457
0517
1405
0245
0426
0107
046
046
096
059
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11817
04749
04730
04540
04411
17
هبة سمير يوسف*
منذ أن رحل جاره كامل عن شقته منتقلًا إلى مثواه الأخير، وحل الزوجان الشابان مكانه، لم يعد يلقى بالاً للدور الرابع، فقد فارقه الدفء والأنس بفراق صاحبه الذي طالما احتواه وبثه خلجات فؤاده، وطالما شهد الدور الرابع حيث أمسياتهما وليالي دافئة بالأنس، مترعة بالسمر والمرح، اعتاد كامل أن يقيمها لرفاقه، ليتبادلوا الأحاديث، ويلعبوا الدومينو، وفي بعض الأحيان حين ينال الكسل منهما، وتنضب قوة الحراك لديهما، يعمد كل منهما إلى الاعتصام بشقته وينادي صاحبه عن طريق نافذة المهوى “شباك المنور الداخلي” وراحا يتبادلان الأحاديث والنكات.
ومنذ فارقه كامل، وسكن الزوجان، لم تعرف قدماه طريقًا للدور الرابع، ولم يعد يأتيه سوى الصمت، كأن من سكنها ملكان من الجنة يتهامسان همسًا، إلى أن كانت ليلة باردة كالحة، تناهى إليه صوت ارتطام عنيف بشقة الزوجين، ثم أعقبته مشاجرة حادة، فدهش في بادئ الأمر، كمن تذكر أن هناك أحياءً يتعايشون ويتشاجرون، وليسوا أشباحًا صامتةً سطت على شقة صديقه، فعمد بأذنيه إلى نافذة المهوى يتلصص عليهما بدافع الفضول.
هتف الزوج بنفاذ صبرٍ محتدًا: أنتِ صماء! جماد لا يشعر أنني أردد منذ أن عدت إنني متعب متعب؟!
بادرته بصوتٍ مرتجفً بالغضب: ألا تستطيع التحدث إليّ بأسلوب أفضل من ذلك؟ أم أعتدت على إهانتي؟
زفر تعبه وهتف بضيقٍ: لم أتعمد إهانتك، لكني ضجرت من إلحاحك، ترغين وتزيدين في الموضوع مائة مرة في اليوم، وقلت لك حاضر يا جميلة سأفعل.
عاجلته بقولها بنفاذ صبر: وهل فعلت؟ لا لم تفعل شيئًا ولن تفعل! علمت الآن لم ألح عليك؟ لما أرغي وأزبد في الموضوع في اليوم مليون مرة لأنني أعلم أنك مهمل.
بادرها محتدًا: حسنًا، أنا مهمل وبي كل العبر يروق لكِ ذلك؟ اتركيني أبدل ثيابي وأنام.
بادرته بلين لامتصاص احتداده: ستتناول عشاءك؟
بادرها بغيظ مكتوم: لن آكل.
بادرته ساخطةً: كما يروق لك لا تأكل لسنةٍ أخرى.
صرخ بها: دعيني وشأني يا جميلة في تلك الليلة السوداء التي لا تريد أن تنتهي.
صاحت به: لا تصرخ في وجهي هكذا، أضحيت لا تطاق “ثم انخرطت في البكاء كالطفلة المغتاظة بصوت مسموع”.
ومنذ ذلك الحين اعتاد أن يصغي إلى كل ما يصل إلى مسمعه، وكل ما تختلج به شفاهما، ولم يأته شجارُ على طول الخط، بل أحيانًا في أمسيات الليالي الدافئة يسري إلى أذنيه حلو الأحاديث العذبة المسترسلة وتداعب أنفه رائحة عطر عشقهما الدافئة…
يبتسم لهما، ويتركهما ينعمان بجنة عشقهما على الأرض، ويهيم في ذكريات حبه الأول، الذي لم تكتمل قصته، حين كان لا يزال طالبًا بكلية الآداب، وقد أغرم بالسيدة عبير الموظفة بشؤون الطلبة بالكلية، وقد تندر عليه زملاؤه وقتئذٍ، لأن قلبه السقيم ترك كل فتيات الجامعة، وأغرم بالموظفة السمراء سليطة اللسان، التي لا يطيقها أحد من الطلبة لتعنتها معهم، ورغم تعنتها معه أيضًا أغرم بها، وظل طيلة سنين الجامعة ينتحل شتى الأعذار ليدنو من شباك شؤون الطلبة الذي يطل على الغرفة التي تعمل بها لعله يتزود بنظرةٍ منها ولو صارمة!
تطل برأسها، و بملامحها الشرسة على قامته النحيفة وذراعيه النحيلتين، ووجهه الأصفر، والصلع الذي هاجم شعيراته القليلة بلا رحمة حتى أبرز جبهته العريضة، فبدا وجهه كله جبهه فقط، وثيابه المهدلة عليه، وهو يرنو إليها بنظرات عينيه بولهٍ، فتصرخ فيه: مشغولة مر علينا غدًا! ثم تصفع شباك المكتب في وجهه ذلك كان كل نصيبه منها، وتخرج في الجامعة، وطوى قلبه على ذاك الحب الغض الذي لم تعلم صاحبته به حتى يومنا هذا، ثم اعترك الحياة وعمل موظفًا بهيئة النقل العام فرع جراج أ .ث وبين أكداس الورق بالهيئة أُغرم بزميلته الآنسة بثينة الغضة البضة صاحبة القوام اللين والبشرة الخمرية، وبتلك المرة لم يطوِ حبه بقلبه، بل أطلعها على مكنون صدره، وتزوجا في حفلٍ عائلي، ومضى بركب السنين يغالب أمواجها، فتهدهده حينًا وتعصف به أحيايين أخرى، واشتهر بين زملائه بهيئة النقل العام فرع جراج أ.ث بطيبته ودماثة خلقه وحبه للجميع، وإن كان يعاب عليه تطفله المستمر على شؤون كل من يحيط به، حتى مضت ثلاثون سنة، وأحيل إلى التقاعد، وودعه زملاؤه بعاصفة بكاءٍ ولوعةٍ لفراقه.
لم يكد يألف فراغ التقاعد الموحش حتى رحلت عنه رفيقة العمر، ثم وجد العزاء والأنس في جاره كامل حتى رحل عنه هو الآخر، وظل هو يناجي الجدران، يشكو لها وحدته، فتحنو عليه، وتترنم ترنيمة الطير الشارد الحزين، وعلى حاله تلك آلف جيرانه الجدد الزوجين، وبدأ يأتنس بهما، وتمضي الأيام، ازداد قربًا منهما لما عاصره معهما وعايشه من خلجات وأسرار.
لقد عثر بأحاديثهما وسكناتهما على الأنس ومقاومة الفراغ والوحدة القاتلة، كل ذلك عن طريق نافذة المهوى التي تأتيه بكل أخبارهما كما لو كان يعيش معهما!
وكان أحيانًا يتقابل بهما حين يصعد السلم أو يهبطه، فيحييه الزوج الشاب الأسمر النحيف شاحب الوجه في أدب جم، أما الزوجة الشقراء الجميلة الشابة فكانت ترد تحيته في خفوت، ويتضرج وجهها الرقيق الوديع بحمرة الخجل، فيعلق بهما كلتا عينيه ذاهلًا، وفي مخيلته تترامى صور يزجها خياله لما سمعه مرارًا من أحاديثهما، حتى يدهش له الزوجان من تحديقه الصامت الملح فيهما، ثم يحييانه وينصرفان من أمامه بارتباك لا يخلو من ضيقٍ!
كان الزوجان لا يميلان إلى الاختلاط بجيرانهما ولا يقبلان على صداقة أحد منذ أن سكنا بالعمارة في حي (د) بالبساتين، فقط يقتصران على إلقاء التحية العابرة أو ردها على السكان بتحفظ وبابتسامة صافية جميلة كابتسامة الأطفال الصغار.
وذات مساء ليلة خريفية باردة نهض عن مقعده الهزاز، وعرج على المطبخ ليعد مشروبًا ساخنًا يستدفئ به، وكان أن ملأ إبريق الشاي، ووضعه على النار، ثم راح يرقب بخاره المتصاعد بعمق رزين وذهن هائمٍ يرمي على مخيلته ذكريات رفقته لجاره كامل، وكيف كان يلتهمان معًا مشروب السحلب اللذيذ، الذي كان يعده كامل بمذاق جيد، ثم غمغم متنهدًا بأسى: هيه! كانت أيام الله يرحمك يا كامل من يوم فراقك يا حبيبي كففت عن شرب السحلب، أنت تعلم أنني لا أستطيع إعداده كما كنت تعده.
ثم وصل إلى سمعه صوت أنين مؤثر مع ريح الليل البارد، فجفل متأثرًا ثم دنا من نافذة المهوى وراح يصغي منزعجًا، بدأ الأنين يعلو رويدًا رويدًا حتى صار نحيبًا يمزق نياط القلب، فتأثر ألمًا وهز رأسه أسفًا، وقد أدرك أنه لا بد بكاء الزوجة الشابة الرقيقة، فدفعه الفضول للتنصت عسى أن يعلم الدافع لذلك، لكنه لم يسمع شيئًا سوى ذاك البكاء الذي ظل مسمرًا إلى قرب الفجر، كمن عزمت صاحبته على أن تفني به نفسها عن العالم.
مضت عدة أيام على هذا الأنين الموجع، وذات صباح مضبب، توارت به الشمس حزينة كسيفة البال رآها على السلم وقد بدا وجهها بائسًا حزينا، حاول أن يقتحم هدوءها..
هتف بها بتودد: صباح الخير كيف حالك يا بنيتي؟
بادرته بصوت رقيق كزقزقة العصفور: بخير الحمد لله “وهمت تستدير لتصعد”.
بادرها على عجل: وزوجك بخير أيضًا؟
بادرته بخفوت وبدا صوتها يرتجف بالحزن: نحمد الخالق على كل شيء شكرًا لسؤالك، بعد إذنك.. “لم تزد وانصرفت سريعًا وصعدت الدرج لشقتها”.
منذ ليلتها ظل ذاك البكاء المر يطرق أذنيه بإلحاحٍ، يأتيه كل ليلة مع نسمات الفجر، فأسف لحال صاحبيه، وإن ظل الفضول ينهشه!
إلى أن انتفض ذات ليلة من نومه مذعورًا على صوت شجار حاد حمله الشباك اللعين إلى مسمعه.
هتف الزوج بها بصوت مخنوق: لن أٌجرى هذه الجراحة.
هتفت به بصوت يائس مكتئب كالصرخة: ماذا تعني بأنك لن تجري تلك الجراحة؟ أو ستهمل بها أيضًا كما أهملت العلاج عدة أشهر، لقد جف ريقي كل ساعة، كل يوم “يا محمود قم بإجراء الفحوصات والتحاليل التي طلبها منك الطبيب”. وظللت تماطل وتسوف وتهمل حتى تدهور الحال بك وأضحت الجراحة لا مفر منها.
بادرها صارخًا معذبًا: وقد سمعتِ الطبيب يجزم أن نسبة نجاحها ضئيلة، إذن لا فائدة من إجرائها، لن أسلم لهم جسدي يشرحونه ويمزقونه بمشارطهم.
بادرته محتدة باكية تلهث بشقائها: لكنه قال أيضًا أنه لم يعد هناك غنى عن إجرائك لهذه الجراحة، حالتك تزداد سوءًا ولا بد من إجرائها.
صاح بها بيأس: لن أجريها يا جميلة، لن أجريها
انفجرت فيه: تبًّا لحمقك أنت تسلك سلوك الأطفال، لا تكترث لنفسك ولا لصحتك ولا لخوفي عليك، ثم اهتز صوتها فخرج مبحوحًا يقطر مرارة: أنا لا أنام ليلًا من فرط القلق عليك، لا أنام…
بادرها برجفة ألم وجزع: إننى خائف، أشعر أنني سأتركك، لذا لا أريد إجراء تلك الجراحة.
بادرته بلوعة: لا تقل ذلك! إن الله رحيم بنا، لن يتخلى عنا قط، إنه سبحانه يعلم أنه ليس لي سواك، لذا لن يأخذك مني.
وامتزج بكاؤهما وبكاؤه وتعانقت قلوبهم أملًا في رحمة الخالق، وظل الرجل مهمومًا لحال صاحبيه، ولم يجد بدًّا من أن يفضض بكوامن نفسه المهمومة لأصدقائه الذين يجالسهم بالمقهى.
اقترب الصبي الأسمر القهوجي ذو الشعر الأكرد بالمشروبات، ورصها أمام الطاولة التي التف حولها السيد حسين وأصدقائه، فتناول كوب الشاي، رشف منه رشفة بصوت مسموع ثم قال بتنهيدة: شباب مثل الورد والله قلبي ينفطر عليهما.
بادره صديقه منصور، وهو رجل مسن أبيض ملتحٍ ملامحه ضاحكة: وممَّ يشكو زوجها؟
بادره متفكرًا: والله لا أدري ما علته؟
بادره صديقه الآخر توفيق، وهو رجل ربعة القوام، حليق الرأس والدقن، في الخمسين من عمره متفكها: يا رجل! لقد سمعت كل شيء حتى دبة النملة وتلك لم تسمعها؟!
ضحك السيد حسين ضحكة قصيرة، نصفها حزن ونصفها تهكم وبادره: حقًّا لم أسمع شيئًا عن سبب علته، ثم أردف جادًّا مهمومًا: المهم أنه سيجري جراحة ولا بد أنها خطيرة.
بادره منصور برفق: الله يلطف بهما وينجيه لزوجته، فغمغموا: آمين.
ثم فتح توفيق الطاولة وتأهبوا للعب.
لطالما عصف به خاطر أن يقتحمهما، ويشد من أزرهما، ويخفف من مصابهما، وقد عزم على ذلك، ولكن الأقدار لم تمهله، وما كاد يقبل حتى ردته صرخة مروعة فقد مات الزوج أثناء قيامه بالعملية، فتهاوى تحت ثقل الفاجعة، وانفطر قلبه لحال الزوجة الشابة كابنة له.
أقبل يقدم لها فروض التعزية الواجبه في شقتها، بعد أن حضر سرداق العزاء، وعزى أقاربها وأقارب زوجها، وألفها أكثر هزال كمن امتص الحزن على فراق الحبيب كل روحها، فتركها كالشبح، أقرب للموت منها للحياة وانقبض قلبه لمرآها، وغمغم ببعض كلمات يواسيها بها: الله يلهمك الصبر يا بنيتي، البقاء له وحده، ادعي له دومًا بالرحمة والمغفرة، ثم خنقته غصة ألم، وهو يراها ذاهلة عنه كمن لا تراه، فغالب نشيج قلبه وغادرها موجوعًا على حالها.
ومنذ ذاك الحين يأبى إلا أن يجلس بجوار نافذة المهوى، يعايش تلك الشابة المفجوعة حزنها السقيم ويشاطرها البكاء والأنين، يتملكه حنين جارف لأن يصعد إليها يحتويها بين ذراعيه، ويربت على مصابها بحنو، لكنه كان يتراجع حتى لا يقتحم خلوتها، وظل على حاله تلك، وإن شعر بأن ميثاقًا متينًا ربط بينها وبينه، ومر شهران، لم يعد يراها تغادر مسكنها قط، فاعتراه القلق، لكنه عزا غيابها إلى أنها ربما رحلت لتمكث مع بعض أقاربها أو أقارب زوجها للترويح عن نفسها في فترة الحداد والوحدة القاسية، إلى أن بدأ يصل إلى مسمعه صوتها ذات مساء، وإن بدا رائقًا لا أثر للحزن به.
– “صينية الخضار هذه قمت بطهوها لأول مرة، لقد أخذت طريقة طهوها من الشيف شربيني، تذوق وأخبرني برأيك ولكن ثق أنك ستلتهم أصابعك بعد تذوقها”.
وأحيانًا يسمعها تطلق ضحكاتها كضحكات طفل شقي يلهو مغتبطًا وهي تتبادل الحديث، فارتاح ظنًّا منه أن أحد أقاربها جاء ليمكث معها، واستطاع أن يخفف عنها مصابها، وينتشلها من الألم الذي صدعت روحها به، إلى أن سمعها ذات ليله تنادي زوجها وتحادثه، فأرهف السمع مرارًا يكذب أذنيه، فحمل الشباك إليه صوتها الرقيق تتماوج نبراته ما بين العتاب والدلال والرجاء والغنج:
– محمود… لمَ تأخرت في العودة هكذا؟ لقد كدت أجن قلقًا عليك.
– هل يروقك قميص النوم هذا؟ إنه اللون الذي تفضله.
– محمود.. انتبه للبن ولا تجعله يفور.
اهتز السيد حسين لما اعترى جارته، وصمم على أن يتقصى أخبارها، فسأل بواب العمارة عنها ذات صباح ملبد بالغيوم مثقل بالسحب غابت شمسه.
هتف به وهو يتناول جوافة مثمرة من حقيبة الجوافة التي أشتراها من السد، يمد له يده بها فتناولها الرجل البدين الأكرش مغتبطا: أخبرني يا عم محمد ما أحوال السيدة جميلة جارتنا التي تقطن بالرابع؟
بادره البواب، وهو يقضم ثمرة الجوافة بنهم ويحدق لجبهته العريضة ذو الصلعاء: مسكينة تلك المرأة يا سيدى، منذ أن رحل عنها زوجها وقد خف عقلها تمامًا! إن زوجتي حين تصعد إلى شقتها تطمئن على أحوالها، وتجلب لها بعض المشتريات تجدها تحدث نفسها ذاهلة عن كل ما حولها، متوهمة أنها تحدث زوجها، أصابتها لوثة!
غمغم ذاهلًا: أصابتها لوثة؟ ثم غمغم بلوعة “تحدث زوجها المتوفي”.
عصف الحزن بقلبه لما آل إليه حالها، وراح يبكيها بمرارة، ويعود يبوح لأصدقائه الذين يجالسهم بالمقهى، يشاطره الآخرون حزنه وتحسره على الشابة المسكينة، ثم يتفرقون، ويمضي كل منهم إلى بيته، يفضفض بدوره مع أهله عن تلك الزوجة المسكينة التي جنت بفراق زوجها، ولم يمض سوى القليل حتى ذاع الخبر بسرعة البرق بأن الزوجة الشابة جنت، وأصابتها لوثة بفراق زوجها، على عادتنا في التهويل والمبالغة، وقبل أن يدرك السيد حسين ذلك كان قد سافر إلى بلدته الفيوم على إثر مرسال ساقه أخوه إليه ليسوي شؤونًا تتعلق بأرضهم وتحتم حضوره، رحل وتركها للقيل والقال، فقد نصبها الجميع من الجيران وأهل الحي الشعبي الذي تسكنه مجنونة، خطرة، مختلة عقليًّا لا ينبغي التقرب لها! وقد كان ذلك لا يهم في بادئ الأمر، حين كانت لا تغادر شقتها ولا تدري من أمرهم شيئًا، لكنها بعد فترة غادرت شقتها، وأفاقت لنفسها، بدأت تدرك الموقف الأليم شيئًا فشيئًا، لقد رحل عنها زوجها لكن الحياة تستمر، ولا بد أن نحياها ولو بقلب مصدع، لا حاجة بنا للهروب ولا حاجة بنا لمن يخفف عنا أحزاننا ما دام الله خلق لنا يدًا لتربت علينا.
وهنا بعد أن أذعنت لحكم قدرها عليها، وجدت الرحمة وقد نزعت عن قلوب الناس، فكل من حولها لا يرحمونها ويحيلونها إلى مجنونة، غادرت كهفها المظلم لتخرج إلى دنيا البشر فتراهم يحدقون إليها كمن يتطلعون إلى حيوان يُخشى بأسه، وتمتد يدًا طفيلية تتحسس وجهها، وتربت عليها ولا تفتأ الألسنة الفضولية تهتف بها: ما بالك يا حبيبتي؟ سلامة عقلك ربنا يصبرك، وغيرها من عبارات لاذعة، حتى القلوب البريئة الغضة هؤلاء الأطفال الصغار تعمدوا السخرية منها والإساءة إليها إلى أن سقطت طفلة منهم أمام قدميها ذات مرة، فانحنت تلتقطها من الأرض هاتفة بلهفة: حبيبتي انتبهي.
خافتها الصغيرة وبادرتها: دعيني لا تؤذيني، ثم صاحت مرتعدةً تنادي أمها”: يا ماما.
بادرتها تهدئ روعها: لا تخافي يا صغيرتي لن أؤذيكِ.
بادرتها وهي تبتعد عنها وجلة: هم يقولون أنك مجنونة.
بهتت جميلة!
وجدت صدق عبارة الطفلة البريئة في نظرات الملتفين حولها، وسمعت الكلام اللاذع والسخرية من الأفواه والنأي عنها، كمن حل بها الجرب، هي الرقيقة الخجولة أنَّى لها أن تتحمل ألسنتهم الحادة؟، أما حال الرجال معها فكل على هواه منها، فمنهم من تجنبها، ورق قلبه حسرة على جمالها يحدق إليها ولسان حاله يهتف بها: إنها مخبولة ضاعت انتهت خسارة!
ومنهم من وجدها فريسة سهلة المنال، امرأة شابة أرملة وحيدة مخبولة لا عقل لها، فلم لا نتذوق التفاحة الشهية ولو قضمة بسيطة! وحدث أن تحرش بها أحدهم في الطريق، لكنها صرخت واستدارت له كالنمرة، أنشبت أظافرها بوجهه وتجمع الناس من هنا وهناك، وانكمش الرجل حين ألفى زوجته تهرع بينهم ثم فر عنها بعيدا كالنذل وهو يغمغم: لم أقربها إنها مجنونة تلتحم بكل عابر تمر به أبعدوها من هنا، بل ألقوها بالمستشفى وظلت جميلة تلعنه حتى اندفعت زوجته نحوها جذبتها من شعرها صارخة: ما الذي تريدينه منه؟ قتلت زوجك بجنانك والآن تصطادين غيره؟! ثم احتدم الصراع بينهما حتى هرع محمد البواب على أثر الصراخ، وأنجدها من براثنها، والحق يقال والرجل ُيشكر، فكثيرًا ما كان يمنع عنها أذى الناس وأحيانًا أخرى تمنعه مشاغله عن ذلك، فيتركها مضغة سهلة في الأفواه الجائعة، فلا تستطيع ردعهم لخجلها وضعفها الشديد، وتلجأ مرارًا لأقاربها وأقارب زوجها تستنجد بهم، فيتوارى كل منهم عنها بجبن وخسة خشية أن تثقل كاهله بطلب المال أو تحمل مسئوليتها بعد وفاة زوجها، ومن ثم لم تجد منقذًا لها ومعينًا من شرورهم وفظاظتهم، حتى راحت تجتر الدمع وتتضرع بأنات مؤلمة: بحق رحمتك يا الله خذني إليك لأحيا بجواره لا أحتمل العيش في تلك الدنيا اللعينة دونه منبوذة معذبة بافتراء البشر وخستهم، حنانيك يا رب الضعفاء أنَّى لي أن أحتمل ذلك العداء مع الجدران الباردة والوحدة القاسية! هبني الخلاص يا الله.
مر شهر وعاد جارها صاحب الأذن التي تلصصت على أخبارها وأسرارها وخلجات نفسها، أسرار يخبؤها المرء في أعماقه ويضعها في مكان سحيق بروحه يغلق عليها كالصدفة الخرساء، عاد صاحب الشفتين اللتين نقلتا كل ما استمعت إليه، نقلته بلا مراعاة أو تقدير لعواقب!، عاد ليجدها تصرخ ملقاة على الأرض، سحقتها الأقدام بلا رحمة، كوردة صامتة اقتلعتها ريح جارفة، وألقت بها في الوحل، فتجمد هلعًا لمرآها، وقد تمزقت ثيابها، ونكش شعرها، وبدت آثار كدمات على وجهها، تطلق صرخات مذعورة، ومن حولها مجتمع الناس ذوي القلوب الجامدة، لا يرثون لما أصابها! فأنّ بمرارة: آه هذه هي الشابة الوديعة كالحمل، ما بالها تصرخ هكذا؟! وما ذاك الذي أصابها! ثم هرع إليها ودفع الناس بعيدًا عنها صارخًا فيهم “ابتعدوا أيها الهمج إلى ماذا تنظرون؟” ثم رفع جذعها عن الأرض وأردف بلوعة: ماذا حدث أخبريني؟ ماذا فعلوا بكِ؟
دنا منه صبي منمش الوجه في الرابعة عشر، يرتدي جلبابًا قذرًا ملطخًا بالدم، عرف فيه صبي الجزار بادره بجرأة: إن تلك المجنونة أنشبت أظافرها في عنق المعلم (حرتيشة) الفكهاني حين شق بطيخة أمامها ليقنعها بشرائها، ولم تكتف بذلك بل راحت تصرخ وتتشاجر مع البائعين كافة!، نعم لقد رأيتها بعيني وأنا بالدكان، حتى اندفعت نحوها المعلمة سنية متطوعة فأعطتها علقة دامية لكي تعيد إليها عقلها!
صرخ فيه لاعنًا إياهم وانهمر دمعه رثاءً لحالها، وراح يربت عليها، ويضمها في حدة، انفعاله البائس لصدره بشدة، لكنها كانت بعيدة عنه، وعما حولها، تشعر بذراعيه كطوق متين يزهق روحها، زاغت نظراتها على السكين الملقى أرضًا، الذي سقط من يد المعلم (حرتيشة) عندما هجمت عليه، فارتجف جسدها كله، كمن مسه صاعق كهربائي فاشتد جارها البائس في ضمه لها يهدئ روعها، اشتدت روحها اختناقًا بتطويقه ” تريد التحرر، تريد هواء، ستختنق وصراخها محبوس بصدرها لا يصل لفمها، وجسدها عاجز عن تحرير روحها من طوق ذراعيه”: هواء هواء أختنق! والصرخة تموت بحلقها، أظلمت الدنيا بعينيها سوى من بريق السكين “إنه دون سواه ما سيحررها” هتفت لنفسها ذاهلة وشعرت بالحرية تمس كيانها، ملأت صدرها بالهواء ومدت يدها، تناولته في غفلة من الجار الأمين الذي صان ما سمعه من خبايا وأسرار!
* كاتبة من مصر
التعليقات