252
0535
01214
0182
0667
0244
0247
0350
044
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11564
04674
04069
173225
03184
0
“اختلاف وصف الحدث حسب الجو النفسي للشخصيات”
طارق يسن الطاهر*
كما قيل – تعليقاً على كثرة دارسيّ النحو وعن الكتب التي تناولته – إن النحو نضجَ حتى احترق؛ كذلك أقول – من كثرة دارسيّ رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي العالمي الطيب صالح إنها نضجت حتى احترقت.
لكن ثمّة فرق يميز تلك الرواية –وهي واحدةٌ من أفضل مائة رواية في العالم-؛ وهو تنوع زوايا الرؤى النقدية، فقد تناولها أكثر مَن تناولها مِن زاوية روايات الصراع الحضاري مثل رصيفاتها: “قنديل أم هاشم” ليحيى حقي، و”أديب” لطه حسين، و”الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، و”عصفور من الشرق ” لتوفيق الحكيم…، فهذه الرواية لا تنضب، ولا تبلى بكثرة القراءة، أنا أعترف أنني قرأتها عشر مرات؛ ورغم ذلك أجد فيها جديدًا كل مرةٍ؛ لكأني أقرؤها للمرة الأولى.
الطيب صالح، رقم صعب في عالم الرواية، حطّم كثيراً من المسكوكات، مثل: تهميش النقد العربي والعالمي للأدب السوداني، وعدم اهتمامهم بالأدباء السودانيين، فالرجل طبقت شهرته الآفاق وتُرجمت رواياته وقصصه إلى كل لغات العالم الحية وغير الحية، وكُتبت عنه دراسات نقدية من أشهرها: “الطيب صالح عبقري الرواية العربية” مجموعة كُتّاب. ومما حطمه الطيب صالح هو بلوغه ما بلغ رغم قلة أعماله، إذن العبرة ليست بكثرة الأعمال.
الطيب محمد صالح أحمد: من مواليد كرمكول شمال السودان 1929 وتوفي في لندن 2009، درس العلوم في جامعة الخرطوم ثم انتقل إلى لندن ليعمل في هيئة الإذاعة البريطانية حتى وصل إلى رئيس قسم الدراما فيها، ثم عمل مديرا لوزارة الإعلام في قطر، ثم رأسَ برنامج محو الأمية في اليونسكو.
من أعماله: بندر شاه، وعرس الزين، ودومة ود حامد، والرجل القبرصي، وموسم الهجرة إلى الشمال، موضوع هذا البحث.
أتناول هذه الرواية من جانب أزعم -على حد علمي- أنه لم يُتطرَّق إليه، وهو:ارتباط الحدث بالجو النفسي للشخصيات، بمعنى كون الحدث هو هو، لكن تختلف النظرة إليه، ويختلف تقييمه وتوصيفه حسب حالة الشخصية التي تراه وتصفه.
تكرر ذلك في الرواية كثيراً؛ مما يعني أن الكاتب كان يتعامل بمرونة مطلقة مع أحداثه؛ مما أعطاها صلاحية دائمة ومستمرة لكل زمان ومكان.
وقفات عند بعض النماذج بالنقد والتحليل:
الحدث في ص 88 هو الحدث في ص 107 وهو وصف الشفق الأحمر قبيل الغروب، ففي المشهد الأول وصفه الكاتب بأنه دم المغيب وقال إنه دماء مقاتلين في حرب عارمة نشبت بين الأرض والسماء، انتهت بالهزيمة.
وفي ص 107 نفس الحدث “الشفق الأحمر” صوره بأنه: حِنّاء في يد امرأة، انتهت بالنصر.
ففي الموضع الأول – وهو من أخصب مشاهد الرواية – يجمع بين الراوي وحسنة بت محمود أرملة مصطفى سعيد، التي كان الراوي يحبها حبا خفيا، وكانت تتصارع داخله قوتان: الالتزام بوصية زوجها برعايتها ورعاية ولديها، وعاطفة حبه لها وإعجابه بها؛ لذا كان شفق المغيب دما، وكان الصراع حرباً انتهت بالهزيمة.
في المشهد الثاني كان وصف الكاتب لحرارة الشمس، وهم في رحلتهم في الصحراء بالسيارة، وقد وصفها وصفا دقيقاً ، تكاد وأنت تقرؤه تحس بحرارة تلك الشمس تتسرب إليك وأنت في مكانك، هنا يكون الشفق الأحمر مبهجا؛ لأنه إيذانا بغروب الشمس “التي يئن منها الحجر ويبكي الشجر ويستغيث الحديد” ص 106، وانتهاء حرارتها وهبوط الظلام وحلول الليل، فالليل هو الخلاص؛ لذا والحال هذه لا يمكن أن يكون الشفق هنا دما، وإنما حِنّاء في يد امرأة، رمزاً للفرح والسعادة ،وانتهت الحرب بالنصر.
حدث آخر تختلف النظرة إليه حسب اختلاف الحالة النفسية للشخصية وهو وصف الراوي لود الريس، فقد وصف عينيه بأنهما “ذكيتان جميلتان” ص79، وكان ذلك في سياق المشهد المتفحش ضمن حديثهم عن الجنس، فكان المشهد للهزل والضحك، لكن نفس العينين لود الريس وصفهما بأنهما “لم يعودا ذكيتين، وأصبحتا كرتين من الزجاج” ص 95، وكان ذلك ضمن إطار شغف، ووله ود الريس وهيامه بحسنة بت محمود ورغبته في الزواج منها.
حدث آخر نجح الكاتب – ببراعته – في تنويع زوايا النظر إليه، وتعدد مناحي تقييمه، وذلك ضمن المشهد الرائع والوصف الدقيق للمهرجان الذي أقاموه في الصحراء في طريق رحلتهم الشاقة، وذلك حينما تحدث عن النسوة اللاتي رقصن “لو رأيتهن نهاراً لما أعرتهن نظرةً، لكنهنَ جميلات في هذا الزمان والمكان” ص 109.
نفس النسوة جميلات ليلاً، وغير ذلك نهاراً، تختلف زاوية الرؤية حسب الحالة النفسية للشخصية؛ لأنهم الآن في فرح وسرور بزوال حر الشمس، وبسبب اجتماعهم في ذلك الكرنفال “وأقمنا في قلب الصحراء فرحا للاشيء” ص 109.
موضع آخر هو وصف الكاتب لشخصية “بت مجذوب” تلك الشيخة المتفحشة قولاً، كانت تجالس الرجال ولا تتورع في الكلام، فهي التي تقول لـ ود الريس: “بضاعتك مثل عقلة الإصبع” ص 83، بت مجذوب نفسها هي التي قالت: – في مشهد حوارها مع الراوي حين سردت له تفاصيل حادثة قتل حسنة بت محمود ود الريس وقتلها نفسها -: ” كلام عيب صعب أن يقال” ص 117.
هذه الرواية كائن حي، يتحرك وينمو ويسمع ويرى، تنوعت فيها مشارب الإبداع؛ مما جعلها تضج بالحيوية، من ذلك أن الطيب صالح أعطى الأصوات دوراً فاعلاً في الرواية، مرة يجعلها منفردة وتارةً يصورها مجتمعة في كورال موسيقِيٍّ متحد، فيقول: “كان البلد في عادته صامتاً في تلك الساعة إلا من طقطقة مكنة الماء على الشاطئ، ونباح كلب من حين لآخر، وصياح ديك منفردا أحس بالفجر قبل الأوان” ص 51، هنا الأصوات منفردة: المكنة، الكلب، الديك…، فقد كان الكاتب يمشي وحيداً في طرقات القرية خارجاً من لقاء حسنة بت محمود متأملاً ما دار بينهما من حوار، متأثراً بصوتها وعطرها وحلو حديثها وعذوبة ضحكتها، كان هادئ البال مستمتعاً وحيداً؛ لذا كان لا بد من تصوير الأصوات منفردة، منسجمة مع وحدته وحالته النفسية.
لكنه حين بكت حسنة وارتفع نشيجها لتذكرها زوجها، تناهت إليه أصوات متعددة منها صياح ديك ونهيق حمار وأصوات عرس بعيد، لكنه لم يسمع حقيقة إلا صوتاً واحداً “صوت بكائها” ص 93.
الأصوات متعددة المصادر في المشهد الأول سمعها كلها وميّز كلًّا منها، حينما كان منفرداً منتشياً سعيداً خارجاً من لقاء حسنة، وفي المشهد الثاني انصهرت كل الأصوات واتحدت في صوت واحد هو الوحيد الذي وصل لسمعه، وهو صوت بكاء حسنة.
في موضع آخر تحدث الكاتب عن الشمس في ظهيرة الصحراء، وكيف كانت تلهب الناس بسياط حرها “كأنّ بينها وبين أهل الارض ثأراً قديماً” ص 102، “فالليل هو الخلاص” ص 102، من عذاب الشمس وحر لهيبها، فكلهم ينتظرون الليل.
ثم صور لنا الشمس بأنها هي التي ارتكبت جناية القتل، وأن المرأة لم تقتل، إنما المقتول قد مات من ضربة الشمس” ص 106، تلك الشمس التي لم تترك قتلاً لقاتل” ص 106.
آخر المواضع التي أتناولها عن اختلاف النظرة للحدث باختلاف الجو النفسي للشخصية حين تناول الراوي – في مشهد لقائه بحسنة بت محمود -، فحينما بكت وارتفع نشيجها حارَ هو، ماذا يفعل: “هل أقوم إليها وأضمها إلى صدري وأجفف دموعها بمنديلي وأعيد الطمأنينة إلى قلبها بكلماتي؟” ص 91.
هنا أقدم وأحجم، و بقي في حالة وسطى بين الإقدام والإحجام، ثم كان الظلام الكثيف الذي صوّره في مشهد آخر بأنه حالة انعدام الضوء، لكنه هنا “كأن الضوء لم يوجد أصلاً..” ص 91، ومصدر الضوء – وهو النجوم – كانت “مجرد فتوق في ثوب قديم مهلهل” ص 91.
هكذا يتدفق نهر الإبداع المسمى الطيب صالح سلساً رقراقاً عذبا، وهكذا عجائب موسم الهجرة لا تنقضي.
المصدر: الأعمال الكاملة للطيب صالح، الطبعة العاشرة 2014، دار العودة، بيروت – لبنان.
* كاتب سوداني
Tyaa67@gmail.com
التعليقات