350
0434
0605
0195
08
0116
0152
042
0256
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11782
04712
04363
174286
03948
0إعداد_أحلام شعبان
بدر بن عبدالمحسن رحمه الله، شاعر سعودي عُرف على الساحة السعودية والعربية، وهو أحدُ أبرز روَّاد الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية، له جهود كبيرة في كتابة قصائد غنائية رفيعة المستوى في أغراض فنية مختلفة، فضلًا عن شعره في تصوير الواقع الاجتماعي والسياسي للمملكة والعالم العربي. حتى لقِّب بـ (مهندس الكلمة)، غاب البدر من سمائنا وخلف وراءه إرثًا كبيرًا من الشعر ومن المسيرة الزاخرة بالإبداع والتفرد، ورثته قوافي الشعر وجواهر النثر، إلا أنها عجزت عن احتوائه قدرًا وإنجازًا، فرقد الإبداعية رصدت بعضًا من مشاعر الفقد وملامحًا من مسيرته الاستثنائية وأعماله الأدبية وبصماته الإنسانية، من خلال طرح المحاور التالية على رفاقه ومحبيه من المثقفين والأدباء والشعراء والمرتوين من عذب ينابيعه:
– ما تقييمكم للإرث الشعري والثقافي الذي تركه البدر رحمه الله؟
– اشتهر البدر بالقصائد الغنائية التي ارتبطت بالذائقة المحلية وحتى العربية والتي تركت صدى واسعًا على مستوى الساحة الفنية، ما الأدوات التي امتلكها رحمه الله لإنجاز ذلك؟
– بعد وفاته أجمع الكل على مسيرته الاستثنائية وسماته الإنسانية والتي دونتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ما السر في ذلك وهل سنرى انعكاسات إضافية مستقبلًا؟
– كلمة أخيرة.
* الصورة في نصوص البدر تُرى وتُسمع
يفتتح هذا الاستطلاع الشاعر عبد اللطيف آل الشيخ، مستشار رئيس مجلس الإدارة في مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضاري، وعضو مجلس إدارة الاتحاد السعودي للبولو بقوله:
– الإرث بحجم المورّث، كان الأمير بدر بن عبدالمحسن يملك ثروة فكرية ثقافية شعرية إنسانية، وشارك الجميع بهذه الثروة على مدار أكثر من خمسين عامًا، فهذا الإرث لا يتكرر وهو مُلك للأحفاد وللوطن، وبلا شك أن هذه التَرِكة غير مسبوقة لا حجمًا و لا كمًّا ولا كيفًا من ناحية الإبداع. ورغم رحيل البدر فإنه ترك لنا الدهشة كإرث لا ينتهي كلما أعدنا قراءة قصيدة أو سمعنا أغنية، نجد أن الدهشة التي تصيبنا اليوم مع أي نص مكتوب أو مسموع هي بنفس مستوى الدهشة التي أصابتنا عند سماع القصيدة أو الأغنية أول مرة، وهذا جزء من إعجاز البدر.
ومن الأدوات التي احتكرها البدر ولم يكتفِ بامتلاكها في الفكرة التي تأتي ولا يعلم هل ستكون لوحة أو قصيد!
لذلك نجد أن (الصورة) في نصوص البدر تُرى وتُسمع بشكل غير مسبوق، البدر رحمه الله كان يرسم بالكلمات.. كان يرى ملامح القصيدة قبل كتابتها، وكلما كتب؛ وضحت الملامح حتى تتجسد بشكل كامل كقصيدةٍ تملؤها أفكار ملونة بريشة الرسام.
– بعد وفاة بدر رحمه الله بقي بدر الإرث.. بدر المرجعية.. بدر المبحث والباحثين.. بدر المحفور في وجدان كل الأجيال فهو شاعر الأجيال.. حتى الأجيال المقبلة الذين وصلهم قبل أن يولدوا وبصم على وجدانهم بالعشرة.
وأبرز ما جاء في حوارنا رأي الأستاذ إبراهيم الشتوي مؤلف كتاب “مسارب ضوء البدر“. حيث قال:
ترك لنا الأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله، إرثًا أدبيًّا زاخرًا فاخرًا، وتجربة شعرية غنية بكل اتجاهاتها وفصولها وتفاصيلها ومحاصيلها، بكل إسقاطاتها وتشكيلاتها ورموزها وإيحاءاتها، ما أتاح لها الديمومة والاستمرارية، والاخضرار الفني والانهمار الإبداعي والاستمرار المدهش المنعش في كل حقولها ومواسمها وسماتها وسمائها، لقد مثل الأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله، بهذا الإرث الشعري والأدبي، مدرسة فكرية كبرى متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة شعرية مترامية الأطراف والرؤى تاركًا بصماته المؤثرة والمثرية والمثمرة على خارطة الشعر، وقارعة الوعي، ليتتبع المتذوقون مسارب ضوء تجربته ويتعلم المبتدئون من أساليبه ورؤاه وتراكيبه في بناء المنجز الشعري وكيفية التميز والتفرد لجذب المتلقي لفضاء النص، ويعتبر الأمير بدر رحمه الله من أهم رواد النص الشعري الحديث؛ لذا أصبح أيقونة ثقافية في خارطة الأدب عمومًا والشعر خصوصًا، كما أنه استطاع أن يحافظ على المورث وأصالته رؤية ورؤيا، ولم يقطع صلته به، في علاقة فنية عميقة أنيقة معنى ومبنى ومغنى.
تعتبر لغته البيضاء وأسلوبه السهل الممتنع، وشفافية المفردة وعمقها العاطفي واللغوي والتصويري، من أهم الأدوات الفنية التي استخدمها الأمير بدر بن عبدالمحسن رحمه الله، لتؤثر بالمتلقي وتحرك مشاعره وتعبر عن وأحاسيس، وتعبر بالنص المغنى إلى فضاءات الوطن العربي، ليحتل مساحات مدهشة في قلوب عشاق الفن وتأسر وجدانهم وتروي عاطفتهم.
وتعتبر إنسانية الأمير بدر رحمه الله، وبساطته وعفويته، جزءًا لا يتجزأ من تجربته الشعرية المتميزة والمتفردة، وغير المكررة أو مستنسخة من تجارب غيره من الشعراء، فامتلك بكل هذا حب الجميع وأسر قلوبهم شخصًا وشعرًا؛ وبكل تأكيد ستحافظ هذه التجربة الشعرية والمدرسة الفكرية على طاقتها الفنية وبطاقتها التعريفية أزمنة مديدة ودراسات عديدة، تستكشف المزيد من مكنوناتها الفنية وأدواتها الإبداعية وأساليبها الشعرية.
شكرًا لكم على هذا الضوء غير المستغرب من فرقد إبداعكم، لإثراء الحراك الثقافي والأدبي.
* الـبدر شـمس مـن شموس الثقافة
ويروي لنا الشاعر الغنائي الدكتور صالح الشادي تجربته في مدرسة البدر الشعرية المتميزة بقوله:
لا شـك أن الأمير بدر بن عـبد المحسن الله يرحـمه، تـرك خـلفه إرثًـا شـعريًا وثـقافـيًا وحـضاريًـا، تاريخًا يمتد إلى أكـثر مـن 40 أو 50 عـام، ارتـبط بالـكلمة وارتـبط بـالمـشاعـر والإحـساس وارتـبط بتحـديـث الأغـنية وتحـديـث المـفردة الـشعبية فـي لـغة الـشعر، إضـافـة إلـى بـث صـور جـديـدة ومسـتحدثـة ومـتزامـنة مـع الـواقـع والـتغير الـحضاري الـذي عـاشـته بـلادنـا، والأهـم أنــه تـرك لــغة شــعريــة أجــمع عــليها شــرق وغــرب وشــمال وجــنوب المــملكة، وهــذا شــيء مهم جدًّا، الــلغة الــشعريــة المــوحــدة، أيــضًا الــلهجة الــبيضاء المــوحــدة الــتي اســتطاع الــبدر أن يــقدمــها فــي صــورة مــتميزة ومــختلفة مــن خــلال الــكثير مــن الأعــمال الــغنائــية، قــدمــها بــصوت طــلال مــداح الله يــرحــمه قــبل 50 عــامًــا، أو دون ذلــك وكــانــت الــرحــلة الــطويــلة مــع الــكلمة مــع الــفنان محـمد عـبده مـن خـلال الـتغيرات فـترة السـتينيات والسـبعينيات. فـي تـلك الـفترة قـدم بـدر بـن عـــبد المـــحسن تـــحولًا حـــقيقيًّا وقـــدم تـــغييرًا حـــقيقيًّا فـــي لـــغة الأغـــنية ونـــقلها مـــن الأغـــنية المـذهـبية إلـى الأغـنية “المـكبلهة” وهـذا واضـح فـي أغـنية “لا تـرديـن الـرسـايـل” الـتي نـزلـت فـي بـدايـات السـبعينات. أيـضًا الـصور والـخيال المـجنح والـفلسفة الـشعريـة، خـاصـة الـتي قـدمـت فــي مــنتصف الــتسعينيات ومــنها “أرفــض المــسافــة والــسور والــباب والــحارس” “ولــو حــبت النجمة نهر”؛ والكلام يطول في هذا الموضوع ويحتاج إلى أبواب وصفحات وكتب…
الـبدر بـن عـبد المـحسن بـالنسـبة لأدواتـه كـان يـرتـبط بـثقافـة عـظيمة وكـان مـطلع عـلى الثـقافـات غير العـربـية وعـلى الـتجارب الـعربـية فـي كـتابـة الشعر، وعـلى مـا كـتب ومـا تـرجـم مـن الـشعر الـفرنـسي والـشعر الإيـطالـي والـشعر الإنجـليزي، وكـان ذا ذائـقة مـرتـفعة جـدًا، هـذه الـذائـقة جــعلته يحــدّث ويجــدد فــي الــقصيدة الــغنائــية بــكل ثــقة؛ لأنــه اســتند إلــى تــجارب حــقيقية وواعــية، وكــان صــاحــب مــدرســة مــختلفة ومــتميزة، واســتطاع أن يــعلمنا جــميعًا الجــرأة، وأنــا أعتبر نـفسي واحـدًا مـن الأشـخاص الـذيـن تـعلموا واسـتفادوا كثيرًا مـن تجـربـة البدر، سـواء مـن خـلال قـراءة نـصوصـه أو مـن خـلال الـتوجـيه المـباشـر الـذي حـظيت بـه مـنه رحمه الله، أو مـــن خـــلال الـــتشجيع الـــذي كـــان دائـــمًا يـــقدمـــه للجـــميع وأنـــا مـــنهم الله يـــرحـــمه ويـــغفر لـــه.. وتـعتبر مـسيرتـه هـذه وعـلاقـته بـالإنـسان الـعربـي والخـليجي والـسعودي بـالـذات عـلاقـة لـن تـنقطع؛ لأنه اسـتطاع أن يـدخـل فـي وجـدان وعـاطـفة كـل الـشعب الـسعودي وارتـبط بـمشاعـرنـا وبـأحـاسـيسنا، وبـمواقـف حـياتـنا وبـتحولات حـياتـنا مـن وضـع إلـى آخـر وتـحولات مـرحـلية في أعمارنا منذ فترة الطفولة المراهقة، وصولًا إلى مراحل النضج وحتى الشيخوخة…
كثيرًا مــا كــانــت قــصائــد وأغــنيات الــبدر الله يــرحــمه رفــيقة لــه وكــانــت نــديــمة لــه وارتــبطت ذكـريـاتـنا بـالـكثير مـن هـذه الـنصوص، وأحـيانًـا نسـتمع إلـى أغـنية أو نـص نجـد بـأن الـذاكـرة عــادت إلــى فــترة مــعينة إلــى ذكــريــات مــعينة إلــى أحــداث مــعينة شــكلت جــزءًا مــن تــاريــخنا وحـــياتـــنا وسجـــلنا الـــنفسي، ولا شـــك أن الـــبدر ســـيبقى قـــيمة ورمـــزًا وشـــمسًا مـــن شـــموس الـثقافـة الـعربـية والـسعوديـة، وهو مجـدد حـقيقي وأسـتاذ أسـتاذ بـكل مـا تـعنيه الـكلمة، الله يـرحـمه ويغفر له.
* الـبدر حـالـة إبـداعـية مـتفردة
ولـلشاعر والإعلامي الكويتي نـاصـر السبيعي، المسـتشار فـي مؤسـسة الأمـير بـدر بـن عـبدالمـحسن الـحضاريـة، وجهة نظره الخاصة حول تفرد البدر، حيث قال:
الحديث عـن البدر ليس بـالحديث عـن شاعـر مبدع كبير افـتقدته ساحات الشعر وافـتقده جـمهور الـشعر؛ لـكنه حـديـث عـن حـالـة شـعريـة لـم تحـدث سـابـقًا في تـاريـخ الـشعر الـعامي، وقـد لا تـتكرر كـذلـك في المسـتقبل الـقريـب، لـذلـك لـن يـكون الإرث فـقط بـما تـركـه مـن قـصائـد ومسـرح شـعري لا يشـبهه أحـد أو أعمال غـنائـية تـغنت بـها الأجيال؛ بـل الحـديـث يـجب أن يكون عن هذه الحالة الإبداعية المتفردة التي قد لا تتكرر.
الأمـير بـدر الإنـسان لـم يـنفصل يومًا عـن شـعره طـوال مـسيرتـه الـشعريـة الـطويـلة؛ فـكل مـــا يـــكتبه مـــن مـــثالـــيات وأخـــلاقـــيات كـــان فـــعلًا يـــتمثل بـــها فـــى الـــواقـــع؛ لـــذلـــك أحـــبه الـــناس وافـتقدوه والـتصقوا بـه، حـديـثه كـان يشـبه شـعره كثيرًا ولـقاءاتـه الـكثيرة في الـقنوات تشهـد على ذلك، بل إن الجمهور الذي لا يهتم بالشعر وليس من أولوياته كان يتفاعل مع ما يقول من آراء وفلسفة حياتية؛ لذلك كان وداعه وداع الشاعر الإنسان والقدوة، أمـــا عـــن الـــكلمة الأخـــيرة، فـــليس هـــناك كـــلمة أخـــيرة عـــن الـــبدر، بـــل أحـــاديـــث ســـتمتد لأجـــيال وأجيال تتحـدث وتـعيد كـل مـا خـطه وتحـدث بـه هـذا المـدرسة والـشاعـر الـظاهـرة.
* أحبَّ وطنه فأحبه الوطن وخلده
ويضيف الأديب محمد جبر الحربي، المستشار الخاص لصاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن رأيه بقوله:
لا أستطيع تقييم شعر الأمير بدر بن عبدالمحسن في هذه العجالة، والإجابات المختصرة، كما أنني محب وصاحب عمْرٍ مقرّب، كما كنت مستشاراً لسموه، فشهادتي فيه مجروحة، لكن لو تمعَّنا لو جدنا أن تقييمه جاء من وطنٍ عظيم، حيث أجمعت القيادة والشعب على حبه على مدار أكثر من خمسة عقود، ومن النادر في الشعر العربي، أو العالمي أن تتفق القيادة والشعب على حب وتقدير مبدع..!
لقد ترك البدر إرثا ضخماً في مجالات متعددة، الشعر الشعبي، والأغنية (أكثر من 500 أغنية)، والأفلام، والاستعراضات، والمسرح، والفن التشكيلي، وحتى كتاباً بالفصحى اسمه “ومض”، نعمل على إصدار طبعته الثانية إن شاء الله، بعد أن اختار البدر المقاطع العجيبة المدهشة بالعربية الفصحى من “ومض” في طبعته الأولى.
وأعظم من ذلك هذا الحب الذي لمسناه من جمهوره العريض عبر العالم العربي، وهذا الشعور بالفقد المرير، وهذا الدليل على مكانته العالية في القلوب.
ومع أن وزارة الثقافة تكفلت مشكورة بطباعة مجلد أعماله الشعرية في خمسة دواوين، بالعربية، والإنجليزية، والفرنسية، فإن هنالك عشرات القصائد التي لم تكن ضمن هذا المجلد، منها قصائد المراثي وهي كثيرة، والأفراح وهي كثيرة أيضا، وقصائد أجَّلها، ولم يخترْها البدر لهذا المجلد. كذلك معظم “الأوبريتات” التي لم تُدوَّن أو تجمع في إصدارات، والقصائد التي كتبها ولم تنشر بعد، وهي كثيرة وجديدة ومختلفة، كذلك هنالك فيلم عن الملك عبدالعزيز (1902)، ومسرحية حي الياسمين، وعطش، وأفكار وأعمال متنوعة أخرى. ولوحات تشكيلية، وأغنيات تم تلحينها ولم تظهر للنور بعد.
لقد أحب بدر بن عبدالمحسن الناس، كل الناس والطبيعة والصحراء والوطن، فكتب لهم وعنهم بكل تواضع وتبسيط وتقريب وترغيب، فأحبه الوطن وخلده.
وللأسف فأن التقييم النقدي يأتي متأخرا لدينا، وأتوقع أن نرى دراسات لا حصر لهذا المبدع العبقري بعد وفاته.
ارتبطت قصائده بالذائقة المحلية وحتى العربية ومن ابرز الأدوات التي امتلكها رحمه الله ،الإبداع ثم الإبداع ثم الإبداع، أي الحرص على الجديد والمختلف والمدهش، والتجديد على غير مثال سابق، والتبسيط عن عمق لا عن سطحية، والعمل الجاد الشاق، والإشراف على أدق التفاصيل، وتصور اللحن، ورسم القصيدة في خياله، واستخدام الصور والأخيلة، والرغبة في إدهاش الناس وإسعادهم، والقلق الذي يصاحب كل ذلك.
كان البدر يؤمن أن الإبداع عملٌ شاق مرتب يحتاج إلى جهد ووقت ودقة واهتمام بالتفاصيل، وليس مجرد موهبة وإلهام.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك ثقافة البدر الواسعة، وقراءته للتاريخ والسير، والأدب العربي الفصيح شعراً وسرداً، ومتابعته للأعمال العربية والعالمية بالعربية والإنجليزية، واطلاع على المدارس الأدبية والفنية العربية والعالمية.
وقبل كل ذلك حبه لله وإيمانه العميق، ثم حبه لوطنه وأهل وطنه، وتاريخ وحاضر وطنه، وحرصه على مستقبله، ومعرفته بكل ذلك بشكل مدهش.
-السر بعد وفاته التي أجمع الكل على مسيرته الاستثنائية وسماته الإنسانية والتي دونتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي؛ من أحبه الله حبب فيه خلقه، والناس ترثي مبدعا وتبكي عليه لأنه كان منهم وفيهم، عبر عن مشاعرهم، وأحبهم وكتب لهم بحب فأحبوه، وخلد وطنه بقصائد وأغنيات خالدة فرفعه الوطن عالياً.
وقد كنت في حديثٍ مع ابنه البار الأمير خالد بن بدر بن عبدالمحسن وقال بالحرف الواحد : “أنا لن أستطيع أن أكون أبي، لكنني حريص كل الحرص على استمرارية أعماله، والسير على خطاه، وتنفيذ الأعمال التي تركها، والاهتمام بإرثه الضخم”.
وأنا واثق أننا سنرى أعمالاً رائعة ومتنوعة للبدر تخرج للنور، واهتماماً أكاديمياً ونقدياً وإعلامياً، وإنتاجاً متزايداً لأعماله إن شاء الله.
وفي الختام إن حزني الشديد على فقيد الوطن وبدره الأمير الشاعر المغفور له بإذن الله بدر بن عبدالمحسن، والفراغ الكبير الذي تركه في روحي وفي حياتي، لن يعطِّلني عن الاستمرار في الاهتمام والعناية بأعماله، والكتابة عنها وعنه إن شاء الله، وأدعو جميع ذوي الاختصاص والعلاقة لفعل ذلك.
*البدر صانع الهوية المختلفة للشعر الغنائي في المملكة
ويشيد الإعلامي جابر القرني والمستشار الإداري في وزارة الحرس الوطني بالتجربة الشعرية الأكثر تأثيرًا بقوله:
الإرث الشعري والثقافي الذي تركه البدر رحمه الله يعد إرثا عظيما ومتفرداً وهو مثل الإرث الإنساني والأخلاقي العظيم الذي تركه الراحل الكبير الذي يعد صانع التغيير الأول في الاغنية السعودية والذي رسم شكلا جديدا وهوية مختلفة للشعر الغنائي في المملكة فهو مهندس الكلمة وهو التجربة الشعرية الأكثر تأثيرا على جميع المستويات. فقد غامر البدر رحمه الله في منتصف الستينات الميلادية بكتابة شكل جديد ومختلف للأغنية السعودية عن الشكل السائد والمألوف في تلك المرحلة وما سبقها فقدم رائعته الشهيرة “عطني المحبة” التي لحنها وغناها صوت الأرض الفنان الراحل طلال مداح رحمه الله وهو في أوج شهرته مما ساهم في ذيوع وانتشار اسم بدر بن عبدالمحسن واختلافه في كتاباته عن مجاليه من كتاب الشعر الغنائي. ثم جاء بعد هذا العمل سلسلة من الأعمال العاطفية والوصفية والوطنية مع عدد من المطربين والملحنين من اهمهم القطبين الكبيرين طلال مداح ومحمد عبده والملحن الكبير سراج عمر وغيرهم من الأسماء اللافتة في المشهد الفني السعودي واستمرت عطاءات بدر بن عبدالمحسن وتصاعدت نجاحاته وقدم الكثير والكثير من الأعمال المميزة والناجحة وفي مقدمتها الأعمال الوطنية مثل الأوبريتات والأغاني الوطنية التي تجئ الاغنية الشهيرة ” فوق هام السحب” في مقدمتها و”الله أحد “و”حدثينا” وجميعها كانت مع الفنان محمد عبده و “عز الوطن ” وصرخة “و “عشب الفخر ” مع الفنان طلال مداح
أما الأوبريتات والأناشيد الوطنية فقد قدم في مهرجان الجنادرية نشيد عز الوطن عام 1989 ثم الله البادي عام 1990 ثم وقفة حق عام 1992 ثم ملحمة فارس التوحيد عام 1999 ثم وطن الشموس عام 2009 ثم أئمة وملوك عام 2018.
الأدوات التي امتلكها بدر بن عبدالمحسن وارتقت بالذائقة المحلية والعربية كان في مقدمتها الوعي والمخزون الثقافي الكبير الذي كان يمتلكه جراء اطلاعه الواسع وعمقه المعرفي العالي فوالده الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز رجل تنويري وشاعر وأديب ولديه مكتبة عامرة بالكتب المنوعة والقصص والروايات والمراجع في كل المجالات ومن شتى الثقافات وهذه كلها كانت المعين الذي نهل منه بدر قراءاته الأولى التي شكلت وعيه وذائقته ثم كانت روح المغامرة والتجريب التي تملكت بدر وتمكنت منه ليأخذ كتابة القصيدة والأغنية إلى سياقات مختلفة عن السائد والمألوف واصراره على محاكاة التجارب والمدارس الشعرية العربية في كتابة الاغنية وهو ما جعله يضع البصمة الحقيقية الاولى للأغنية السعودية لدى المتلقي والجمهور العربي. ثم جاءت الاستمرارية بعد ذلك وهي برأي من أهم العوامل الرئيسية في مسيرة البدر وهي ” الاستمرارية ” فقد ظل على مدى ما يقارب 60 عاما حاضرا ومتجددا ومدهشا في نتاجه الغنائي والشعري وحتى في قصائده النبطية .ويجئ عامل تعدد الأغراض التي كتب فيها البدر بإجادة وتمكن ومقدرة عالية كأحد العوامل الرئيسية في مسيرة بدر بن عبدالمحسن فقد كتب في المدح والوصف والرثاء والفخر وفي حب الوطن القصائد والنصوص المبهرة الفارقة كما أن أهم ما ميز بدر عن غيره من الشعراء قدرته العالية على كتابة القصيدة النبطية وكتابة الأغنية الحديثة بنفس شعري مختلف والوصول بها إلى مستوى عال من الإبداع والصور الجميلة.
بدر بن عبدالمحسن شخصية استثنائية شديدة التفرد ؛ ليس على المستوى الإبداعي فحسب وإنما على المستوى الشخصي والإنساني، فقد عرفته منذ 35 عاما وواكبت نجاحاته وحضوره المميز وكان كل ما يتحقق له من إنجازات ومكانة تزيده تواضعا وبساطة وقرباً من الناس ولعل حالة الحزن الشديدة والمؤثرة التي عاشها الوطن بكل فئاته وشرائحه بعد وفاة الأمير بدر تجسد حب الناس واعتزازهم بالراحل وتبرهن على حجم التأثر والتأثير الذي تركه في وجدان الجميع.
وفي الختام كلمتي الأخيرة، الأمير بدر رحمه الله شخصية رائعة جدًا ومتميزة بكل المقاييس ويعلو قيمة الوفاء والتقدير والجانب الإنساني لهذا فقد كان فخورًا ومعتزًا بتكريم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله والمتمثل في منحه وشاح الملك عبدالعزيز عام ٢٠١٩م ، تقديراً وتكريماً لدوره العظيم في خدمة وطنه في الجانب الثقافي والابداعي وكذلك تكريمه من وزارة الثقافة بتنظيم أمسية لأعماله في اليونسكو وكذلك تكريمه بليلة استثنائية من الهيئة العامة للترفيه.
وأتمنى أن تكون هناك مبادرة من وزارة الثقافة بتخصيص جائزة تحمل اسمه تخصص للأعمال الإبداعية وأن تتم المحافظة على إرث البدر وما تركه من أعمال خالدة وعظيمة والاعتناء بمؤسسة بدر بن عبدالمحسن الحضارية لتكون رمزاً للإبداع والفن تحمل اسمه وتحفظ تاريخه الجميل وتكون جزءًا من المؤسسات الثقافية السعودية الفاعلة في المشهد الثقافي السعودي.
* سيحنُّ الـعودُ والـكراسُ والـقلمُ للبدر المفتقد
وللأديـب والناقــد رائـد الـعمري، من الأردن، رئـيس اتحاد الـقيصر للآداب والــفنون رأيه الممجد لعطاء البدر، حيث قال: مـن الـصعب أن تـكتب عـن شـخص لا تـعرفـهُ ولـم تـعايـشهُ، لـكِنك عـايشـت كـلماتـهِ وأحـاسـيسهِ مـــن غـــيرِ قـــصدٍ مـــنكَ أو مـــنه، فـــمتعةُ الـــكلمةِ تحـــدثُ فـــي نـــفسيَ الـــلوّامـــةِ ذائـــقةً لا تـــقبل إلا الجميل المــتينَ، وأنــا عــندمــا أســمعُ أغــنيةً مــا مــثلًا أعــيشها إن كــانــت تســتحق، وإلا فــصوتُ المـوسـيقى يـغلب عـلى صـوت الـكلمة، والـشاعـرُ المـرحـومُ بـإذن الله، الـبدر كـانَ مِـمن يسـرِقُـكَ مـن نـفسكَ لـتتأمـلها مـن خـلال كـلمات قـصائـدهِ وتـرحـل مـعهُ إلـى هـندسـةِ الـحب الـتي يـرسـمها لــــكَ، فــــيجعلُكَ رقــــيقًا هــــيِّنا لــــيِّنا لــــبعض الــــوقــــت مــــع الــــشموخِ الــــذي لا يــــمكنُ لأيٍّ كــــانَ أن يسـتبيحهُ ويسـتعلي عـليك، وإن تـغنَّى بـالـوطـنِ زادَ انـتماءك لـهُ دونَ أن تـشعرَ وألـبسكَ ثـوبَ الإخـلاص وعـرَّفـكَ عـلى الـوطـنِ بـما فـيهِ، كـأنـكَ كـنت غـريـبا عـنهُ والـيومَ خُـلقت َ فـيهِ مـن جـديـد…
فـرحـل الـبدرُ دونَ أن نـلقاهُ شـخصيًّا أو أن نـسمعهُ وجـهًا لـوجـهٍ، وبـقيت قـصائـدهُ خـالـدةً فـي نفوسنا تفضحُ سرَّهُ وسرَّنا وتتعدى بينَ الأجيال من سبقونا ومن سيلتحقُ بِنا…
وعـن أدوات الـبدرِ وتـكنيكاتـهِ الـشعريَّـةِ وأسـلوبـهِ الـخاص الـذي جـعلهُ مُـميَّزا ومَـقصداً لـكبارِ الـــفنانـــينَ الـــعرب لـــكي يـــتنافـــسوا فـــيما يـــكتب مـــن صـــدقِ الـــشعورِ، فـــكانَ الـــبدرُ يســـرَدَ لـــنا الـقصيدةَ بـأحـداث مـدهـشةٍ تـسجنكَ داخـل كـلماتـها مسـتسلمًا لمـوسـيقتها الـخاصـة، تـدورُ فـي أفـلاكـها المـحكمةِ، وصـناعـتها السـلسةِ الـقريـبةِ مـن الجـميعِ، وفـلسفتها الـواضـحةِ المـفهومـةِ، مـوصـلًا لـكَ مـا يـريـدُ إيـصالَـهُ دونَ عـناءِ، فـالـكلمةُ وحـدُهـا بـرهـانٌ عـلى انـصياعِـكَ لـلفكرةِ الـتي بَــنَت حــولــكَ حصنًا تــدورُ بــينَ أســوارهِ، وتخــرجُ دفــائــنَ نــفسكَ وخــبايــاهــا مــع سحــرِ الــكلمةِ الـتي أسـدلـت السـتارة عـن مـشاعـرِك وتـشعرُ بـأنَّ الـبدرَ يـبوحُ عـنكَ وعـنها وعـن الـوطـن، وحـتى فــي الحــزنِ والــفراقِ يسحــرُّك بــنفس الــطريقِ والأســلوب، وكــيف لا؟ وهــو مــن فــصحَ الــعامــيَّةَ وعـوالمـها لـتصبحَ لـغةَ الـعاشـقينَ فـي مـختلف الأقـطارِ.. نـاهـيكَ عـن الـرمـزيـةِ والـدهـشةِ وحـسنِ الـتنقلِ بـين قـوافـي الـشعرِ لـتكونَ الـكلمات كـلها لـوحـةً فـنيَّة رائـعةً، وكـيف لا، ونـحنُ نـعلمُ أنَّ البدرَ بدأ فنانًا تشكيليًّا وصنعتهُ إظهارُ الجمالِ لونًا وكلمة…
ومــن الــغريــب رغــمَ شهــرةِ قــصائــدِ الــبدر رحــمهُ اللهُ، لكنه لــم يــأخــذ حــقَّهُ كــشاعــرٍ مــجيدٍ مــن الـدراسـات الأدبـيةِ والـنقديـة والأبـحاث الـتي تـتناول غـزارة شـعرهِ وهـندسـته لـه إلا فـي الـيسيرِ منها، وهـذا بـرأيـي مـظلمةٌ لأي شـاعـرٍ أو أديـب مـثقف فـي حـياتـه.. وللحقِّ أقولُ بـأنَّ الأقـلامَ جــميعها بــدأت بــعدَ رحــيلِ الــبدرِ بــالــتداعــي لإنــصافِــهِ وإنــصاف مــا كــتبَهُ وخــلَّدهُ، وهــنا أعــودُ لـقول أبي فـراس الحـمدانـي: “سـيذكـرنـي قـومـي إذا جـدّ جـدهـمُ، وفـي الـليلة الـظلماء يـفتقد البدرُ”.
فـعلًا أيُّـها الـبدرُ سـيفتقدك الـقومُ بـعدَ الـرحـيلِ، وسـيفتقدونَ بـديـعَ كـلماتِـكَ وعـذوبـتها، وسيحنُّ الـعودُ والـكراس والـقلمُ لمـا كـنت تـنزفـهُ مـن حـروف ومـعانٍ عـميقة، وسـتبقى لـنا كـلماتـك تشحـذُ الــهممَ وتـــذكـــرنــا فـــي مـــتعةِ وسحـــرِ الخـــلودِ لــكلمات ذات مـــعنى، فـــي زمـــنٍ بــدأ يـــفقدُ الـشعرُ المـــغنّى هـــيبتَهُ ورونـــقهُ وجـمالـــيتهُ الــتي ورثـــها جـــيلنا.. فـنحنُ لا نسـتسيغُ إلا الـعذب، ولا نرتشف إلا الشهد.
* البدر أسكن القصيدة قصرًا
ويؤكد الأستاذ طارق المالكي، عضو نادي وسم الثقافي عجزه عن التقييم العادل لإرث البدر بقوله:
عــن أي تــقييم أتحــدث، وشــعر الــبدر يــحضر إذا اشــتعلت جــمرات الــشوق فــي قــلوبــنا، وإذا أضـاءت أنـوار الـفرح مـن وجـوهـنا، وإذا ضـاقـت دوائـر الأرض مـن حـولـنا. فـإرث الـبدر لا أعـده أدبًا وحسـب، بـل متحـدثًا عـاطـفيًّا صـادقًا بـاسـم الإنـسان فـي فـرحـه وتـرحـه، ووطـنه وغـربـته، ونهاره وليله، وشبابه وشيخوخته، أرى أن الــبدر فــي الــثمانــينيات المــيلاديــة، عــلى وجــه التحــديــد، تــحول مــن شــاعــر كــبير إلــى رائـد مـدرسـة التجـديـد، فـقد مـزّق الـخيمة الـبالـية الـتي كـانـت تـعيش فـيها الـقصيدة، وأسـكنها فــــي قــصرٍ حـديث وجميل، قصرٍ بـوابته الابـتكار، وسـقفه الخيال، وواجهــــته الــــصدق، وحـديـقته الـقصة، وغُـرفه الإحـساس. والأمـر لا ينطبق عـلى الـقصائـد، بـل يـمتد إلـى الـنثر، فللبدر نثر جميل جدير بالتذوق والتأمل، ومرسوم بملامح البدر، كما هو شعره.
عــندما يـجيد الــشاعــر التعبير الـصادق عــن عــواطــف الإنــسان بـأســلوب إبــداعــي وإحـساس جـارف وخـيال واسـع، كـما كـان الـبدر، فـسوف يـتحول الـشاعـر شـاء أم أبـى إلـى رمـز، وعـندمـا يـتحول إلـــى رمـــز يـــحوز اهــتمام الـناس لـيس في شـعره وحسـب، بـل حتى في أخلاقـه وإلقائه وظهوره الإعلامي وأزيائه وكلماته ونظراته.
بـالإضـافـة إلـى ذلـك، كـان الـبدر يـتمتع بـأخـلاق أمـير وروح جـميلة وقـلب طـيب، كـل ذلـك جـعله في قلوب الناس، ودعاء له على ألسنتهم. وأرجــو مــمن عــرف الــبدر عــن قــرب وعــايــشه أن يـحكي لــنا قــدر الإمــكان عــن شــخصية الــبدر، فأنا على يقين أن بعض اللآلئ لا تزال كامنة في المحار.
أرجــو أن يــلد الإبــداع بــدرًا آخــر، كــنور الــبدر عــندمــا كــان يــتدفق نهــرًا لؤلؤيًّـا عــلى ســطح البحر، وفي قلوب العشاق، وأعين السمار.
* كلمات البدر تتسلل إلى النفوس دون استئذان
ويعلق الأسـتاذ: عـلي بـن أحـمد الـزبـيدي، عضو اتحاد القيصر للآداب والفنون، على محاور القضية بقوله:
إنّ الحـديـث عـن قـامـة أدبـية مـتفردة قـطعت عـلى نـفسها عهـدًا بـأن لا تـشابـه غـيرهـا (وعـر المـسالـك بـعيد الـشأن)، فـالمـتأمـل لـدواويـن الـبدر وقـصائـده الـتي تـربـو عـلى 250 قـصيدة يـقف مــذهــولًا أمــام كــمّ المــعانــي والأخــيلة والمــفردات الــتي طــوّعــها الــبدر لــتترجــم أحــاســيسه، وكــأنّ ريــشة الــفنان الــتي أســرتــه فــي بــدايــة شــبابــه قــد ألــقت بــظلالــها عــلى شــاعــريــته فــجعلته يتحسس الكلمة ويلوّنها ويصبغها بروحه المرهفة.
الـبدر رجـــل التجارب، فـقد كـتب فـــي الفخـــر والمـــدح والـــغزل والـــشوق والـــوصـــف والـــوطـــن والحنين والشكوى، وتـعاون الـبدر مـع مجـموعـة كـبيرة مـن الـفنانـين مـن داخـل الـسعوديـة وخـارجـها دلـيل عـلى ســـهولـــة ألـــفاظ قـــصائـــد الـــبدر، وحـــفظ الـــناس لـــقصائـــده وتمثلهم لـها فـــي كـتابـاتهم ومـجالـسهم يدل دلالـة واضـحة عـلى أنّ الـبدر كـان حـريـصًا عـلى أن يـنتقي لـقصائـده ألـفاظًـا تــلامــس الــوجــدان الــعربــي قــبل الــسعودي، فــقد كــتب قــصائــده بــحس عــاشق مــرهــف، وألــسن الـقصيدة وفـككها مـن عـموديـتها لـيصبح مـهندس الـكلمة بـاقـتدار، حـوّل الـبدر الـقصيدة إلـى قــصة نــلمسها ونــعيش تــفاصــيلها، دون كــلماتــها فــغدت لــحنًا دون لــحن، ضــخّ فــيها روحــه فـتمايـلت وأسـرت كـل مـن قـرأهـا أو سـمعها، كـانـت قـصائـده تشـبه الـسينما فـي الانـتقال مـن فـكرة إلى فـكرة سـتدهــشك تــلك الــلفتات فــي مــعانــيها ،الــبدر الــذي وثق الــكلمة ونــقلها مــن بـيئتها الـبدويـة إلـى فـضاء الـعالمـية، ولـم يـأت لـه ذلـك مـن فـراغ؛ فـالمـتأمـل لـسيرتـه الـشعريـة يـعلم أنّ الـبدر بـدأ تـعليمه فـي الـسعوديـة ثـم أكـمل تـعليمه فـي مـصر وانـتقل إلـى بـريـطانـيا والـــولايـــات المتحـــدة الإمـــريـــكية لـــيكمل تـــعليمه فـــيهما، وكـــان الـــبدر يـــنغمس فـــي الـــثقافـــات; ليخـــرج مـــنها أجـــمل مـــا فـــيها، الـــبدر كـــان يـــملك ثـــقافـــة واســـعة مـــن خـــلال بـــيئته الـــشعريـــة وقـراءتـه المسـتمرة واطـلاعـه الـواسـع لـكل جـديـد ومـعاصـرتـه لأبـرز الـشعراء، وذلـك سهـل عـليه انتقاء المفردات التي يمكن لأي قارئ أن يفهمها دون عناء. مـن يـعرف الـبدر عـن قـرب يشهـد لـه بـدمـاثـة خـلقه وحـسن تـعامـله مـع الـناس، ومـن يـقرأ لـلبدر يـــحس بـــتلك الـــروح الــشفّافّـــة المـتسامـية الـباحـثة عـــن الهــدوء والـسكينة والمتسامحة مـــع نـفسها ومـع الـناس، كـلمات الـبدر تتسـلل إلـى الـنفوس دون اسـتئذان وإذا خـالـطتها كـانـت كالـبلسم لجراحها، كان الــبدر يتحــدث بـلسان الــناس صــغيرهــم وكـبيرهـم فقيرهم وغــنيهم، يـعيش مـعهم الـفرح والـترح تـرقـص كـلماتـه فـي أسـماعـهم إذا فـرحـوا، وتـربّـت عـلى قـلوبـهم إذا مـــسهم الحـزن؛ لــذلـك افـتقده الـناس وهـرعـوا يـكتبون عــنه فـــقد فـــقدوا قـــلبًا كـــان يـــنبض بــمشاعــرهــم، ولا شــكّ أن هــذا ســيفتح بــابًــا لــتقليد الــبدر ومــدرســته، كــما ســيساهــم فــي حــركــة النقد والتأليف لمن سيحاول سبر أغوار البدر وشاعريته المتفردّة.
ســـيبقى الـــبدر فـــي نـــفوس مـــحبيه شـــاعـــرًا وفـــنانًـــا ومـــثقفًا وأخًـــا، وفـــقد الـــبدر لـــن يـــعوّض فـابـتسامـته كـانـت كـالـشعاع الـذي يجـلي ظـلام الحـزن عـن قـلوب مـحبيه، وسـتبقى كـلماتـه ملاذًا آمنًا لكل محزون، رحم الله البدر وغفر له وجعل الجنة مثواه…
* ستبقى قصائد البدر إلى ما شاء الله
وتـشير الـكاتبة إيـمان عــبدالـرحـيم الـطالب، عـضوة نادي الشـرقـية الأدبي وملتقى الكاتبات فـي مكة المكرمة، إلـى أهـمية قـصائـده والإرث الـذي تركه بقولها:
ذلـك الـشاعـر الـبدر نـرجــو أن نـفيه الجــزء الــبسيط مــن حــقه عــلينا، وأنــا مــدركــة تــمامًــا مـهما تـكلمنا عـنه وعـن إبـداعـاتـه لـن نـفيه إلا الجـزء الـيسير مـن حـقه ومـا قـدمـه مـن إنجازات أدبية وثقافية.
صـحيح غـاب البدر، لـكن تـرك لـلمكتبة الـعربـية كـنوزًا عـظيمةً مـن الأدب المـميز والـذي صـور فـيه بــناء الــدولــة الــسعوديــة؛ ما جــعلنا نفخــر بــأنــنا ســعوديــون، وســتبقى قــصائــد الــبدر بـبقاء الدولة السعودية إلى ما شاء الله.
يـكفينا شـاهـدًا عـلى إنـسانـيته قـبل كـونـه أمـيرًا شـهادة “زوجتـن سـمو الأمـيرة سـاره الـقريـشي” حيث قالت: هو في بيته أعظم بكثير مما تعرفونه.
لـــقد امـــتلك الـــبدر أدوات وصـــفات كــثيرة لتحقيق هـــذه الإنـــجازات الـــعظيمة؛ طــيبته وتــواضــعه (مــن تــواضــع لله رفــعه)، وعــفويــته وســلامــة قــريــحته والمخــزون الــلغوي والــصور الــفنية وصــدق المــشاعــر وعــواطــف جــمة، وفــوق كــل هــذا، المــوهــبة الــعظيمة الــتي صــقلها بالدراسة والممارسة، وقد زين كل هذا بابتسامته التي لا تفارقه مهما كان مهمومًا.
كــانــت كــلمات الــبدر تــرافــقنا فــي كــل مــسارات حـياتــنا، ولا أنـسى كــلمات أغــنية المــسافــر كــلما كــنت أودع ابــنتي عــندمــا تــفارق أرض الــوطــن لاســتكمال دراســتها فــلا كــلمات تــفي بــما فــي الــنفس والــقلب إلا كــلمات الــبدر الــصادقــة، نــاهــيك عــما تــغنى بــه الــفنانــون الــعرب بــكلماتــه الـتي سـارت فـي الـوطـن الـعربـي وتـركـت صـدًى جميلًا، كـانـت ومـا زالـت وسـتظل كـلمات الـبدر تضيء سجل كل فنان تغنى بكلماته، رحلوا وبقي الأثر!
هـنيئًا لـلمملكة وهـنيئًا لـكل ســـعودي وهـنيئًا لـكل فـــنان تـــغنى بـكلماتـــه، وهــنيئًا للثقافـــة العربية والمكتبة الأدبية بعظيم الإرث الذي تركه لنا البدر.
غـاب الـبدر وتـرك لأولاده وأهـله المـال وتـرك لـلإنـسانـية الـثقافـة والأدب وجـميل الـلوحـات الـفنية الـتي رسـمها؛ فـقليل مـنا يـعرف عـن الـبدر أنـه كـان يـرسـم لـوحـاتـه بـشغف لـتظنّه رسـامًـا فقط، وكذلك حاله في نظمه للشعر.
وختامًا أقول للبدر ما قاله أبو فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم .. وفي الليلة الظلماء يُفتقَد البدرُ.
رحم الله بدر بن عبدالمحسن وغفر له وأسكنه فسيح الجنان.. آمين.
* نـفض عـن الـقصيدة غـبار الصحـراء
ويؤكد الشاعر العماني عبد العزيز العميري، على أهمية تجربة البدر وضرورة تأريخها بقوله:
تجـربـة الـبدر تجـربـة ثـريـة جدًّا تـجاوزت كـل المـسافـات وكـل الخـرائـط الـجغرافـية وأعـتقد أنـه حـتى نسـتوعـب تـأثـير هـذه التجـربـة عـلى الـقصيدة الـشعبية فـي الخـليج؛ عـلينا أن نؤرخ هـذه المـرحـلة بـتساؤلات أوسـع: كـيف كـانـت الـقصيدة قـبل الـبدر؟ كـيف أصـبحت بـعد ظـهور الــبدر؟ مــا مســتقبلها بــعد رحــيل الــبدر؟ وجــميع هــذه الأســئلة تــحتاج إلــى مــساحــات نــقديــة أوســع ربــما يــتناولــها أهــل الــنقد بــشكلٍ قــد يــجيب عــن بــعض مــا تــركــه الأمــير الــبدر مــن إرث شــعري. مــا ســأقــولــه هــنا لا يــتعدى انــطباع قــارئ مــحب جــدًّا لــلبدر، تحــركــه الآن عــاطــفته لا فـــكره وعـــقله، لـــكن مـــا أؤمـــن بـــه أن الـــبدر نـــفض عـــن الـــقصيدة الـــشعبية غـــبار الصحـــراء، وحـملها بـوعـي أوسـع إلـى فـضاءات التجـديـد فـنثر عـليها الـياسـمين، وبـللها بـالـندى وجـعل أقــمار الــسماء تتكســر عــلى غــدران الصحــراء، ونــسج لــها حــلة مــن خــيوط الــشمس فــكانــت الـدهـشة. يـقول فـيليبس لافـكرافـت: الـدهـشة هـي كـل مـا لـم يُـكتشف بـعد، كـل مـا لا يُـتوقَّـع أبـدًا، كــل مــا احــتجب عــن الأعــين، وكــل مــا اســتتر جــوهــرُه الــخالــد خــلف قشــرة الــتبدُّل. ولــو كــان لـلدهـشة فـي الـشعر الـشعبي تـعريـفًا لـقلت الـبدر، فـالـبدر أدرك مـاهـية الـدهـشة وجـعلنا فـي كـل نـص نـكتشف مـوطـنًا جـديـدًا لـها، يـبدأ قـصائـده بـطبطة عـلى الـقارئ بـروح عـاشق مـحب ثـم يـصدمـه بـما لا يـتوقـعه، وأعـتقد أنـنا الآن وبـعد رحـيل الـبدر عـندمـا نسـترجـع ونسـتحضر تجـربـته نجـد أنـه فـي الـوقـت الـذي كـان الـبدر مـنشغلًا بـرسـم خـطٍّ تجـديـدي لهـذه الـقصيدة، كـانـت الـساحـة الـشعبية فـي الخـليج تـضج بـشكلٍ واحـد لـلقصيدة وبـلغة يـعاد تـدويـرهـا مـن شاعرٍ إلى آخر، وبتشبيهات مستهلكة بالية حتى تكاد لا تميز قصيدة شاعرٍ عن آخر.
مــا فــعله الــبدر أنــه أوجــد قــامــوسًــا يــختص بــه وحــده، ولــو حــاولــنا أن نجــمع أنــهار المــفردات الـتي فـاضـت بـها ضـفاف الـبدر لخـرجـنا بـقامـوس عـنوانـه (قـامـوس بـدر بـن عـبد المـحسن فـي الـــقصيدة الـــشعبية). الـــبدر كـــان الـــثائـــر المـــتمرد الـــذي فجـــر لـــغة أخـــرى وأحـــدث هـــزة فـــي الــقصيدة الــشعبية بــأشــكال وقــوالــب بــنائــية لــم يــألــفها الــقارئ فــي زمــن كــانــت فــيه الــغلبة لـلقصيدة الـشعبية الـعموديـة المـتمسكة بـقالـبها الـكلاسـيكي ولـغتها المـباشـرة، وحـتى أكـون دقــيقًا هــنا فــالتجــديــد الــذي أحــدثــه الــبدر لــم يــكن عــلى ســياق بــنية الــنص وحســب، بــل على صـعيد الـلغة والـصورة الـشعريـة المـغايـرة؛ فـالـبدر لـم يتخـل عـن الـشكل الـعمودي المـقفى؛ فـتارة تجـده الـبدوي (أنـا بـدوي ثـوبـي عـلى المـتن مـشقوق) الـذي يـرعـى نـوقـه فـي الصحـراء مـترنـمًا “خـدود الـرمـل” فـتبش مسـتبشرة بـالمـطر فـهو الـذي خـلق بـقصيدتـه كـحادي يـبث الـحياة فـي شــكل بــنيوي مــغايــر لــلقصيدة، فــتارة يســلك الــتفعيلة، وفــي أحـايين أخــرى يــطرق الــنثر فــي نــــصوص هــــي أقــــرب لأن تــــشكل الــــنواة الأولــــى لــــقصيدة الــــنثر فــــي الــــشعر الــــشعبي مــــع مــحافــظته عــلى إيــقاع وغــنائــية جــميلة فــي الــنصوص. ولــعل المــلفت لــلانــتباه فــي تجــربــة الـــبدر هـــو كـــيف اســـتطاع أن يجـــمع بـــين نـــصوص يـــتذوقـــها أنـــصار المـــدرســـة الـــكلاســـيكية، ونــصوص أخــرى اتجهــت للحــداثــة بــشكلٍ يــسابق الــزمــن؛ فــالــبدر عــندمــا كــتب عــلى صــوتــه اسـم حـبيبته فـي شـطر) كـتبت اسـمك عـلى صـوتـي (كـان حـينها يؤثـث ويبشـر بـصوت كـله حــب وشــجن، وهــو فــي الــوقــت نفسه فــي نــصه الأخــير يــعود إلــى طــين الــبدايــات، إلــى الــقالــب المـباشـر، لـكنه أيـضًا يـعود لـذات الـشمس الـتي قـال عـنها (أشـرب ظـمأ الشمس) فـي مـقطع جميل (ولا بدها يا سعود بتغيب شمسي… ذي سنةٍ رب الخلائق فرضها).
إضــافــة إلــى المــوهــبة الاســتثنائــية الــتي مــلكها الــبدر، أعــتقد أن حــسه المــوســيقي والــفني وثــقافــته الــواســعة فــي هــذا المــجال كــلها كــانــت عــوامــل مــهمة أســهمت فــي نــجاح أعــمالــه الـــغنائـــية، إضـــافـــة إلـــى جـــوانـــب أخـــرى اتـــصفت بـــها شـــخصية الـــبدر، أهـــمها المـــرونـــة فـــي الــتعامــل مــع المــطربــين والمــلحنين، ومــرونــته فــي الــتعديــل حســب مــا يــرى الــفنان أو المــلحن، وهــذا ســمعناه فــي لــقاءات مجموعة مــن المــطربــين؛ كــعبادي الــجوهــر ومحــمد عــبده وغــيرهــم، فـالـبدر كـان مسـتمعًا جـيدًا لـهم، مـثلًا يـقول عـبادي أنـه فـي آخـر عـمل لـه مـع الأمـير بـدر بـن عـبدالمـحسن ذهـب إلـيه إلـى الـريـاض حـتى يـعرض عـليه اسـتبدال جـملة شـعريـة أشـكلت عليه فـي الـلحن، فـالأمـير الـشاعـر الـذي يـتعامـل مـع الـفنان بهـذا الـحس وبهـذه المـرونـة لا شـك أنـه أحـد أهـم أسـرار الـنجاحـات، لـذلـك لا نسـتغرب أن قـصيدة كـالمـزهـريـة كـتبت عـلى مـدار عـام بـين الـبدر وبـين عبادي، ولـها كـوالـيسها الجـميلة فـكانـت المـزهـريـة الـتي لـم تـذبـل ولـن تـذبـل.
يـجب أيـضًا ألا نـغفل عـن عـامـل مؤثـر فـي الـنجاحـات الـكبيرة والأعـمال الـتي لا أعـتقد أنـنا سـنرى مـثلها فـالـفترة الـتي كـتب فـيها الـبدر تـرافق مـعها ثـورة فـي الأغـنية الـسعوديـة مـع قـطبي الأغـنية (طـلال ومحـمد عـبده) مـع وجـود عـمالـقة مـن المـلحنين كسـراج عـمر، ومحـمد شفيق، سـامـي إحـسان، وعـبدالـرب إدريـس، وغـيرهـم مـن المـلحنين الـذيـن قـدمـوا أعـمالا جـميلة لـلبدر.
مـا أسـتطيع قـولـه هـنا إنـنا لـو تحـدثـنا فـقط عـما أحـدثـه الـبدر مـن هـزة فـي الأغـنية الخليجية والــعربــية لاحــتجنا لــصفحات أطــول، فــالــبدر قــال فــي الأغنية مــا لــم نــألــفه مــن قــبل، فــلم تــكن الأغنية الـتي كـتبها الـبدر سـطحية أو مـوغـلة فـي الغموض -كـان الـبدر بـذكـاء يـمرر تجـربـته التجـديـديـة فـي الـقصيدة الـشعبية ويـزرعـها أو يـنقشها كـعصفور جـميل فـي عـذق الـذاكـرة- لـن أتحـدث عـن (كـتبت اسـمك عـلى صـوتـي)، ولـن أتحـدث عـن مـقطع (أشـرب ظـمأ الشمس)، ولـن أسـتدعـي الـقمرة الـتي تتكسـر عـلى صـفحة المـاء فـي الـغديـر (وقـمرا ورا الَّـليل الـضريـر.. عِـند الـغديـر وإن هـبَّت الـنسمة.. تِكسـر)، لـكن دعـونـا نـتخيل فـقط أن يـقول أحـدهـم فـي أغنية (أعلق الـدنـيا عـلى مـسمار… مـدقـوق فـيه جـدار وتـسكن فـي سـاسـه ريـح… أعلق عـيونـي عـلى نجــمه.. مــحبوســة فــي غــرفــة ظــلمه… مــقفول عــنها بــاب.. ولــها حــارس كــذاب.. دايــم يــشيل كــتاب.. يــقراه وهــو أعــمى) تــخيلوا مــعي أن يــقول أحــدهــم كــل هــذه الــصور المــدهــشة فــي أغـنية؟! كـل هـذه السـريـالـية وكـل هـذا الـتمرد والـجنون والجـمال فـي أغـنية؟! كـيف مـرر الـبدر كـل هـذا وأصـبح يـردده الـناس؟ ألا يـحتاج هـذا كـله إلـى سـبر مـختلف لهـذه التجـربـة الـتي وبـكل أسـف لـم تـأخـذ حـقها فـي الـنقد الـواعـي –الـنقد الـذي يـبرز جـمالـيات وأعـجوبـة مـا صـنعه الـبدر- حـتى الـيوم حـقيقة لـم أجـد هـناك مـن اسـتطاع أن يسـتنطق تجـربـة الـبدر أو أن يـصل إلى بعض ما كان يحاول البدر تمريره للقارئ الحالي، والقارئ الذي لم يولد بعد!
الـسمة الإنـسانـية والأخـلاق الـرفـيعة لـم يـتصنعها الـبدر ولـم يـكن مـتكلفًا لـها أمـام الـكامـيرات الـتي كـانـت تـراقـب أدق تـفاصـيله عـندمـا يظهـر فـي أمـسية أو فـي حـدث فـني أو ثـقافـي؛ بـل إن الـكثير مـمن تـعامـلوا مـعه كـانـوا يجـمعون عـلى إنـسانـيته الاسـتثنائـية ونـحن فـقط كـمحبين لـه -لـم نلتقِ بـه- لـكن فـي آخـر أمـسية حـضرتـها لـلأمـير بـدر بـن عـبدالمـحسن فـي الـريـاض فـي سـبتمبر المـاضـي 2023 حـدث مـوقـف بـعد نـهايـة الأمسية، حـيث حـاول أحـد مـعجبي الـبدر أن يـلتقط صـورة مـعه وهـو يـهم بـالانـصراف مـن الـبوابـة، حـيث خـرج هـذا المـعجب بـشكلٍ مـباغـت وكـأنـه كـان يـنتظر تـلك اللحـظة الـتي يـمر فـيها الـبدر للخـروج مـن الـبوابـة -حـاول المـنظمون إبـعاد هـذا المعجب، إلا أن الأمـير الـبدر انـتبه لـلأمـر وأوقـف مـن كـان مـعه مـن مـرافـقين وسـمح لهـذا المـعجب أن يـلتقط صـورة مـعه وأعـتقد أنـها كـانـت صـورة الـعمر لهـذا المـعجب العاشق للبدر؛ لأنها كانت تلك الأمسية الأخيرة للأمير البدر!
هــذا لــيس غــريــبًا عــلى الـــبدر، فــالــبدر دائــمًا تجــده مــمتن لجــمهوره؛ إذ يــقول مــخاطــبا لــهم (ولـولاكـم أنـتم مـا اعـتليت المـراقـيب .. كـن الـعمر قِـدْمِـي ولا هـو خـلافـي)، حـتى فـي طـريـقة تـعاطـيه مـع مـن يـنتقده، وقـد يـتذكـر الـبعض مثلًا كـيف تـعامـل الـبدر مـع مـقال نـقدي كتبته الـشاعـرة والـكاتـبة الـكويـتية سـعديـة مـفرح، قـالـت عـنه نـفسها أن لـغته الـنقديـة كـانـت قـاسـية جـدًا وكـيف تـعاطـى مـع المـوضـوع عـندمـا سـئل عـن الأمـر فـي مـقابـله، حـيث بـدأ بـمدح كبير لــها وأبــدى تــحفظه عــلى بــعض الــجوانــب، وهــنا الــبدر يــقدم درســا إنــسانــيًّا لــكل شــاعــر فــي الـتعامـل مـع النقد، إضـافـة إلـى جـوانـب إنـسانـية كـبيرة أمـسياتـه المـصورة، فـي كـل حـركـاتـه، وسـكونـه تجـد إنـسانًـا مـغايـرًا فـي حـديـثه، وفـي صـمته، حـتى عـندمـا يـكون حـاضـرًا لأمـسية أو حــفل غــنائــي ويــتفاعــل مــع مــطربــين غــنوا كــلماتــه، أو تــغنوا بــكلمات آخــريــن، تجــد ابـتسامـة جـاذبـة تـبث الـطمأنـينة فـي كـل مـن يـراهـا، بـاخـتصار نسـتطيع أن نسـتعير مـا قـالـه ونقوله له الآن وهو يرقد في تربته الطاهرة (انت كل الناس وحدك).
خـتامًـا أقـول إن رحـيل الـبدر لا يـنبغي أن يـمر كحـدث عـابـر، أو أن تـمر ذكـرى رحـيله كـل عـام مــرور الــكرام، بــل إن الــوفــاء لــلبدر هــو أن نــعيد قــراءة هــذه التجــربــة بــوعــي أكــبر، وبــمنظور أوســــع، هــــي دعــــوة أيــــضًا أن يــــفسح المــــجال للمؤســــسات الأكــــاديــــمية خــــصوصــــا لــــلطلبة المشــــتغلين فــــي الــــنقد الأدبــــي أن يكســــروا الــــتابــــو ويــــتناولــــوا ولــــو لمــــرة واحــــدة الــــقصيدة الــشعبية وأن تــكون الــبدايــات بــالــثورة والهــزة الــزلــزالــية الــتي أحــدثــها الــبدر فــي الــقصيدة الشعبية، الـذي فـعل مـا لـم يـفعله أي شـاعـر، فـالـبدر مـنذ ظـهوره كـان لـه خـطه الأحـادي ومـا تــركــه مــن إرث عــظيم هــو مــجال خــصب لاســتنطاق التجــربــة مــن زوايــا مــتعددة يــدركــها مــن اطلع بعمق عـلى تجـربـة الـبدر. وأخـيرًا أقـول: أيـها الأمـير الـذي أحـببنا نـم فـي تـربـتك بسلام وأمـــان فـــالـــقمرة ما زالـــت عـــلى الـــغديـــر وما زالـــت هـــناك حـــمائـــم بـــيض تـــغني (كـــنا افـــترقـــنا البارحة .. والبارحة صارت عمر (و) يا سيدي قوم!
* دافـئًا يهـطل ضـوء الــبدر فــي أرواحـنا
ويتحدث الشاعر الأستاذ جبران محمد قحل، عضو نادي جازان الأدبي وعضو جمعية الأدب، عن الدهشة والتركيب بعيدًا عن الخيال بقوله:
دافــئًا يهــطل ضــوء الــبدر فــي دهــالــيز أرواحــنا.. فــيناديــها (تــذكــر) فــتقول (ابــعتذر) ثــم لا تــتردد فــي أن (تــرد الــقمر لــلنور) وهــي تــرتــشف فــي ذات الــوقــت ضــوءه لــتعيش (أعــذب الـــحب) مـــقتنعةً دون أن تـــختار (مـــا حـــد يـــحب الـــلي يـــبي) بـــينما تـــعيد تـــرتـــيب أجـــزائـــها (فوق هام السحب).
تجـربـة شـعريـة عـظيمة، خـطت مـدرسـة جـديـدة وحـديـثة، وابـتدعـت آفـاقًـا بـعيدة وواسـعة لـلقصيدة الـعربـية، الأغـنية زادتـها عـمقًا درامـيًّا حـيًّا تجاوز الـدهـشة والـتركـيب، بعيدًا حـد الـخيال، قـريـبًا حـد اشـتقاقـه مـن الـشفاه والـوجـدان لـيكون فـي مـتناول كـل إحـساس، وصدى لمشاعر جميع الناس.
وفـي الـختام؛ إنـه فـي ضـمائـرنـا، اصـطحبناه فـي الـكثير مـن مـنعطفات حـياتـنا، واحتفظ بــها فــي تــفاصــيل ذكــريــاتــنا.. كــان وســيظل مــعنا.. وكــلما نــسيتنا ذواتُــنا أعــادنــا الــبدر إلــى أنـــفسنا، وجـــدد فـــينا كـــل المـــعانـــي الـــسامـــية.. الـــحب والـــحياة والـــوطـــن والجـــمال والـــشعر والغناء.
* البدر هدفه ترك الأثر المشار إليه
وتؤكــد الكاتبة والروائية ريــم محــمد على أحقية تدريس ذلك الإرث الشعري بقولها:
تـميز البدر رحـمه الله، طـوال رحـلته الـشعريـة بـصناعـة شـعر يسـتحق أن يـدرس؛ كـان يـختار كــلماتــه بــعنايــة، حــريــصًا كــل الحــرص عــلى مــناســبة الــلفظ لــلمعنى المــراد، جــدد فــي الــشعر الــنبطي الــسعودي، نــقل مــفردات ســعوديــة محــلية إلــى كــل الــوطــن الــعربــي فــامــتزج الــتراث الخاص بالشعر العربي العام.
ذكـر فـي أحـد لـقاءاتـه الهـدف الـذي رسـمه لـنفسه حـين قـال: مـا أمـر بدون مـا يـلاحـظ أحـد، هـمي إنـي ألـفت الانـتباه عـشان أحـس إنـي عشـت). لـم يـقل مـن أجـل الشهـرة! بـل كـان هـدفـه تــرك الأثــر، بــاخــتيار الــكلمة والمــوضــوع المــناســبين لــيترك أثــرًا يُــشار إلــيه أجــمع الــكل عــلى مـسيرتـه الاسـتثنائـية وسـماتـه الإنـسانـية والـتي دونـتها وسـائـل الإعـلام ومـنصات الـتواصـل الاجتماعي، السـر هـو تـركـيز الـبدر عـلى هـدفـه مـع حـفاظـه عـلى طـبيعته الإنـسانـية بـتواضـعه الجــمّ، الــواضــح فــي كــل لــقاءاتــه، فــهو قــريــب مــن جــمهوره رغــم تــميزه، وربــما هــذا مــا يفســر انتقال أشعاره من جيل إلى جيل، وحضورهم الدائم لأمسياته على مختلف أعمارهم.
الإرث الـذي تـركـه الـبدر كـبير فـي الـشعر الـنبطي السعودي، فـلابـد أن يـنعكس مسـتقبلًا عـلى تدريس الشعر النبطي وهندسة الكلمات.
وخــتامًــا كــل لــقاء مسجــل للأمـير رحــمه الله، تَــحضره ســيترك فــيك أثــرًا مــا؛ وتــتعلم مــنه أن الكتابة أثر باق كما قال رحمه الله “وش تركت؟”.
اهتمامه بالأثر المتروك من بعده يجعل كل كاتب يهتم ويفكر جيدًا قبل أن ينشر.
خـمسة عـقود مـرت مـلأها الـبدر بـشعر رصـين متجـدد، فـقد ركـز عـلى الابـتكار وكـانـت الـكتابـة الشعرية شغفًا أنتج إرثًا بالغ الأهمية.
* إرث البدر محطات من الدهشة
ويعلق الشاعر والكاتب الأستاذ عبد الرحمن سابي، عضو مجلس إدارة نادي الباحة الأدبي، على محاور الحديث بقوله: الحــديــث عــن الإرث الــثقافــي والــشعري لــلأمــير الــراحــل الــبدر هــو حــديــث عــن محــطات مــن الــدهــشة المــاتــعة، وهــو ســفر مــن وإلــى الجــمال الــفطري المتسق مــع الــروح الإنــسانــية كــما خـلقها الله بـعيدًا عـن تـكلفات عـدة قـد تـسيء أكـثر مـن أن تـنفع، وبـدر بـن عـبدالمـحسن رحمه الله، مـــدرســـة شـــعريـــة أوجـــدت بـــمنهجها الـــفريـــد لـــها عـــالمًـــا مـــن الـــشعر لـــه فطرته الـسابـقة كـما قـلت، وامـتلاكـها مـفردات جـمال قـادرة عـلى اسـتلاب أرواح قـبل عـقول مـن يـمر بـها أو يـقف عـليها ولـو عـرضًا وسـتبقى كـذلـك؛ لأن صـدق مـن كـتبها مـنحها ديـمومـة الـدهـشة واستمرارية السحر الحلال:
انتي مثل قمرا على صفحة الما
له صورةٍ عندي وهي في السما فوق
اتصافحك عيني وأنا كفي أعمى
ما لي جدى إلا مصافح الموق للموق
ياما شربتك شوف من خوف لا أظما
وياما الوله للوصل يبّس بي عروق
أليس في هذا الأرث المدهش ما يمنحه البقاء والخلود!
حــين كــان الــبدر يــكتب كــان لــلصدق حــضوره شــعورًا وحــرفًــا وكــلامًــا؛ ولهــذا جــاءت قــصيدة الــبدر قــريــبة جــدًا مــن الــغناء المــذهــل الــقادر عــلى تــقديــم صــور الــبدر الــشعريــة والمــختلفة تـصويـرًا وتـراكـيبًا فـي قـالـب لـحن شـفيف يـأسـر الـلب ويـسكن الـروح ولهـذا بـقيت، وسـتبقى أغـانـيه ظـلًّا وارفًـا لـكل بـاحـث عـن جـمالـيات الـكلمة واللحن، ويـكفي الـبدر هـذا الـفضاء الجميل مـن اسـتحضار كـلماتـه فـي شـتى الـعوالـم المحـلية والـعربـية عـلى الـسواء والـدالـة بـطبيعية الـحال عـلى الـثراء الـفني الـذي امـتلكه الـبدر وعـبر مـن خـلالـه عـن الـعواطـف بشـتى صـورهـا، فطرب له السهل والجبل والروح قبل العقل. الـقادم يـحفظ لـلماضـي الجـميل وجـوده، بـل ويسـتحضره حـتى يـزيـن عـوالمـه ويـساعـده فـي المـــضي قـــدمًـــا بـــصورة أفـــضل، ومـــا كـــانـــت قـــصائـــد الـــبدر إلا مـــن هـــذا الـــقبيل، فـــهو الإنـــسان الصادق قبل الشاعر المدهش وسيبقى في ذاكرة الزمن حيًا طيب الذكر…
كلمة أخيرة:
أيها الشادي بأحوالِ المدينة
بالمسافاتِ مع الأشواقِ تصغُرْ
(آه ما أرق الرياض تالي الليل)
كيف بالليلِ إذا حنَّ لقيثارٍ من البدرِ
سيُجبرْ
ولِمَ (صوتكِ يناديني)
ستنهارُ وتُكسر
راحلٌ أنتَ وهذا الخطو مكتوبٌ
مُقدَرْ فسلامٌ من نخيلٍ
تاه إحساسًا وفي كفيّكَ
أثمرْ
وسلامٌ أيها البدويُّ
من حرفٍ مع النجمِ
برؤياكَ تعطّرْ
نقش العصفورُ يا بدرُ
من الحزنِ على التمرِ وسطّرْ
يا بدرُ مراتٍ والغضا مما به تجمّرْ
*البدر قيمة إنسانية وقامة شعرية
ويـشاركـنا الـدكـتور طـلال بـن أحـمد الثقفي، أسـتاذ الأدب والـنقد المـشارك بـجامـعة الـطائـف، الحديث عن البدر الراحل:
ندما نتحدث عن البدر؛ نتحدث عن بدر لم يأفل طيلة نصف قرن في سماء الشعر الشعبي، فظلّ سنا شعره يُذهب العقول ويستثير النفوس ويدغدغ المشاعر ويلهب الحماسة ويعزز الوطنية.
فقصائده حاضرة في العقل الجمعي العربي، والسعودي بصفة خاصة، تُستحضر مع الوطن والفخر والسلام والجمال والاعتذار والرحيل، وتُردّد على ألسنة الكبار والصغار، ويستلهمها الشعراء في قصائدهم الفصحى والنبطيّة، ويترّنم بها الفنانون ليصلوا إلى قلوب الناس عبر البدر، مما وسّع أفق تداوليّتها على المستوى الشعبي والنخبوي، وقد رفدت القصيدة العربية من خلال الشعر النبطي بطاقات فنيّة وصور جماليّة وأنغام موسيقية، تتّسم بالجِدّة المؤسسة على الأصالة والمعاصرة، حتى وُصف البدر بمحدّث القصيدة النبطية الشعبية.
عبر الكثير من الفنانين العرب الحدود والقلوب من خلال قصائد البدر رغم عاميّتها؛ وهنا سر تفرّدها، فمجافاتها للغريب والشاذ من الألفاظ ، وعدم إيصالها في الصور البدوية العتيدة، وابتعادها عن المكرور المستهلك، جعل لها لغة خاصة شاعرية بمفرداتها ودلالاتها، موسيقية بجرسها ونغمها، سهلة ممتنعة باستعاراتها وانزياحاتها، بعيدة عن التعقيد وإن كان غموضها شفيفا، فكانت قصائده النبطية أقرب للفصيح.
وتمتد قصائد البدر موسيقاها من المد والجزر للتفعيلات، لاقتدار وتمكّن في النسج على النمطين، العمودي والتفعيلة، يصل إلى الجمع بينهما في قصيدة واحدة، فضلا عن النغم المتولّد والمتموسق من التكرار والتصريع والترصيع والجناس والتضاد والمقابلة وغيرها من ألوان البديع، التي منحت النص اتساقه اللفظي وانسجامه الدلالي بشعريّة وشعورية موسيقاه.
البدر قيمة إنسانية وقامة شعرية، حتى أن مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل وصفه بالاستثنائي، فهو أنموذج للأديب المخلص لدينه ووطنه وولاة أمره، ولعروبته وقضايا أمته ولإنسانيته، فشعره مستودع للقيم الكبرى والقضايا التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء، ومخلص لفنه، فعاش في الفن وللفن؛ حتى مناصبه التي تقلّدها خدمة للفن ، من خلال رئاسته للجمعية السعودية للثقافة والفنون.
إنه استثنائي في رسم لوحاته وهندسة شعره، وفي إنسانيته وخلقه، وفي قربه وبعده، فنلمس سنا شعره ونستشعر سموه.
لم يأفل البدر فوق الأرض، ولن يأفل تحت الثرى، فكما يقول الشاعر الفرنسي جان كوكتو(الشعراء لا يموتون، إنهم يتظاهرون بالموت فقط)، فكيف بالبدر؟! الذي سيخلُد بنتاجه أبد الدهر.
فحري بالمؤسسات الثقافية والباحثين في الوطن العربي إنزال البدر مكانته الشعرية التي يستحق بجوائز عالمية باسمه، وبدراسات جادة لنتاجه، وآن لمؤسساتنا الأكاديمية أن تصالح بين الشعر الفصيح والنبطي في حضرة البدر.
* قد لا ﯾﺠﻮد اﻟﺰﻣﺎن ﺑﻤﺜﻞ اﻟﺒﺪر
ويشاركنا الحوار الأديب والقاص خلف سرحان القرشي بقوله:
كنت في الحادية عشر من العمر تقريبا، أرعى الغنم، وأحيانا يسمح لي والديَّ رحمهما الله بأخذ الراديو الوحيد بالبيت معي مرافقا في رحلني اليومية الشاقة وراء الغنم في بطون الأودية وسفوح الجبال المجاورة . كانا يعرفان عشقي للإذاعة.
كنت أسمع كل ما تبثه الإذاعة السعودية آنذاك حتى برنامج (البيت السعيد )!
تطربني الأغاني.
كثيرا ما صافحت أذناي عبارة (كلمات … بدر بن عبد المحسن). تعلقت بالاسم منذ الصغر.
كثيرا ما كانت الإذاعة تبث أغنية (عطني المحبّة)، وأحيانًا أكثر من مرة في اليوم الواحد.
كنت أجد في سماعها وما زلت نشوة ومتعة استثنائية، عندما كنت بالصف السادس في العام 1975 م… استمعت لأول مرة لرائعة طلال رحمه الله (زمان الصمت)، عشقتها حتى الثمالة، وتكون لدي رابط بأن الأغنية الجميلة هي تلك التي يجتمع فيها طلال مداح وبدر عبد المحسن رحمهما الله.
لم أفهم حينها دلالات (كتبت اسمك ع صوتي)، ولا(جدار الوقت)، (كتبت اسمك على موتي وميلادي)!
وكثير من الصور، ولكني كنت موقنا بأنَّها من الكلام الكبير العظيم وكفى.
وهنا تأتي عظمة البدر … بساطة متناهية في المفردات مع تراكيب عميقة، مبتكرة وخلاقة في الصور والمجازات.
قبل ما يناهز العقدين من الزمن؛ ذات عصرية، كنت أقود سيارتي، استمع إلى أغنية لطلال مداح رحمه الله، لأول مرة…. وسمعته يقول فيها:
“أنتِ عيونك سالفة”.
لا إراديًّا، وجدتني أخبط بيدي بقوَّةٍ على المقود، صائحا: (الله أكبر).
أدهشتني الصورة! لم أكن أعلم أن الكلمات لحظتها للبدر. لكني قلت في نفسي حينها…. لن يأتي بهذه الصورة الإبداعيّة الخرافيّة إلا بدر، نعم. تشبيه العيون بالسالفة ! صورة استثنائية باقتدار. تعودنا على تشبيه العيون بعيون المها … ونحو ذلك وفي أحسن الأحوال بكؤوس أو غابات نخيل. ولكن ب (سالفة)، والسالفة هذه قصة/حكاية فيها ما فيها، فتلك لعمري غاية الإبداع وكل الجمال.
أوقفت السيارة جانباً، بحثت- وجدتها فعلا له رحمه الله؛ من قصيدته (أنتِّ عيونك هالعتيم).
يمكنني أن أصف شعره بالسهل الممتنع؛ يتصور أي شاعر للوهلة الأولى أنه قادر على الإتيان بمثله، ولكن عندما يبدأ في المحاولة يجد أنه يرتقي مرتقى صعبًا، ولن يأتي بمثله، حتى لو سخر كل جن وادي عبقر له ظهيرًا.
بدر أسطورة والأساطير تبقى وتخلد لكنها لا تموت.
قدر لي قبل سنوات مقاربة كلمات أغنية (قصت ظفايرها) في قراءة تأويلية انطباعية، الأمر الذي جعل الكلمات تتلبسني ليلاً ونهاراً حتى أتممت تلك القراءة التي استغرقت مني وقتا جاوز الأسبوعين.
ونشرت تلك القراءة على حلقتين في الصفحة الشعبية في صحيفة البلاد، وحظيت بتفاعل جميل من المهتمين والمتذوقين.
وفي يقيني إن نتاج البدر رغم كل ما كتب عنه نقديا، مازال فيه معين صاف لكل ناقد حصيف.
وفي الختام؛ لم يكن (البدر) شاعرًا مبدعًا فحسب، بل إنسانًا متواضعًا جميلًا. يحب الناس ويحبونه. قريب منهم. بسيط مثلهم. لم تكن (الأمارة) يوما سوراً بينه وبين الناس، كيف وهو من (يرفض المسافة والسور والحارس).
وتلك لعمري من سمات الأديب الحقِّ والمثقف الأصيل الذي خدم وطنه ومجتمعه والإنسان عموماً. أقول هذا رغم أني لم ألتقه وجها لوجه يوماً ما، ولكن لاحظت ذلك في لقاءاته التلفزيونية والإذاعية والصحفية، وكذلك مما رواه لي أصدقاء قابلوه وجالسوه وتعاملوا معه عن كثب.
أعتقد لو انتظرنا ألف عام، لن يجود علينا الزمان بمثل البدر رحمه الله رحمة واسعة وجزاه خير الجزاء على ما قدم ظاهرًا وباطنًا مما علم الناس ومما أخفته يمينه عن يساره.
* البدر على مسافة واحدة من كل مواطن الجمال
كما تحدث عن فقيد الشعر والأدب والإنسانية، الناقد الفني الأستاذ يحي زريقان بقوله:
– بدر بن عبد المحسن ظهر من بعد ثلاثة إلى أربعة أجيال من الشعراء في تاريخ الدولة السعودية الثالثة، ونجح بعد ظهوره في المشهد الأدبي كشاعر تفوق على من سبقوه بثلاثة إلى أربعة أجيال في المستقبل، كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، عندما خرج لنا بلغة خطاب حديثة متطورة معاصرة للغاية، عبر فيها وقدم نفسه كما ينبغي وفق أهدافه وتطلعاته وطموحاته وفهمه لمضمون المحتوى الشعري، قدم لنا شكلًا جديدًا وطريقة معالجة جديدة وأسلوب في صياغة المعاني والصور الخيالية الجديدة، ما جعله في ذلك الوقت يعد أو يصنف بالكشف الجديد في تاريخ الشعر السعودي، وعبر الزمن نجح في أن يسجل حضورًا لافتًا من خلال موضوعاته التي طرقها في البدايات وفي مرحلة الانتشار، المراقبون للمشهد كانوا يشعرون بأن هذا الشاعر مختلف ومجدد وقادر على إحداث الفارق، وهو ما حدث؛ إذ قدم لنا نتاجًا شعريًّا مُغايرًا للسائد والمعروف، نستخلص من هذا الأمر أن تجربة الأمير بدر بن عبد المحسن وإرثه الشعري خالد سيعيش إلى أبد الآبدين، فقد أسس مستقبل الشعر للأجيال المقبلة ومضى مطمئنًا.
– بدر بن عبد المحسن لم يكن فقط شاعرًا غنائيًّا فهو يتجاوز ذلك بكثير، لماذا؟
أولًا لكونه مفكرًا حقيقيًّا متأملًا جادًّا صادقًا مخلصًا لموقف المفكر والأديب والمثقف الذي يعي مسؤولية دوره في الحياة، لذلك عندما نتتبع مسيرة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد المحسن رحمه الله؛ نجد أنه كان قريبًا من قضايا الشارع المحلي والعربي ومتابعًا لما يجري في الرأي العام العالمي، لذلك هو نموذج حقيقي لذلك الإنسان الذي استطاع أن يرتقي بمفهومه ويجوّد من أدوات المعالجة لديه نحو الفكرة التي سيطرقها، كذلك تلك المواقف التي كان يجب عليه أن يتواجد فيها وما رأيناه متجليًّا من خلالها، لذلك علينا أن نعي بأن بدر بن عبدالمحسن مثقفًا ومفكرًا حقيقيًّا وأديبًا لامعًا للغاية وشاعرًا منبريًّا.
ومن أهم مميزاته التي جعلته يتألق على مدار أكثر من ستين عامًا، أنه يكتب النص الشعري فإن كان في المنبر يبقى النص البطل وإن كان في المسرح يبقى النص البطل أيضًا وإن كان في الأغنية يبقى النص البطل، كونه يكتبه بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، عدا تلك التي تتعلق بالجانب الموسيقي فهو يصبغ على نصوصه ذلك الإحساس والوزن والجرس الموسيقي الذي يضفي جمالًا ووقارًا وإيثارًا وهو ما جعله مختلفًا عن جيله وبين أقرانه.
– الإجماع على شاعرية الأمير بدر بن عبد المحسن؛ لأن الرجل كان ينحاز للأدب وللفن وللجمال وللإنسانية، فهو على مسافة واحدة من الجميع.
– لم نجده يومًا ينظم لتيار أو طرف أو لحزب على حساب الآخر على الإطلاق، وكان يتعامل بمسؤولية مطلقة وكان يؤدي واجباته بكل انضباط، نجح بسبب إخلاصه لموهبته وبسبب كثافة الاطلاع والقراءة والمعايشة لتلك التجارب والنماذج التي سبقته بكثير، كان مهمومًا بالجمال والفن.
– لذلك صنع لغة خاصة به، ظل طوال مشواره نبراسًا حقيقيًّا لذلك الذي كان قدره أن يولد فنانًا ويعيش مبدعًا ويغادرنا بكل فن وجمال ورحابة صدر وبكل روعة وإتقان، قدم كل شيء للوطن والمجتمع وللفن بكل أطيافه، وللإنسانية أيضًا بقضايانا المصيرية، كانت المواقف تستحق أن نشير إليها وهو ما جعله بارزًا في مشهد الأدب العربي العام، ولا يفوتني أن أشير إلى أننا كنا ذات مساء في منزل بليغ حمدي عام ١٩٧٣هـ، وقد أسمعنا الفنان طلال مداح أغنية جديدة “نام الطريق يا عيوني انا، نام الطريق وسهرت انا، تعب الطريق وما تعبت انا” وكان الحضور من بينهم الشاعر الموسيقي محمد حمزة الذي استمع للأغنية لأول مرة وخرج من تلك السهرة ليكتب أغنية لعبد الحليم حافظ “ماشي في طريق من كم سنة، تعب الطريق وما تعبت انا”، استوحى الفكرة من نص بدر بن عبدالمحسن الذي غناه طلال مداح، وقد التقيت الشاعر محمد حمزة وسألته عن هذا الأمر وقد كتبت عنه في صحيفة الرياضية السعودية.
* أفل البدر جسدًا وبقي الشعر متوهجًا
وينوه القاص إبراهيم حافظ غريب، عضو اتحاد القيصر للآداب والفنون بالأردن وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، إلى عوامل تميز البدر حيث ذكر:
ربما يشق علينا أفرادًا أن نقيِّم بدقة الإرث الشعري والثقافي الذي خلفه لنا البدر الآفل بجسده فقط؛ لكنه باق بوهجه الشعري الساطع بيننا. فهو إرث كبير ونوعي ينبغي التصدي له من قبل مجموعات أو مؤسسات قادرة على تقديم قراءة منصفة ومقاربة عادلة لكل جوانبه وآفاقه وتجلياته المتعددة.. البدر في إرثه الشعري والثقافي كاسمه الجميل، يرمز للجهد الدؤوب والسعي الحثيث لنضج التجربة والاقتراب بها من الكمال الممكن لتجربة شعرية فريدة ومميزة.
– تميز البدر وتفرده في سماته ومسيرته يعود لعدة عوامل من أبرزها:
– الموروث الشعري السابق عليه الذي حاول هضمه واستيعابه والتوغل إلى أعماقه؛ بهدف تجديده والخروج عليه لا للبقاء ضمن إطاره المحدد.
– زمالته لعدد من الشعراء الكبار في السعودية من ذوي الوزن الشعري الثقيل، وتزامنه مع إنتاجهم الشعري الغزير؛ كالفيصلين خالد ومحمد العبد الله ومحمد السديري وعبد الرحمن بن مساعد وغيرهم.
– طول مسيرته الشعرية التي امتدت لأكثر من قرن، ورحابة مساحته الشعرية، التي حمل من خلالها لواء التجديد والحداثة مع أقرانه ومجايليه.
– توليه منصب رئيس الجمعية السعودية للثقافة والفنون وتعيينه رئيسًا لتنظيم الشعر بالسعودية؛ ذلك ما مكنه من الاحتكاك المباشر بالمشهد الشعري المعاصر والتعاطي معه والمساهمة فيه بقوة.
– الخلفية الثقافية والاجتماعية التي انحدر منها البدر وأثرت في تكوينه الشخصي منذ البداية، ووفرت له بيئة مثالية ممتازة للاضطلاع بدوره الشعري الريادي الذي توج بتقدير محلي وتكريم دولي.
– كل ذلك أدى إلى نشوء تيار شعري مجدّد يمكن اعتباره انعكاسًا إضافيًّا مباشرًا متزامنًا مع إنتاجه الذي لن يتوقف عن توليد المزيد في المستقبل.
– أود التنويه إلى جانب مهم من جوانبه الشعرية، التي حفلت وزخرت بمبادئ وقيم ومثل عليا جميلة تحتاج إلى مزيد من تسليط الضوء عليها من قبل المختصين والدارسين؛ وذلك هو جانب اتصاله بالخالق ومثوله بين يديه بكل خشوع وتضرع عبر كثير من أبياته الشعرية التي ناجى فيها ربه، وأعلن بها عبوديته واستسلامه لما يأتي به البارئ من تصاريف القدر وحسن ظنه بربه الرحيم؛ وذلك في مثل قوله:
يالله يالمطلوب يا عالم الغيب
تقبل صلاتي لك وتقبل طوافي
وتصون عرضي يا ملاذي عن العيب
وتجعل بقايا العمر ستر وعوافي
وقوله:
يا سيدي ماني من الموت خايف
من يعرف الله حق ما يعرف الخوف
يجزيك عنّا الرب بيض الصحايف
ويبني لك فجنته جدران و سقوف
وقوله:
لابدها ياسعود بتغيب شمسي
ذي سنةٍ رب الخلايق فرضها
ولعلها حريتي بعد حبسي
ولعلي ألقى عند ربي عوضها
إنه العبد المحسن بشعره، البدر المضيء بروحه وجوهره، رحمه الله رحمة واسعة.
التعليقات