الأكثر مشاهدة

مراد ناجح عزيز* كانت تسيطر على (الجّد) نزعات إرث قديم، كأن يعيش كل أفراد الأسرة، …

رقبـة الجمل

منذ 6 أشهر

60

0

مراد ناجح عزيز*

كانت تسيطر على (الجّد) نزعات إرث قديم، كأن يعيش كل أفراد الأسرة، كبيرها وصغيرها معًا في بيت واحد، لا يملك من رفاهية الحياة ارتفاعًا أو تحيطه حديقة غنّاء بأزهارها، تملؤه الشقوق وتكدر صفو هوائه رائحة الرطوبة، يتساقط طلاؤه الجيري كثيرًا، تعلو نوافذه عمّا هو متعارف عليه الآن، كأنّه تراث لبناء تعاقبت عليه سلالة من بشر، إذ يقف شامخًا بهيئته، وما زادته خطوب الزّمان إلا تماسكًا وقوّة.

استكان الجميع طويلًا تحت وطأة العادات والتقاليد، وكأنّه عار أو حدث جَلل أن يجاهر أحد برغبته في بناء بيت منفرد. يتناقله المغرضون على موائد النميمة صباحَ مساءَ، يتجدد الحديث وتُختلق الرّوايات (طردَه والدُه مثلًا لكونِه تزوج على غير رغبته! أو أنّ الجد أصبح عاجزًا وفقد السيطرة على أفراد أسرته! أو أن زوجته أرغمته على العيش بعيدًا وأرادت أن تستقل عن زحام الأسرة!

(وفاة جدّي) كأنها رصاصة صيّاد، فرّقت سرب الطيور شرقًا وغربًا، إذ سافر أحدهم في رحلة البحث عن حياة أفضل؛ يمارس طقوس تأمّلاته في حرّيّة، حيث شرفته المطلّة على متّسع من الأوطان، لم يكبّلها ضيق ويأس، بينما استقل آخر في غرفة تحقق له بعض من الخصوصيّة، كأن يعود متأخرًا مثلًا أو يدخّن دون أن يُحاول إخفاء رائحة فمه ببعض حلوى النّعناع، لا سيّما وكانت عليه رقابة صارمة لا يستطيع تجاوزها دون أن يلقى من التوبيخ ما يكفي لإهانته أمام الجميع.

(رقبة جمل) كلمات أبي ساخرًا، في إشارة منه لضيق المكان، إذا ما تحدّث عن غُرفة ضجّت أنفاسها برجل وامرأة وثلاثة أطفال، فلا مُتعة في الحركة ولا راحة في نوم، لا سيّما ونحن دائمو الشِّجار؛ للفوز بتلك البُقعة الآمنة وسط الفِراش، إذا ما تسلل بوجهِه القبيح؛ زاحفًا على الحائط (بُرص) أو استمر تدافُعنا طوال الليل، ما يجعل فُرصة انزلاق أحدنا على الأرض كبيرة. إلى هُنا انقطع الخيط…

قلقًا تركت فِراشي؛ لعلّه الحنين إلى الدّفء واجترار الذّكريات، هو ما دسّ في رأس أطفال النّوم هجرتها، ليبدو المكان موحِشًا كبيئة خصبة ترتع فيها الهزائم.
ساعة الحائط تُشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، يُغالبني شعور بالاختناق، أدرت مفتاح الرّاديو، لا لشيء إلا لإحداث ضجيج ربّما، أتحسس من خِلاله وجه طفولة، وإن ضج ضيقًا بغُرفة تشبه (رقبة الجمل).

* كاتب من مصر 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود