الأكثر مشاهدة

فاطمة الشريف* راحلون، ويبقى في الرحيل أنفع الكلام وأجمل الأثر. في ذاكرة عامنا 14 …

هشام بنجابي.. ذكرى ومرثية

منذ 6 أشهر

770

0

فاطمة الشريف*

راحلون، ويبقى في الرحيل أنفع الكلام وأجمل الأثر.

في ذاكرة عامنا 1445-2024  

في رحلة الحياة، لكل منا قصصه مع الحزن ومراثيه مع الفقد وشجونه مع الفراق والألم، ولعل أعظم قصص الحزن ما كان مقرونًا بالموت، تلك الحقيقة التي نسلّم بها وننساها. 

“الموت ظاهرة فقد الحياة دون نقض البنية”، فلا يمكن أن نستقبل الحياة دون التسليم بنقيضها الموت، حينئذ يكون “الموت هو الغاية والحياة الوسيلة له”، في رحلة الحياة تتوالى قصص الموت برحيل أناس أضاءوا حياتنا بوجودهم، أو مواقفهم، أو كلماتهم، أو ألوانهم… زرعوا فينا معاني الحب والأمل والعطاء… غادروا، وفي قلوبنا لهم كل ود ودعاء أن يبسط وينير الباري منازلهم، وأن يجمعنا بهم على منابر من نور تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى.

عام حزن، وشهر حزين، وأسبوع حزين، ويوم حزين، ذلك اليوم الذي يواري الموت لنا كل غالٍ وحبيب. 

عندما فقد نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأجل التسليم، زوجته خديجة وعمه أبوطالب، إضافة لأحداث أخرى خالطتها مشاعر الألم والوجع سُمي ذلك العام عام الحزن، وهذا العام عام حزن فقدنا كثير من رموز الثقافة والتشكيل، وخالط مشاعرنا كثير من مواقف الألم والحزن، ولعل من كلمات الرثاء والعزاء ما نثره البدر رحمة الله عليه أن بعض الحزن طهر وجمال:

يا أجمل الحزن .. لدموعك سلام

من حبيبٍ … بقى منه الكلام

يا أطهر الحزن … لو كان القصيد

لكتب الشمس شعرٍ في سناك

يا عسى البدر نوره ما يغيب

عن حبيبٍ بقي منه الكلام

راحلون ويبقى في الرحيل أنفع الكلام وأجمل الأثر. 

ففي بعض الحزن جمال وطهر

رحل الأديب والإعلامي عبد الرحمن المعمر، وثرى الطائف ينعاه.

رحل الإعلامي وأيقونة التعليق الرياضي محمد رمضان صوت مكة الخالد.

رحل أستاذ الأدب والنقد الدكتور عبدالله المعطاني، واسمه قاعة ضوء في جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة.

رحل مهندس الكلمة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن، بل “فارق البدر المنيرُ سماءَنا… ‏ولسوف يخلد ذكرهُ وعطاءُهُ… ‏ما نام ليلٌ واستفاقَ نهارُ…” رحل البدر وفي كلامه السلوى والعزاء لكل من يعشق الشعر في الوطن العربي… رحل وله مع الرحيل حالة حتمية ممزوجة بمشاعر الحزن والفقد والصد والغياب، لازمت جل الأعمال الشعرية للأمير بدر عبد المحسن رحمة الله عليه؛ لتعكس تجربة إنسانية فريدة عولجت بطريقة فلسفية بمعاني شعرية كثيفة يدركها الصغير والكبير، والعالم والمتعلم على حد السواء، ما أعطى سمة التفرد في شعره العميق والمعبر عن حقيقة الإنسان ومعاناته في رحلة الحياة. 

فهو يرى الإنسان مثل: 

 “المسافر راح، ذبلت أنوار الشوارع، وانطفا ضي المدينة”.

ويقرر نهايته قائلًا:

الناس ما همَّها ظروفكْ

كود الذي يحزن لغمّكْ

وإن شلت حملك على كتوفكْ

بتموت ما احدٍ ترى يمّكْ

بل يرى أنّ  قصته موت وميلاد فيقول:

فعيني تغيب الشمس .. وتشرق اف عيني

في ناظري للشمس .. موتٍ وميلاد

ويرثيه قائلًا:

كن السنين استكثرت طول عرسي .. سبعين غيري ما حصله بعضها

ولا بدها يا سعود بتغيب شمسي .. ذي سنة رب الخلايق فرضها.

يعجز القلم أن يكتب عن أسطورة البدر الشعرية، وتعجز الألوان أن تتمازج لترسم عنه لوحة، والحزن في نثر بعض حروفه قليل من السلوى…

رحلوا عنا الا أن ذكراهم في خواطرنا حاضرة، وألسنتنا لكل من فارقنا ندية طرية بذكر مآثرهم والدعاء لهم.

رحل العملاق التشكيلي هشام بنجابي، وما رحل من مخيلتي صدق تبسمه، وجمال كلامه، وحسن سمته وتواضعه…

غيّب الموت ريشة هشام بنجابي الفنية، وما غاب عن وزير الثقافة صاحب السمو الأمير/ بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود تخليد فنه عندما وجه أن يتحول مرسمه إلى مركز ثقافي ضمن برنامج جدة التاريخية.

أن تكتب عن تجربة فنية حية، أو تقرير معرض تشكيلي حضرته، أو ورقة نقدية عن لوحة للفنان في سجل التشكيل، أو مقالة  تعبر فيها عن أفكارك، وتغوص فيها بمشاعرك؛ كل ذلك في بروتوكول الكتابة مقبول، أما أن تكتب عن فنان لم تحاوره إلا مرة، وتلقاه ثلاث مرات، ثم يغيّبه الموت، أعتقد أن الكتابة عنه نسج حروف من ذاكرة ذاتية لمرثية صادقة في جناب ذلك العملاق.

بنجابي رحمه الله، أيقونة الفن والدعم التشكيلي والخلق الرفيع، مسيرته التشكيلية الطويلة الممتدة لعقود من الإنجازات المتوالية، حريٌّ بها أن تُذكر وتدرّس وتنشر، جمع بين الفن البصري باتجاهات تشكيلية متعددة عبر لوحات البورتريه، والطبيعة الصامتة، والفكر الفني ذي السمة الوطنية المشّرقة، تميّزت أعماله بالكلاسيكية الخلابة في رصد أجمل الوقفات واللحظات في المشهد البصري، وتكثيف جماله عبر فلسفة اللون والتكوين.

 قد كان عملاقًا بخلقه وكرمه وحسن أدبه وسمته، هكذا عرفته عند اللقاء الأول به في صالونه التشكيلي (رؤى الفن) بمركز سلمى للفنون البصرية، وزوجته التشكيلية هند نصير؛ ثنائي تشكيلي فريد، وقصة فنية بديعة، وقفت على لوحاتهما دون أدنى معرفة بهما… ولا أتذكر إلا عبارات الترحيب المبهجة، وابتسامتهما المتلألئة، وتنقضي الأيام والسنون، ويتجدد اللقاء به في حضوره البهي السخي لمعرض (مبادرة فكر وفن ونشر الأول 2023) المقام في متحف (الفن التشكيلي السعودي) بجدة التاريخية؛ ليغمرنا بجميل قراءاته للوحات، ودعمه المعنوي السخي للمشاركات، فجاء الحوار مفعمًا بالحياة والبهجة عن المدن والتراث وحب الوطن.

من لوحات الطبيعة الصامتة لقطات ضوئية من فيديو مسجل (مدينة الطائف، ومدينة ينبع) حيث تحدث عنهما في حواري الثالث معه في مرسمه الواقع في منطقة جدة التاريخية، ومن أبرز لوحات البورتريه التي تم رصدها عبر صورة فوتوغرافية له احتفاؤه بالشخصيات التاريخية منذ نعومة أظفاره، ومن أولى تلك اللوحات بورتريه الملك فيصل رحمه الله تعالى، وصورة من أمراء ورؤساء الدول، ولعل آخر بورتريه له للدكتور عبد الحميد الرميثي في (معرض جمال الروح 2023) المنشور بمجلة فرقد الإبداعية.  

حواري معه في مرسمه بجدة التاريخية  على قناة اليوتيوب على الرابط أدناه، بدعوة كريمة منه والتقاطي لبعض لوحات المرسم، حيث تحدث عن فنه، ومرسمه، وذكرياته في الطائف، ورمزية المرأة في فنه، ومن جزيل كرمه إهدائي نسخة من كتاب (إبداع لا ينضب) برعاية من جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة، الذي شارك الفنان التشكيلي أحمد فلمبان في إعداده:

    https://shorturl.at/fnDEF

وأختتم مرثيتي لهذا العملاق التشكيلي بعبارات من ضياء للفنان التشكيلي نهار مرزوق، المدير السابق لفرع الجمعية السعودية للفنون التشكيلية بجدة عن بنجابي رحمة الله عليه:

“يعد الأخ والفنان هشام بنجابي أحد الأسماء البارزة في الإبداع التشكيلي في مدينته جدة، وفي المملكة العربية السعودية، فقد شكّل إلى جانب المبدع الراحل عبدالله نواوي التشكيلي الذي خلف صدى كبيرًا داخل وخارج السعودية، وخلف بنجابي عددًا من الأعمال التشكيلية من أعماله ومقتنياته؛ وهي نواة للتاريخ السعودي والعربي الكبيرين، وبوفاة التشكيلي هشام بنجابي فقدت المملكة العربية السعودية فنانًا وإنسانًا نادرًا واستثنائيًّا، وتشكيليًّا كبيرًا، ومبدعًا رفيعًا، وملتزمًا، وصديقًا وفيًّا للحراك التشكيلي بمختلف شرائحه الثقافية والاجتماعية.

إن الفنان هشام بنجابي ظل ملتزمًا ومتمسكًا بأسلوبه في الحياة، واستمرارية الدعم للفن التشكيلي والفنانين إلى أن غادرنا، تاركًا وراءه أعمالًا تشكيلية تشهد أنه أحد الفنانين ذوو الأعمال التشكيلية الرفيعة مرت من هنا، وتركت بصمتها القوية في مسار أعمال راقية ولوحات عالية المستوى.

الراحل كان أحد الوجوه البارزة في مشهدنا الثقافي السعودي المعاصر، بما كان له من حضور كبير، ووزن في الساحة الثقافية والأكاديمية والنقدية والإبداعية السعودية، وبما عرف عنه من موسوعية، وحضور لافت، وإسهام نوعي في المحافل، والمناسبات الثقافية والنقدية والأدبية والتشكيلية، وله أياد بيضاء عليها مجتمعة”. 

*فنانة تشكيلية وكاتبة من السعودية

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود