يتهادى قرآن المغرب رخيمًا من ميكروفون المسجد القريب؛ فيرقُّ النَّسيم، ويداعب واجهات البنايات وشرائط الزّينة الملوَّنة والفوانيس المُعلَّقة بخيوطٍ مشدودة بطول الشَّارع وعرضه.
يُحلِّق صوت الشيخ مُحمَّد رفعت عذبًا في الفضاء؛ فيغشى الشَّارع المزدحم خشوعٌ وسكينةٌ، تنعكس على ملامح المارَّة ووجوه المشترين أمام محلات المأكولات الشَّعبيَّة، وعربات التَّمر الهنديّ والخروب، وفرش الكنافة والقطائف. يتسلَّل الصُّوت عبر شباكٍ مفتوحٍ، يصل إلى مسامع رجلٍ مُسنٍّ يجلس على أريكةٍ خشبيَّةٍ في ردهة شقته، ينهمك في تلاوة ورده اليوميّ، ولا يرفع بصره عن المصحف المرفوع على الحامل المعدنيّ.
جاوز الستين من عمره، يرتدي جلبابًا فضفاضًا، ويعتمر طاقية بيضاء تخفي شيب رأسه، يكتسي وجهه بالنُّور، رغم ما به من تجاعيدَ ومسحة حزنٍ لا تخطئها العين.
من خلفه تبدو الجدران باهتة، قد تآكل طلاؤها بفعل الزَّمن، فتظهر من خلف القشور المتساقطة طبقة الأسمنت وكثيرٌ من البقع المملَّحة البيضاء. ثمَّة صورةٌ عائليَّةٌ قديمةّ يظهر فيها الرَّجل طويلًا قويَّ البنية، على وجهه ابتسامةٌ وقورةٌ، وإلى جانبه تقف زوجته في كامل نضارتها، تحمل على ذراعها طفلًا في عامه الأول.
ثمَّة صورةٌ أخرى جهة اليمين، يظهر فيها ابنهما الوحيد في زيّ التَّخرُّج، يرفع ذراعيه في الهواء، تقبض يده اليمنى على الشَّهادة الجامعيَّة الّتي لُفَّ حولها شريطٌ حريريٌّ أحمرُ، وتشير كفه اليسرى بالسّبابة والوسطى صانعةً علامة النَّصر، وترتسم ابتسامةٌ عريضةٌ على ثغره، وتظهر ملامحه مشرقةً كالشَّمس.
أمّا الصُّورة الأخيرة التي حملها الجدار القديم برفقٍ وحنوٍ، فتوجد جهة اليسار. تبدو هذه الصُّورة رسميَّة إلى حدٍّ بعيدٍ، يظهر فيها الابن في زيّ الخدمة العسكريَّة، يقبض على سلاحه باستماتة، كأنَّ السّلاح جزءٌ من جسده.
يأتي صوت زوجته من المطبخ، فجأةً قلقًا متوترًا، يقطع لذَّة التّلاوة: قد تأخَّر كعادته، لم يتبق سوى نصف ساعةٍ على أذان المغرب. يتنهَّد بحرقة، ويهزُّ رأسه، ويجيبها بأسى: لا تقلقي، سيأتي، ربما أخَّره ازدحام المرور. تمطُّ شفتيها، وتغمغم بكلماتٍ لم يسمعها جيّدًا، لكنَّه يخمن أنَّها تتوعَّد ولدهما في سرّها كما جرت العادة.
يحاول صرفها عن هاجسها، ينهض من مكانه، يتوجَّه إلى المطبخ، يبتسم، يخبرها أنه قرَّر صنع أفضل طبق سلطة في العالم، يتناول ثمرات الطَّماطم، والخس، والجزر، البقدونس، والليمون، يفتح الصّنبور، يغسل الخضراوات بتؤدةٍ، يحمل سكينًا صغيرًا، ويعود إلى الصَّالة، وينهمك في إعداد طبقه المفضل. في حين تسابق هي الزَّمن في تجهيز المائدة، تضع حول المنضدة ثلاثة كراسيّ، وتضع فوقها ثلاثة أطباقٍ، وثلاث ملاعق، وثلاثة أكوابٍ، وما إن تنتهي من رصّ أصناف الطَّعام، حتى تقطع الرّدهة ذهابًا وعودةً عدَّة مراتٍ، ثم تتوجَّه إلى الشُّرفة، وسرعان ما تعود، وقد اكتسى وجهها بالحزن. كان في تلك الأثناء ساكنًا في مكانه، يتابعها بصمتٍ، قد أطلَّت من عينيه نظراتٌ مشبعّة بالشَّفقة، حاول أن يترجمها إلى كلماتٍ، لكنَّ الحروف خانته، وذابت على شفتيه.
ينطلق صوت المدفع، ويرتفع الأذان؛ فتنزوي في زاويةٍ، وتنخرط في البكاء، يدنو منها، يربت على كتفها، يقبّل رأسها، يطوقها بذراعه، لا يستطيع منع دمعتين كبيرتين انحدرتا على خديه، تتسلَّل في تلك اللَّحظة من الشُّباك المفتوح رائحةٌ، توقظ في نفسه وجعًا، لم تخفُّ حدته قَطْ على مدار سنوات خمس مرّت، يشم روائح مسكٍ، وعرقٍ، ودمٍ، ورملٍ، وبارودٍ، امتزج بعضها ببعضٍ. يرفع بصره الكليل نحو صورة ابنه، يراه هناك في نقطةٍ عسكريَّةٍ من نقاط سيناء، حوله رفاقه من الجنود، يُجهّز معهم طعام الإفطار قبيل أذان المغرب بدقائقَ، يراهم يرصُّون أكواب الماء وأكياس التمر وأرغفة الخبز الأسمر، يسمع ضحكاتهم الصَّافية تتردَّد في الفضاء، يرتفع الأذان من راديو الجيب الصَّغير، يرفع ولده يده بكوب الماء؛ كي يكسر صوم يومه القائظ الطَّويل؛ فترتدُّ يده مخضبةً بالدَّم، تنطلق رصاصات خمسةٌ من المسلحين الملثَّمين، الذين يستقلون الدراجات النَّاريَّة.
تنهش رصاصاتهم صدور الجنود، تعلن صيحاتهم عن فرحةٍ مسعورةٍ، وغلٍّ أسودَ دفينٍ. ينطلقون بدرَّاجاتهم مسرعين، فتبتلعهم الصَّحراء في غمضة عينٍ. تنوح السَّماء، وتتدثَّر بالظَّلام. ويتمدَّد الجنود على الأديم، وتنزف عروقهم التي لم تبتل، وتختلط دماؤهم بوجبة الإفطار التي لم تُمسّ، وسرعان ما تُخضّب دماؤهم الطَّاهرة رقعة الرَّمل المنتحب الحزين.
* كاتب من مصر
“تنوح السَّماء، وتتدثَّر بالظَّلام. ويتمدَّد الجنود على الأديم، وتنزف عروقهم التي لم تبتل، وتختلط دماؤهم بوجبة الإفطار التي لم تُمسّ، وسرعان ما تُخضّب دماؤهم الطَّاهرة رقعة الرَّمل المنتحب الحزين.”
لغة بليغة سامية اختصرت كل قصص التضحيات للجنود المرابطين في الحدود والثغور..