن لعدسة الراوي التقاط زوايا أخرى تتمثّل بملامح الحياة البدوية خارج نطاق ما تفرضه قساوة الصحراء وديمومة الألم: السمر الليلي، السجال الشعري، سباقات الفروسية والهجن، الغزل العذري، واقتناص اللقاء عند الغدير، أو أن يعقد عرسًا في الصحراء، والكثير مما تختزنه الذاكرة البدوية وموروث الصحراء.
كان ذلك أجدر بأن يُدخِل القارئ في حال لذة القراءة والتخيل (الفوتوغرافيا) للمشاهد التي يصورها الراوي، ويمرر من خلالها رسائله الضمنية، لكنه أراد للدراما التي يؤسس لها في تصميم فكرة الرواية أن تستمر بنسق واحد ظل يقبض عليه إلى آخر النص، وهو من هنا يخرج من ألم البدء بسلاسة جميلة تاركًا تلك الخطبة التي تترنح من الهزل في بيت أبي طامي إلى مكاشفة من أبي سالم لنوير على أن الأمر لا يعدو كونه إنفاذ للوصية، وللوصية ما لها من حمولة دينية.
تصاب نوير بصعقة تدخلها في حيرة وتساؤل مفتوح عن وصية أبيها الأخيرة، ومن هذا الخضم يخرج بنا الراوي إلى مضمون فلسفي جديد يتعلق بالحياة، حيث هي قرار لا رجعة فيه.
يتناول الراوي بعمق فلسفي قرار الحياة متسائلًا: هل هي فرض أم اختيار؟ يصنع لذلك الكثير من الألم والإكراهات التي تصبها الحياة كالحمم على رأس ضاري، وكأنه يختبر قدرة النفس البشرية على الاحتمال، ويضع نورًا في آخر النفق يلوح من بعيد كلما تراكمت الرزايا.
وحدهم البشر الذين يتحلّون بجلد البقاء، هم يعبّرون ويشعرون بلذة الوصول، لكنها النفس البشرية الهشة التي تختزن في أعماقها شروخ الزمن، وتبدأ رحلة البحث عن أدوات للعودة من جديد بعد أن تحقَّق لها البقاء ولم تكن ضربات الحياة قاصمة.
هكذا هي الصحراء النهايات التي تحمل بدايات جديدة، والآمال التي تحمل آلامًا جديدة.
لم يمت ضاري لكنه انتهى وفقًا لمعايير الرجل البدوي، ورغم أن الراوي قدَّم الحنشل مع مسحة نبل لا نجدها مبررة كثيرًا، حيث نجت نوير من أن تنهشها ذئاب الصحراء، وهي الأنثى الوحيدة صحبة رجل كسير في مجابة من الأرض والليل، وأعادوا إليه جملًا من إبله، إلا أنهم قضوا عليه معنويًا فحسب، رجل شجاع ومحارب أن يتصدَّق عليه لصوص!
ضاقت عليه نفسه، فضاقت به العشيرة العائدة مع تباشير الوسم، ثم ضاقت عليه الصحراء رغم اتساعها، لم يبق في نفسه مكان لانكسار جديد، رفض معونة أبي سالم، وأضناه البحث عن إبله، وقرر أن يصبح أشبه ما يكون بمرتزقة الحرب.
وهنا سوف تبدأ قضية أخرى وصراع بينه وبين ذاته بعد أن كان بينه وبين واقعه، بهذه البانوراما التي تمزج الألم والانكسار يدهشنا الراوي بصياغة فلسفية حول هشاشة النفس البشرية، ولحظات هزيمتها النفسية من ناحية ومفهوم التشبُّث بالبقاء والبداية الجديدة التي لا يعيقها سوى أن هذه النفس لا تستطيع الانفكاك من غرائزها البشرية، ورغم أنه لم يبق لدى ضاري سوى غريزته الأبوية التي تتجلى في نوير والخوف عليها، يطل مفهوم الصداقة الذي يوظّفه الراوي مدخلًا للوشيجة والقيمة الإنسانية النبيلة، حيث يركن إليها ضاري؛ ليريح ضميره بلقاء الرجم مع أبي سالم، حيث يضع وصيته الأخيرة نوير في عنق صديقه كزوجة، وهو ما لا يتماشى مع مفهومها الخاص بعلاقتها بالرجال، مكرّسًا مفهوم التناقضات البشرية والنسبية في القبول والرفض بين الناس.
ما كان محل خلاص لنفس ضاري هو عقدة ذاتية لدى نوير التي لا يعني لها الرجال شيئًا، هي تصر على ذلك، وتكسر القيد الأخلاقي والناظم الاجتماعي لساكنة الصحراء.
البنت ليست بالضرورة لابن عمها، ورأي العم ليس ملزمًا لها بأي شيء ما لم يقر العم بكونها عبئًا عليه؛ هكذا تعتقد نوير، لكن والدها كسر نسقها القائم بوصية لم يطلعها عليها.
تنفتح عوالم الراوي السردية هذه المرة على الحرب التي سيدخلها ضاري دون أن يكون طرفًا فيها، كانت له غاية وحيدة لا علاقة لها بأطراف الحرب، غاية يريد أن ينهيها فحسب وبأسرع ما يكون ليعود إلى ابنته، لكن ولمجرد انخراطه في الصفوف تهاجمه نوازعه ويحاكمه عقله وتسحقه الحيرة، يتمنى لو أمكنه الانسحاب، لكن البدوي يفضّل الموت على التولّي والهروب.
ويمضي الراوي هنا في مقاربة فلسفية لمجانية الموت بلا هدف، يقول على لسان ضاري قبيل المعركة: كيف سأقتل رجلًا لا أعرفه؟!
ميوله وسحنات وجوه العرب في الجيش المقابل تحرك انتماءه العربي لكنه لا ينسحب، لا يجب أن يقال ذلك عنه.
يلّوح الراوي بإفراط الفارس في التضحية بنفسه، ليبقى السؤال مفتوحًا حول قيمة الحياة وسؤال العقل:
هل يجب الموت بلا هدف أو يجب الموت دون أهدافنا أو أنه لا يجب أبدًا أن نسلك طريقًا يفضي إلى الموت؟
جسّد الراوي بسينمائية عالية مصرع ضاري وببعد عميق لمعنى النهاية، الموت الذي كان ضاري يقبض عليه وتوقَّف عن إرساله إلى المبارزة، كان هو ذات الموت الذي اخترق ظهره ونفذ من صدره في الوقت نفسه.
من أين يأتي الموت إذًا؟ ومن الذي أرسله في لحظة متوحدة إلى ضاري وكفه عن خصمه في ذات اللحظة؟
مشهد يحتاج إلى الإيمان والإيمان فقط؛ كي ندرك مدى تضاؤلنا أمام أقدار الله ومشيئته،
مات ضارى وانتهت الحرب بانتصار المشروع الذي يريد استعادة الدولة الموحدة.
لا رجل الآن في حياة نوير، تكتشف نوير وصية أبيها، تراودها الكوابيس وكما كانت مختلفة في كل شيء سوف تكون صيغة زواجها وشروطها صادمة ومفاجئة؛ هكذا يصوّر الراوي شكل زواجها من أبي سالم المشروط بالانفصال بعد إنجاب الذكر الأول!
ما تزال عند حدود تعاريفها للحاجة للرجال لكن الإنجاب لا يأتي بمجرد عقد القران، هكذا يقارب الراوي العلاقة الأولى حين تأتي هذه العلاقة بطلب من نوير نفسها وعلى استحياء يعبّر عن اللقاء بأنها غطت في نوم عميق.
لا تغير البيولوجيا كثيرًا من طباع فتاة الصحراء، حيث لم تكسر قناعتها، وبالتالي لم تتخل عن شرطها بالانفصال بعد إنجاب الذكر الأول.
يوظّف الراوي ميلاد ضاري الحفيد أو الابن، وانفصال أمه عن أبيه واستفرادها بتربيته من وجهة نظري بأكثر من رسالة؛ تمسك البدو بعاداتهم وتقاليدهم، حيث يمثّل مجرد اندلاق القهوة من يد حدث أمام الرجال خللًا بنيويًا قد يؤدي إلى نشوء عقده نفسية قد تعصف بحياة بأكملها.
كما سلّط الضوء على مفهوم الاسترقاق من خلال علاقة ضاري الابن التي حملته عليها الضرورة بعبد أبي سالم؛ لإقصائه من شبان العشيرة، وإهانته المعنوية والمادية والتي حملته على البحث عن بديل يحقق له ذاتًا، من خلال التعليم، ويضع الراوي سؤالًا مفتوحًا عن أسباب عزوف البدو عن التعلم؟
يشب الفتى ويتلقى تعليمًا لا يرقى إلى طموحه، ينتقل إلى حائل، ويعود الراوي إلى ملامسة المكان خلال رحلة الفتى.
الجبال مستودع أسرار أهل الصحراء وحافظة آثارهم، وموضع نقوشهم ورسائلهم للمستقبل؛ أجا وسلمى نالا حظهما بما يكفي من تجسيد السكون في السردية؛ كونهما شاهدين حاضرين، يقبعان كعملاقين رابضين على الأرض منذ ملايين السنين.
يستصحب الراوي القارئ في طريق الفتى، من خلال تصوير سردي ماتع حتى دخوله إلى حائل، ليستمر الوصف وتتغير الموصوفات عند ملامسة الفتى القادم من الصحراء لبيوت الطين والحواضر للمرة الأولى، لكن الأحداث لا تأخذ حجمًا يساوي دهشة المصافحة الأولى، حيث مر الراوي سريعًا من الناحية الوصفية على الرحلة، وكان فلاشه الأهم هو وصية الشيخ حين وجّه الفتى إلى نجد، وحذره من إخوان من طاع الله والانخراط معهم، لكن الراوي كان يرمي إلى وضعه في طريقهم؛ ليكمل بنيته المنطقية الأولى بالثانية من وقعة البكيرية إلى وقعة السبلا.
ضاري الثاني هو نسخة مصغَّرة من ضاري الأول مع خلافات طفيفة، فالأول لم ينس ابنته بينما نسي الثاني أمه، وكلاهما أراد ترك الانخراط في معركة لم يخترها ولم تكن هدفًا له، وكلاهما أكمل طريقه إلى الموت؛ خوفًا من العار.
ومن هنا تبرز مجددًا جدلية الحياة والموت التي كانت من أبرز سمات دموع الرمل التي ستنسكب بغزارة من عيون نوير وهي تبكي ضاري الابن، هذه المرة سيعلن الراوي عن الانكشاف العام للرمل المتحدر في دموع نوير، سيراه الجميع ولم يعد الأمر حكرًا على الحفيد الراوي في إشارة إلى فجر جديد أو ضوء جديد سيتكشف بالتزامن مع الانعتاق الذي سيناله عبد أبي سالم من ناحية ومع ميلاد وضحى من ناحية أخرى.
رواية دموع الرمل رواية تراجيدية تجسِّد الألم والحزن والتيه، وتتحرك في فضاء تطبعه قساوة الصحراء وقساوة العيش، والصراع من أجل البقاء رغم كل ما تكتنزه شخصية البدوي من شيم وخصال.
كما تعرض للكثير من المقاربات التاريخية والجدلية الفكرية، وتناقش قضايا مهمة واكبت الانتقال من البداوة إلى التمدُّن، وبزعمي أن المقاربة الشعورية للشخوص والأحداث رغم جمالياتها وتوصيفاتها العميقة ذات البعد الفلسفي، إلا أنها فاقت الحوار في النص، وأخذت من مساحته، كما تركت خاتمة مفتوحة توحي أنه ثمة ما يقال بين ثنائية الحرية والميلاد.
المدينة المنورة 16/12/2023م
*كاتب وناقد
التعليقات