الأكثر مشاهدة

فاضل الكعبي* ما زال أدب الأطفال يُواصل نشاطه الإبداعي والإنتاجي في النشر المتواص …

النقد في أدب الطفل بين الحضور والغياب

منذ 10 أشهر

314

0


فاضل الكعبي*

ما زال أدب الأطفال يُواصل نشاطه الإبداعي والإنتاجي في النشر المتواصل على امتداد الواقع العربي، حيث تطالعنا بين حين وآخر، مجموعة من الإصدارات الإبداعية من الكتب الأدبية الجديدة، الصادرة مؤخرًا، بوصفها من المواليد الحديثة، التي تضاف إلى أسرة أدب الأطفال العربي، لكن هذه الإصدارات تفتقر إلى المواكبة النقدية المناسبة، التي توازي حركة الإبداع وحجمه في الإنتاج، إذ إننا نرى من قبل والآن غيابًا واضحًا للنقد عن واقع أدب الأطفال، وقد ذكرنا ذلك ونبّهنا عنه، وأشرنا إليه وتناولناه مرارًا وتكرارًا في عشرات الأحاديث والدراسات والملتقيات، وذكرنا من بين ما كنّا ذكرناه في هذا الاتجاه: إن غياب النقد الحقيقي عن مواكبة حركة الإبداع في أدب الأطفال أنتج الكثير من النماذج الضعيفة، من الإصدارات البائسة التي أساءت كثيرًا إلى قيمة وقيم أدب الأطفال، وأدَّت إلى ضعف هذا الأدب في الوصول الطبيعي والمؤثر للطفل المتلقي، مثلما أدى ذلك إلى حدوث الفوضى العارمة في آليات ومتبنيات وفاعليات أدب الأطفال الجاد والحقيقي.
كذلك، هذا الحال، وأعني به: غياب النقد عن المواكبة المتواصلة لمنتج أدب الأطفال، أدى إلى ما أدى إليه من مساوئ عدة انعكست على الواقع الفني والمادي العام لأدب الأطفال!
وهذا الحال أيضًا، أدى إلى أكثر من ذلك، حيث جعل الهوَّة واضحة وكبيرة بين الطفل القارئ وأدبه، كل ذلك والأمر ما زال على حاله دون معالجات تذكر، مع أننا أشرنا إلى ذلك مرارًا وتكرارًا، وكتبنا في ذلك مقترحين مجموعة من تلك المعالجات العملية، التي يمكن لها أن تسهم بتنقية أجواء أدب الأطفال، وتوقف رمال الأدب السيء والضعيف عند حدّها، وتمنعها من الوصول إلى فضاء الطفل النقي والتشويش عليه! 
نعم، نحن كتبنا واقترحنا شيئًا من الحلول لذلك، ولكن! ما فائدة الكتابة التي لا تأخذ أثرها وتأثيرها الفاعلين في المعالجة الصحيحة، مع ضرورة شيوع النقد الحقيقي والفاعل في عوالم أدب الأطفال، على أن يكون موضوعيًّا بكل أبعاده واتجاهاته، فلا فائدة من نقد فاقد للموضوعية، مثلما نقرأ هنا أو هناك شيئًا من هذا النقد ولا نحسبه كذلك، كونه لم يأت بموضوعية مطلوبة في المعيار النقدي الصحيح، الذي يتطلب أن يكون أكثر وعيًا ومتابعة ونشاطًا ودقة أمام الإصدارات الجديدة لأدب الأطفال، فيتابعها ويتفحّصها ويتناولها من كل الجواب، فيظهر ما فيها من إبداع، وما أتت به من جديد، ويضيء ذلك بضوء أكبر، ويشير إلى مكامن الحسن والجمال والروعة، ويؤشّر مكامن الضعف والحلل بشيء من الإشارة والتهذيب والتربية، وبما يشي بما هو تعليمي وتقويمي بالدرجة الأساس، لا أن يأتي بمعاول الهدم ليهدم هذه التجربة أو تلك وهي ما زالت في مهدها، وبحاجة ماسة وأساسية إلى الرعاية والتقويم والأخذ بها إلى الجادة القويمة والصحيحة من الإبداع.
من هنا نشدّد دائمًا على وجود النقد الموضوعي، والحقيقي الذي يظهر مهاراته المنهجية، والفنية، والعاطفية، والحسية، والأخلاقية، والتربوية، والإنسانية بدقة وموضوعية، لا تنفصل عن التكوين الأخلاقي والإنساني والعاطفي والثقافي والجمالي للناقد، بوصفه الإنساني قبل كل شيء، لا أن يأتي هذا الناقد، ناقمًا على ما قرأ، واطَّلع عليه من نص هنا أو كتاب هناك، فيقّدم تجاه ذلك معاول الهدم قبل آلة البناء والتصحيح، ومثل هذا الناقد لا يعد كذلك، ما دام لا يدرك معاني وظيفته الحقيقية، وهي بالدرجة الأولى تسليط المزيد من الأضواء الكاشفة على عوالم النص، والسعي إلى إبراز المناطق الحسنة والأكثر جمالًا في تلك العوالم، قبل التنقيب عن المناطق الرخوة، والمكامن الضعيفة في زوايا تلك العوالم، ولا بأس للناقد هذا أن يشير إلى ذلك ويذكر به، لكن، لا أن يعطيها أكثر مما تستحق، ويجعل التركيز عليها أكبر من التركيز على مكامن الجمال الأخرى التي تشفع لهذا النص، وتدفع بالناقد الموضوعي إلى اعتباره، من هذا الباب، نصًّا جميلًا بامتياز، كونه حقيقة قد أشاع في عوالمه نسبة كبيرة من الجمال، الذي طغى على النسبة الضئيلة من مكامن أخرى غير جميلة!
والحال في الحالتين يعكس طبيعة التذوق الحسي والجمالي للناقد ومستوى وعيه بالنص وعوالمه، مع ذلك كم من نص جميل نراه في المنتج المتوالي من الإصدارات الجديدة لأدب الأطفال يمر مرور الكرام من دون التفاتة تذكر من نقد وناقد، وكم من نص رديء ترى الإحاطة حوله كبيرة من هذا ومن ذاك بدواعي النقد، وهو ليس بنقد، وما هو إلا كتابة انطباعية وسطحية لا تغوص في أعماق النص ومنهجيته، وهذا يأتي بسبب غياب النقد الحقيقي عن واقع أدب الأطفال وما يأتي به في الإصدارات الجديدة، إذ إن تواصل هذه الإصدارات في نشاطها مع غياب النقد وموضعية هذا النقد، سيزيد من حجم الإساءة إلى أدب الأطفال، ويؤدي إلى ضياع فرص الجودة من الوصول بهذا الأدب إلى متلقيه الحقيقي.
إننا الآن، وفي كثير من الأوقات والأحيان، نقف في حيرة أمام كمِّ الإصدارات الحديثة في ميدان أدب الأطفال، خصوصًا أننا في هذا الواقع ندرك مدى غياب النقد، وافتقاد الموضوعية في كثير من الكتابات الانطباعية، ( المجاملة )، التي تحسب على النقد وهي ليست منه بشيء! ومع ذلك نقف أمام هذه الإصدارات ونتأمَّلها برواء، وننشدُّ إليها بقوَّة، حيث يدفعنا الفضول، بحكم التخصص والتوجّه إلى تلقّف بعضها ومطالعته، لمعرفة ما أتت به من جديد، وهل هذا الذي أتت به له قيمته على مجمل الاتجاهات المعروفة في كتب الأطفال، وهل هي تشكّل، بكل ذلك، إضافة نوعية أكيدة تُذكر لأدب الأطفال، أم أنَّها مجرد إضافة كمّية لزيادة عددية في عداد كتب الأطفال، ليس إلا؟!
كل ذلك سيتمُّ معرفته عند قراءة هذه الكتب، والتمعّن والتدقيق في ماهياتها الفنية والموضوعية، للتوصّل بعد ذلك إلى حقيقة ما تكون عليه هذه الكتب من مستوى وحال فني وموضوعي، في الشكل والمحتوى، ففي هذه القراءة ستكتشف، وبكل سهولة، الغثَّ من السمين،  وتُميّز هذا عن ذاك، لتبدأ عندك حاسة التذوّق اشتغالها الواضح ونشاطها العملي الأكيد في طبيعة المقروء، ولتنطلق حاسة التذوّق هذه، بعد ذلك، وبكامل طاقتها، للسير نحو التقييم الحقيقي والموضوعي لهذا المقروء، وصولًا بذلك إلى النتيجة التي تحدّد طبيعته الفنية والموضوعية، شكلًا ومضمونًا، وأثرًا وتأثيرًا، في خاصيَّة التلقّي، وفي خصوصية المتلقّي، لتقرر عندئذ جودة هذا المقروء من عدم جودته.

في هذا المنحى، وهذا الاتجاه، تتفاوت القراءة والذائقة القرائية لديك، أمام هذه الكتب التي دفعك (هوسك) القرائي، أو الوظيفي أو الفضولي، إلى معرفة ما فيها، واكتشاف كنهها، ومع أنَّها جميعًا استحقت اهتمامك، وأخذت من وقتك، ونجحت في استدراجك إليها، إلا أنَّ هناك منها من يسحرك من عنوانه، ويجذبك إليه ويشدّك في اللحظة الأولى التي تعرّفت فيها عليه! فيأخذك من أولى سطوره، ويشدّك إليه شدًّا في قوته التعبيرية والسردية شيئًا فشيئًا، لتستمرَّ معه وتتواصل بالقراءة، مستأنسًا ومستمتعًا بما تقرأ حتى نهاية المقروء!
ومقروء آخر لا تجد فيه ذلك الذي وجدته في المقروء الأول، وقد يدفعك إلى التعثّر في نظراتك، وفي تتبّعك، وفي حواسك، وأنت تتابع معه السطور، وقد تجد ما يشدّك ويثيرك هنا في هذه السطور، ولا تجد مثل هذا في سطور أخرى هناك، في هذه الصفحة، أو هناك في صفحة أخرى من الكتاب ذاته! فينتهي بك المطاف في نهاية الأمر بين الرضا وعدم الرضا على هذا العمل، بينما أنت أمام مقروء آخر، تجد نفسك غير مندفع، وتتوقَّف عندك الدافعية لمواصلة الاسترسال في القراءة وتتبّع أثر المقروء، بعد أن يولّد لديك حالة شديدة من الملل، ويدبُّ النفور في نفسك وإحساسك وتذوّقك القرائي منذ البدء، فتسارع حينها إلى ترك المقروء جانبًا، غير مأسوف عليه، ولا رغبة لديك بعدها بالرجوع إليه!
هذا يعني أنّ هذا العمل المقروء لم يثرك ويُثري تلقيك، فتصل بذلك إلى درجة من عدم التوافق بينك وبين هذا العمل (المقروء)، وعمل مقروء آخر، لا يُكلّفك الكثير من الوقت، عندما يضطرك إلى التخلّي عنه وعدم التواصل معه، فترميه جانبًا، بعد أن أخلَّ بذائقتك القرائية واستفزّها بما هو غير مستساغ وغير جميل! وأتي على غير ما تريد وتحب وتتوقَّع! ودفعك إلى الشعور بالملل من سطوره الأولى. 
هكذا يأتي التفاوت في القراءة والتلقي، انطلاقًا من ماهية الكتاب المقروء ذاته، فلكل كتاب من هذه الكتب قيمة ومستوى، ومعطيات، يخرج بها ويؤثّر فيها في المتلقي القارئ، سواء أكان هذا (المتلقي / القارئ)، قارئًا عاديًّا أم قارئاً ناقدًا، فالأمر هنا لا يختلف في ذائقة التلقي بين هذا القارئ أو ذاك، إلا في منهجية التلقي وزاويته الخاصة التي يتميّز بها (القارئ / الناقد)، عن (القارئ / العادي)، حيث يأتي (القارئ / الناقد) باختلاف منهجيته ورؤيته النقدية والعلمية ودقته الموضوعية، أكثر تفكيكًا وتركيبًا للنص المقروء، وأكثر كشفًا وعمقًا وتحليلًا لماهية هذا النص من ذلك (القارئ / العادي)، الذي يرى أشياء النص المقروء وطبيعته وظواهره بغير العين التي رآها وتناولها (القارئ / الناقد).

هنا تصبح حاسة التذوّق الأدبي والفني والجمالي والموضوعي والنفسي، مختلفة تمامًا بين حالتين في التلقي، حالة (التلقي / الناقد) وحالة (التلقي / العادي)، فلكل حالة من هاتين الحالتين أسبابها ودوافعها ونتائجها، حيث يبرز ذلك في نهاية المطاف، فتكشف لنا عندئذ قوة الدافعية القرائية وموجباتها باتجاه التلقي المؤثر والمتابع لأثر المقروء النصّي في هذا الكتاب أو ذاك، واختلاف هذا عن ذاك، فندرك، بالنتيجة من ذلك أنَّ حاسَّة التذوّق في التلقي عند هذا تختلف عن حاسَّة التذوّق عند ذاك، باختلاف الوعي والإدراك والمنهجية والوظيفة القرائية.
ومع وجود هذا التفاوت في الوعي، وفي المنهجية، وفي الوظيفة القرائية، تبقى دافعية القراءة متساوية عند الطرفين، في كثير من الأحيان، وذلك لأنَّ هذه الكتب، في بادئ الأمر، تدفعك جميعها إلى القراءة والتلقي، إرضاء لدافعيتك القرائية هذه، إلا أنّها، على الرغم من ذلك،  وفي نهاية المطاف ستدفعك إلى الاختلاف والتباين في الكشف عن نتائج المقروء، وذلك، كما أشرنا، تبعًا للاختلاف الحاصل في الوعي والإدراك والمنهجية والوظيفة القرائية، لكن مع ذلك، فإنَّ المقروء هو المقروء، سيأخذ كل مقروء من المقروءات قدر ما يستحق من الانطباع، والرأي، والتحليل، والتقييم، عند هذا أو عند ذلك، مع وجود الاختلاف في الرؤية وفي المنهجية بين هذا وذاك، ولا مجاملة في هذا المجال، خصوصًا في التذوّق النقدي، والتلقّي المنهجي، الذي يتطلّب منه تحديدًا توخّي الدقَّة والموضوعية، كما هو المرجو في وجهته النقدية، ولا قفز على المعايير الصحيحة للإبداع الحقيقي في الانطباع النقدي، إذا ما سار في مسار القراءة النقدية الموضوعية لهذا المقروء أو ذاك. 
يبقى المهم في هذا الأمر، أن تخرج القراءة النقدية الموضوعية، بالنتيجة النقدية الصادقة والأمينة والواضحة والأصيلة، التي ترضي فضول القراءة، وطبيعتها الموضوعية في واقعة النص، وهذا لا يتمُّ بعيدًا عن المعايير الفنية والنقدية والجمالية الجادة والصحيحة، وعكس ذلك سرعان ما يُبان الاختلال بالتوازن ما بين واقعة القراءة وواقعة المقروء، وليس عسيرًا على القارئ النبيه اكتشاف هذا الأمر ومعرفته بسهولة.

من هنا يتطلّب منّا التزام الموضوعية والتقيّد بها وبما تقرّره من معايير فنية ولغوية وعلمية دقيقة، تمَّ على أساسها تحديد معايير الجودة والجمال والتميّز والإجادة في صنعة التعبير والإبداع.
إن الموضوعية في معيارها الصحيح، وفي عالمها النقيِّ والصحيِّ، الذي نفترضه أن يكون هكذا في عوالم الكتابة والنقد، في تقديرنا، تنطلق وتأتي من قياسات ومعايير واضحة، ومن اتجاهات متعددة، لا تحيد جميعها في معطياتها، وفي منظورها، عن طبيعة الجودة والمصداقية والدقة، وفي المقدمة من هذا: ألا تُحمّل هذا النص أو ذاك أكثر مما يحتمل، وألا تعطي الشيء أكثر مما يستحق، وألا تجمّل القبيح، وتقبّح الجميل! هذا هو المعيار الصحيح في موضوعية النقد ووظيفته الصادقة.

 

*كاتب وباحث متخصص بأدب ومسرح الأطفال _ العراق

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود