10
0103
0121
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11784
04713
04364
174298
03997
0
د.هاني الغيتاوي*
بعض الناس يفضلون العزلة لبعض الوقت، ليس بدافع الهروب من عالمهم الذي يعيشون فيه، بل هدنة ليتعرفوا على هدوء غطى عليه الضجيج وسكينة سلبتها الفوضى، وطمأنينة جار عليها الخوف، والأهم البحث عن نقاء كاد أن يموت في غياهب التلوث والفساد، بعدها يعودون ليمارسوا حياتهم من جديد، فهم يرون في العزلة نوعًا من الصيانة للقلب والروح، وفي المقابل نجد البعض لا يستسيغ الوحدة ولا يفضلها ويعتبرها نوعًا من الهروب يعمد إليها العاجزون والضعفاء من الذين لا يستطيعون التعايش مع المجتمع أو الائتلاف معه والانصهار فيه، والغالبية من الناس لا تفضل الوحدة والانعزال، قد يرجع ذلك لطبائعهم وتركيبتهم الفسيولوجية، وخلفيتهم الثقافية والاجتماعية، وقد يكون أهم سبب في ذلك مرده كون الإنسان اجتماعيًّا بطبعه، لا يميل إلى الانطواء والوحدة والانعزال؛ تبقى قلة من الناس على مدار التاريخ هم من يؤثرون العزلة عن الاجتماع، منهم من يكون مضطرًا بسبب علة أصابته أو داء ألم به، خوفًا من نظرات المجتمع ينزوي على نفسه، راغبًا عن الناس والاجتماع معهم، لا فرق بين علة عضوية أو نفسية في هذا الصدد، ومنهم من يضطر للوحدة والانعزال ضعفًا منه لمسايرة المجتمع، فقد يكون ذا نفس مرهفة وعاطفة لا تتحمل التناقضات المجتمعية، والتفاوت الأخلاقي والقيم، ومن ثم عدم القدرة على الاندماج والتفاعل مع هذا المجتمع.
في كل الأحوال، فكما الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، قد يميل هذا الإنسان، لا سيما من يتصف بصفات معينة، للانعزال والوحدة، فقد نجد من صنوف الناس العاديين من يميل للانطوائية والانعزال للأسباب التي تم ذكرها سابقًا، وقد توجد أسباب أخرى مرهونة بنفس المنعزل أو بيئته أو مجتمعه.
ومن هذه القلة التي تميل للعزلة، أجد أن بعضًا من هذه القلة من الأدباء والفلاسفة والمبدعين يميلون للعزلة؛ لأنهم يرون فيها المجال الخصب للارتقاء بالذات وأنها من تذكو شعلة الخيال والإلهام، وعلى رأس هؤلاء يأتي الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” الذي يرى “أن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، وأنها –أي العزلة– تشفي الذات من أدوائها وتشد عزائهما”.
كان جنوح نيتشه للعزلة؛ لأنه شعر بعدم قدرته على التواصل مع المجتمع، فلا يوجد من يفهمه “قدرنا أن نكون نُسَّاكًا فكريين، ويصدف أن نتبادل الحديث أحيانًا مع شخص يشبه عقليتنا”.
كان عدم عثور نيتشه على أصدقاء يفهمهم ويفهمونه السبب في هذا الجنوح، وعن هذا الشعور بالعزلة ألف نيتشه معزوفة غنائية لم تكتمل أسمها “ترنيمة عن العزلة”.
ولم تفلح علاقته بالموسيقار الألماني الشهير “ريتشارد فاجنر” أن تنتشله من هذه العزلة، ورغم محاولات فاجنر أن يبدد وحدة نيتشه من خلال معالجتها بتزويجه، لكن لم يوفق في ذلك، وعاش نيتشه طوال عمره وحيدًا منعزلًا، يكتب نيتشه لصديقه المتزوج “فرانتس أوفربك” شكرًا لزوجتك، الأمور بالنسبة لك أفضل بمئة مرة مقارنة بي. لديكما عشٌ مشترك. أمّا أنا فلا أملك في أفضل الأحوال إلاّ كهفًا.. أمّا التواصل الذي يحدث أحيانًا مع الناس فيبدو أشبه بعطلة، وخلاص من نفسي”.
عاش نيتشه رهين عزلته طوال عمره؛ بسبب أمراضه التي كان يعاني منها صغيرًا وتفاقمت معه في هرمه، فالفيلسوف كان يعاني من علل الصداع وعسر الهضم والإقياء والدوار، وشبه العمى والأرق، كذلك فشله في قيام علاقة حب أو علاقة زوجية، فالمرأة الوحيدة التي أحبها وتمنى أن تكون زوجًا له، فاقمت مرضه وعزلته وأدخلته في دوامة اكتئاب عنيف، جعلته يقطع علاقته بأعز الناس إليه أمه وأخته، لمحاولة تدخلهما في علاقته معها “لا أحب أمي ومن المؤلم لي أن أسمع صوت أختي. لطالما كنت أحس بالمرض حين أكون معهما”.
عاش نيتشه بسبب رهافة حسه وعاطفته الجياشة، مؤثرًا للعزلة عن الاجتماع، أجج هذه العزلة وأشعل أوارها فقر نيتشه، افتقاره للصداقات وعدم زواجه، وفي محراب هذه العزلة تمخضت عبقرية نيتشه، هذه العبقرية التي لخصها في وصف نفسه قائلًا “أعظم هدية تلقتها البشرية على الإطلاق”.
* أديب وكاتب مصري
التعليقات