44
069
074
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11890
05622
05593
05250
04860
0د. شروق إسماعيل الشريف
يعنى علماء الاجتماع بالنظرية الاجتماعية بوصفها وسيلة تعين على تفسير كل الظواهر الاجتماعية، وتمدنا بالفهم العميق للأحداث والمجريات التي تقع في عالمنا، علاوة على كونها حاملة لسمات الخصوبة والثراء على نحو يكسبها القدرة على إنتاج أفكارٍ ورؤى جديدة، وتفسير الواقع تفسيرًا شموليًّا، وإنماء الوعي بطبيعة الحضارة المعاصرة وإشكالياتها الحديثة، ومع ذلك فإنه لا تكاد أذن بشرية تلتقط كلمة “نظرية” حتى يعتري نفس صاحبها مزيجٌ من النفور والامتعاض والملل؛ إذ إن أكثر النظريات الاجتماعية عصيّة على الفهم وعباراتها مبهمة وملتبسة ومستغلقة على أفهام العامة، فما أندر من يألف النظرية أو يشعر حيالها بالمتعة!
العجيب في الأمر أن بعض هذه النظريات التي تشغل اهتمام علماء الاجتماع قد تطرح فرضياتٍ ربما لا تستقيم مع قناعات البعض وخبراته في الحياة، فعندما يقدم لص أو مسجل خطر على اقتحام منزل أو بنك مثلًا بدافع السرقة فإن جهات الشرطة تجري تحرياتٍ عاجلة للقبض عليه بوصفه مجرمًا يستلب ممتلكات غيره دون حق؛ ولهذا فهو يشكل خطرًا على مجتمعه، لكن النظرية البنيوية التي تُعنى بالبحث عن العوامل البنيوية قد ترى ذلك يبدأ بخلل بأحد الأنظمة في المجتمع، كما ترى ذلك اللص ضحية البيئة الاجتماعية والعوز المادي والمستوى الاجتماعي والاقتصادي وسوء التنشئة الأسرية، وعندما أمنح عاملًا في مصنعي أو شركتي راتبًا عادلًا نظير عمله فإنه لا شك يعتقد أن ذلك أجره الطبيعي لقاء عمله اليومي لكن هذا العامل عند كلٍّ من “جورج هومانز” و”بيتر بلاو” يخضع لقانون التكاليف والأرباح في إطار ما يسمى بنظرية الاختيار العقلاني أو التبادل الاجتماعي.
وتعد نظرية التبادل الاجتماعي وثيقة الصلة بالنظرية التفاعلية، إن لم تكن جزءًا لصيقًا منها؛ ذلك لأن كلتيهما تنطلقان من الوجهة نفسها وتتبنيان المبدأ نفسه، وهو العلاقة التفاعلية التبادلية بين الفرد والآخر في إطار الجماعة التي ينتمي إليها أو المؤسسة التي يعمل بها، بل إن روادها الأصلاء الذين صاغوا مبادئها كانوا من المنتمين إلى النظرية التفاعلية، غير أنهم انشقوا عنها أو خرجوا من عباءتها ليؤسسوا بنيانًا جديدًا يتخذ عنوانًا حداثيًّا هو نظرية التبادل الاجتماعي.
وترتكز النظرية التبادلية على مبدأ رئيس هو أن الأفراد إنما ينطلقون في سلوكهم التفاعلي مع الآخرين من منطلقات تفاعلية تدور في فلك المنفعة التبادلية، بمعنى أن شخصين أو أكثر في علاقة تفاعلية تبادلية، أحدهما يعطي الآخر شيئًا ما مقابل مكافأة يسعى إلى الحصول عليها، والآخر يأخذ هذا العطاء أو هذا الشيء، ثم يمنح
المُعطِي مكافأة لقاء هذا الأخذ، أو بعبارة أخرى هناك فرد يعطي وفرد آخر يأخذ، وكلاهما في علاقة تفاعلية تبادلية قائمة على مبدأ الأخذ والعطاء، وفي حين أن النظريات الاجتماعية وضعت بالأساس لتفسر وتحلل كثيرًا من الظواهر الإنسانية وقضايا الفرد والمجتمع؛ فإن النظرية التبادلية كذلك من الممكن أن تفسر كثيرًا من العمليات والمواقف الفردية والجماعية في الحياة الاجتماعية.
إن التبادليين يركزون على تفسير السلوك الإنساني بأنه محكوم دائمًا بآلية المنفعة المتبادلة، وبأن تلك الآلية هي الأكثر شيوعًا في معاملات الأفراد مع بعضهم البعض، ولكنهم في الوقت ذاته يؤكدون على أن قوة العلاقات الاجتماعية وتماسكها مرتهن في الأصل بتحقيق العدالة التوزيعية، أي من خلال الاتزان بين عمليتي الأخذ والعطاء، أو بين ما يعطيه الفرد لجماعته، وما تعطيه الجماعة له، ومن هنا تتجسد قوة النظرية التبادلية في كونها لا تكتفي بتفسير السلوك التفاعلي على مستوى الأفراد وحدهم، إنما تتعدى ذلك لتفسير سلوك المجتمعات الصغيرة والكبيرة وكذلك الشركات والمؤسسات.
ومهما يكن الأمر فلم تنج النظرية من سهام النقد والتقريع؛ إذ ذهب البعض إلى اتهامها بالمادية وعجزها عن تفسير أنماط السلوك الاجتماعي كافة، لاسيما ما يتصل بالجوانب النفسية والأخلاقية؛ لأنها نظرية نفعية بحتة وتوجه بوصلتها نحو مبادئ السوق وقيم المال والاقتصاد، وتعضد من شعارات: ” هات وخذ” و”بكم تساوي؟” و”هناك دائما سعر لكل شيء”!
والحق إن الذين صوبوا سهام نقدهم إلى النظرية وإلى منظريها لم يركزوا على مبادئها وما تدعو إليه على النحو الذي صاغه روادها، إذ هي قادرة في الوقت نفسه على أن تقدم تفسيرات ناجحة لكثير من أنماط التفاعل الاجتماعي المادية والمعنوية على حدٍّ سواء، فمثلًا علاقة الزوجة بزوجها لا يمكن أن تخضع إلى اعتبارات مادية صرفة، فهي لا تنهض بأعمال البيت وشؤون الأبناء وطاعة الزوج من أجل الحصول على المال، أو لاعتبارات مادية أخرى، إنما هي تنهض بذلك طواعية لإيمانها بدورها الفاعل في بنيان الأسرة وتماسكها، وأنه لو اختل هذا الدور تهاوى بناء الأسرة، وتقوضت لُحمته وقوته، وكذلك لا يمكن النظر إلى علاقة الجندي بوطنه بوصفها علاقة نفعية أو مادية؛ إذ إنه لا يقوم مقام المدافع عن حدودها، الذائد عن حياضها من أجل أن يحصل على مال أو رتبة أو نفوذ، بل يفعل ذلك؛ لأنه موطنه ومصدر عزه وفخره، كما لم تختزل نظرية التبادل الاجتماعي علاقة الأب بأبنائه في إطار المادة النفعية؛ فالأب لا يضطلع بمهام توفير الملبس والمأكل والمادة وغيرها من مقومات الحياة الكريمة لأبنائه من أجل أن يتقاضى منهم راتبًا أو أن يحصل على علاوة مثلًا، كلا إنه يقوم بذلك انطلاقًا من شعوره الداخلي بالمسؤولية الأبوية تجاه أولاده، وبأن عليه واجبات تنبثق من دوره الاجتماعي الجديد بوصفه راعٍ لأسرة بأكملها.
وفي السياق نفسه وضع رواد التبادلية الاجتماعية الأوائل وعلى رأسهم هومانز وبلاو للنظرية مجموعة من الركائز والمنطلقات الفكرية شكلت أهم ملامحها، وكونت نسيجها المتكامل، وأكسبتها المرونة والعمق في تفسير وتحليل كثير من مواقف الحياة المختلفة، لعل أبرزها:
يعيش البشر حياتهم الاجتماعية وفقًا لمبدأ الأخذ والعطاء، بحيث يشكل العطاء الواجب المناط بالفرد أو الجماعة، بينما يمثل الأخذ الحق الذي ينبغي على الفرد أو الجماعة التمتع به لقاء أداء الواجب المفروض مسبقًا، ويتوقف استقرار العلاقة التفاعلية بين الأفراد وتماسكها أو ضعفها واضطرابها على درجة الموازنة بين عمليات الأخذ والعطاء، أو بين الواجبات والحقوق.
(ولتبسيط ذلك يمكن اتخاذ العلاقات الزوجية مثالًا، فعلاقة الزوجين مرهونة بسلوكهما التبادلي إزاء كل منهما، فالزوج الذي يوفر لزوجته حياة كريمة ويحرص على استرضائها ويجلب لها كل ما تريد في حدود إمكاناته ثم هو لا يجد مقابل ذلك كله اعتناءً ورعاية من الطرف الآخر، لا شك يشعر حينها بالغضب، وربما كان ذلك إيذانًا بعلاقة موشكة على الاضطراب، وفي المقابل فإن الزوجة التي تمنح مشاعرها وعاطفتها لشريكها ثم هي لا تجد لقاء ذلك سوى الإهمال والجفاف حتمًا هي الأخرى ستشعر بخواء العلاقة وأن مزايا الإبقاء عليها أقل بكثير من عيوبها).
المكافأة أو الثواب هو الحافز الذي يدفع الفرد إلى القيام بعملٍ يعهد إليه به فرد آخر أو جماعة أو مؤسسة، وهو الثمن الذي يتلقاه نظير القيام بهذا العمل.
(فالعامل في شركة أو مؤسسة أو مصنع حين يكون نشاطه التفاعلي مصحوبًا بمكافأة مادية أو اعتبارية حتمًا سيكرر هذا النشاط، وسيعمد إلى تكراره بذات الفاعلية).
جميع العلاقات الاجتماعية تنطوي على تكاليف وأرباح، وإذا تساوت كفتاهما استمرت تلك العلاقات وقويت، وإذا اختلتا ضمرت تلك العلاقات وربما تلاشت نهائيًّا.
(ويمكننا بسهولة أن نتخذ علاقة الأب بالأبناء مثالًا جليًّا لتبسيط تلك النقطة، فالأب الذي يبذل قصارى جهده في توجيه أبنائه وإرشادهم وتوفير ما يحتاجون إليه، ولا يدخر جهده في الاعتناء بهم والترويح عنهم، إذا انصرفت عناية الأبناء إلى طاعته والامتثال إلى توجيهاته؛ قويت علاقته بهم وازدهرت، والعكس صحيح إذا أساء أحد الأبناء أو بعضهم معاملة أبيه أو شقّ عصا الطاعة، فإن ذلك يقود إلى علاقة فاترة مضطربة).
إن نظرية التفاعل الاجتماعي تولي اهتمامًا كبيرًا في تفسير السلوك التفاعلي بين الأفراد والجماعات للتعادل الكمي والكيفي بين عمليات الأخذ والعطاء، فإذا كانت المهام الموكلة إلى الفرد من قبل المؤسسة التي يعمل بها كبيرة وتحتاج إلى خبرة علمية وإلمام وافٍ بفنون الأداء المتقن استلزم لقاء ذلك أن تكون مكافأته المادية المعنوية كبيرة أيضًا.
ومن الجدير بالذكر أن فرضيات جورج هومانز وزملاءه التي وضعت ضمن الصياغات العامة للنظرية أثبتت صحتها عند تحليلها المتعمق لغالب أنماط السلوك الإنساني؛ فتكرار العلاقة التفاعلية بين طرفيها تشير إلى تعمق صلات التعاون والمودة بينهما، كما أن المكافأة المادية أو القيمية التي يتلقاها الفرد نظير ما يقوم به من نشاط أو فاعلية أو مجهود ما تُعزز من تكرار هذا الفرد لنشاطه بغية الظفر بمزيد من المثوبة المادية أو المعنوية، علاوة على أن أتباع النظرية يعتقدون أن العلاقات التفاعلية لعموم البشر فيما بينهم إنما تتأسس وفقًا لحساب التكاليف والعوائد؛ لذلك فهم يميلون إلى تجنب الأعمال التي لا تعود عليهم بالفائدة.
ومما يقوي من نسيج النظرية ويدل على تجذرها وقوتها أنها صالحة أيضًا لتفسير العلاقات التبادلية بين المجتمعات الكبيرة، أو بين الدول والشعوب المختلفة؛ فالسلام يجب أن يقابله السلام، والتعدي مقابل التعدي، ومن هنا يتأكد مبدأ العدالة المتكافئة التي نادى بها هومنز، والتي بلا شك إن توفرت في هذه الحالة أمنت الدول على أفرادها ومقدراتها، وصينت كرامة الإنسان على أراضيها.
وغاية القول: إن التبادلية الاجتماعية عند منظريها وواضعي منطلقاتها الفكرية ليست محض قوانين نفعية أو مادية تتصل فقط بمبادئ المكسب والخسارة، وتتعلق أذيالها فحسب بالمصالح الاقتصادية المتبادلة بين الأفراد والجماعات، إنما هي مبادئ إنسانية في جوهرها تشمل الكون كله، وتستطيع بجدارة أن تفسر وتحلل جميع أنماط السلوك التفاعلي بين البشر جميعهم.
التعليقات