مقالات مشابهة

الأكثر مشاهدة

  إعداد_هدى الشهري الحارث بن حلّزة اليشكري؛ من أشهر الشعراء العرب في العصر …

الحارث اليشكري الشاعر المنتصر

منذ 9 أشهر

273

0

 

إعداد_هدى الشهري

الحارث بن حلّزة اليشكري؛ من أشهر الشعراء العرب في العصر الجاهلي، وأحد شعراء المعلقات، وقد اعتبره الكثير من المؤرخين من المعمرين في عصره، حيث عاش ما يقارب (١٥٠) عامًا، ويرجع في نسبه إلى قبيلة بكر بن وائل وكان شاعرهم وخطيبهم، وقد ضُرِب به المثل في الفخر، فقيل: أفخر من الحارث بن حلّزة، وفي ذلك يقول:

                        أَلفَيتَنا لِلضَيفِ خَيرَ عِمارَةٍ                  إِن لَم يَكُن لَبَنٌ فَعَطفُ المُدمَجِ

فكما ورد في شرح المفضليات للأنباري، أنه لم يرفعه في النسب أكثر من البيت السابق.

كان الشاعر يتمتع بقدرة غير عادية على ارتجال النثر والشعر معًا، حتى إن بعض الدارسين يرون أنه كان من خطباء قومه، يلجؤون إليه لحل مشاكلهم، ويذكرون أنه ألقى قصيدته المعلقة ارتجالًا.

ومما أورده المؤرخون أن الشاعر عاصر حربًا شعواء (حرب البسوس) التي استمرت قرابة (٤٠) عامًا بين (بكر) قبيلة الشاعر وإخوانهم قبيلة (تغلب)، والتي أريق بسببها الكثير من الدماء، مخلفة الجراح الأليمة والأحقاد الدفينة، رغم أن القبيلتين تنتميان إلى جد واحد، فبكر وتغلب أخوان، لكن هكذا كانت طبيعة الصحراء.
ولأن الحرب كادت تقع مرات ومرات، تم الاتصال بين الحكماء في القبيلتين واتفقوا بالإجماع على الصلح والاحتكام إلى أحد ملوك العرب، وهو ملك الحيرة عمرو بن هند، الذي قال لحكماء القبيلتين: إنه أصغى باهتمام لكل ما قالوه، لكنه لن يصدر حكمه الآن؛ فصاح أحد حكماء بني تغلب بأنهم رضوا به حكمًا وهو وحده من يمكنه أن يوقف سفك الدماء ويعيد السلام إلى القبيلتين.

وهنا اشترط عمرو بن هند على قبيلة بكر أن يسلموه سبعين رجلًا من أشرافهم فيجعلهم في وثاق عنده، فإن كان الحق لبني تغلب دفع السبعين رجلًا إليهم يفعلون بهم ما يشاؤون، وإن لم يكن لهم حق أطلق سراحهم، فوافق الطرفان على ذلك الاقتراح، وتم الاتفاق على اللقاء في يوم بعينه، وأعدت كل قبيلة من يمثلها في ذلك الاجتماع التاريخي مع الملك عمرو بن هند.

وقد قام الشاعر عمرو بن كلثوم بتمثيل قبيلته تغلب، أما قبيلة بكر فقد كان لديهم شاعران، الأول النعمان بن هرمٍ أحد أبناء ثعلبة بن غنم، والثاني هو الحارث بن حلّزة، والذي كان يتفادى القدوم على الملوك والمثول بين يديهم لبرص أصابه، على الرغم من الشهادات الكثيرة على فصاحته وقدرته الخطابية الارتجالية، وقد أمر الملك عمرو بن هند بأن يوضع بينه وبين الحارث بن حلّزة سبعة ستور كرهًا للوضع الذي كان في الحارث، لكن ما كاد الحارث بن حلّزة ينطق البيت الأول من قصيدته، والذي يقول فيه:

                          آذنَتْنـــــــا بِبينهَــــــا أسْــــــماءُ            ربَّ ثــــاوٍ يُمَـــلّ منـــــه الثّــواءُ

حتى قال الملك: أحسنت أحسنت؛ ثم أمر برفع واحد من الستور ودنا من الشاعر، واستمر الشاعر حيث يقول:

                         آذنتنــــا ببينهــــــا ثُـــمَّ وَلّــــتْ               ليـتَ شِـعري متـى يكــونُ اللقـاءُ

                         بعــد عَهْــدٍ لنــا ببرقــةِ شـــماءَ              فـأدنـــى ديارِهَـــــا الخَـلْصَـــــاءُ

                         لا أرى مَـن عهـدتُ فيهـا فابكي              اليــومَ دلهًـــا ومـا يجيــرُ البُكــاءُ

وما زال عمرو بن هند يرفع الستار تلو الآخر، والحارث مستمر في ارتجاله فقال:

                         أيهـــا الناطـقُ المرقــــــشُ عَنّــا           عِنْدَ عمِـــرٍ وهــلْ لِـذاكَ بَقــــــاءُ

                         لا تَخَلْنــــا علــى غِراتِــــكَ إنّـــا           قبـلُ مـا قَـدْ وشــى بِنــا الأعــداءُ

                         فبقـينـــا علـى الشَــنـاءة تـنمينــا           حصـــــونٌ وعــــزةٌ قـعْـسَـــــــاءُ

وما كاد يقترب من نهاية القصيدة التي تزيد على ثمانين بيتًا حتى صار مع الملك في مجلسه.
ولهذه المعلقة أهمية تاريخية، حيث جاء فيها ذكر المعارك التي وقعت بين تغلب وغيرهم من قبائل العرب، وقد ارتجل شاعرنا هذه القصيدة لغرض دفاعي وطمع في استمالة الحكم، مضمنًا إياها مقدمة تقليدية فيها غزل ووقوف بالديار ووصف للناقة، ثم انتقل إلى دفاعه عن قبيلته مكذبًا ما ادعاه التغلبيون، كما كال المدائح للملك، واستعرض أمجاده.

وهكذا كان الشاعر بليغًا شديد البلاغة جمعت لهجته الليونة والنعومة إلى القوة؛ والتلميح إلى المصارحة؛ والمدح إلى الإثارة، فدخلت قلب الملك وبعثت فيه انقلابا شنيعًا على بني تغلب. 

ومما أورده المؤرخون قول الأصمعي بأن الحارث قال قصيدته هذه وهو ابن مائة وخمس وثلاثين سنة، وقد نظمها على بحر الخفيف، وهو بحر له من اسمه أوفى نصيب، فهو من أجمل بحور الشعر العربي موسيقى، وأكثرها سلاسةً وخفّة. حتى ليُقال: إنه سُمّي بذلك لخفّته في الذوق.

كما قال (يعقوب بن السكيت): كان (أبو عمر الشيباني) يعجب لارتجال (الحارث) هذه القصيدة في موقف واحد. ويقول: لو قالها في حول لم يلم”.

كما قال أبو بكر الأنباري في شرحه “القصائد السبع الطوال الجاهليات”: أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر، عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة، وطرفة بن العبد.  

 وتعتبر همزية الحارث نموذج للفن الرفيع في الخطابة والشعر الملحمي وقيمة أدبية وتاريخية كبيرة تتجلى فيها قوة الفكر عند الشاعر ونفاذ الحجة، كما أنها تحتوي القصص وألوانًا من التشبيه الحسّي، وفيها من الرزانة ما يجعلها أفضل مثال للشعر السياسي والخطابي في ذلك العصر، وفي الجملة جمعت المعلَّقة من العقل والتاريخ والشعر والخطابة ما لم يجتمع في قصيدة جاهلية أخرى.                                    

عُرِف الشاعر بتمتعه بالفروسية، والشجاعة، بالإضافة إلى اعتداده بنفسه، ومن ذلك قوله مشبهًا فرسه بالصقر، والظباء بالحمام:

                        فــكــأنـهــنّ لآلـئٌ وكــأَنَّـهُ                   صَقْرٌ يَلُوذُ حَمَامُهُ بِالعَوْسَجِ
صَقْرٌ يَصِيدُ بِظُفْرِهِ وجَناحِهِ ‪      فإذَا أَصَاب حَمَامةً لَمْ تدْرُجِ                 

كما اتسم بالحكمة والرزانة التي اتضحت في شعره ومن ذلك قوله:

                                  فضعي قناعك، إن ريـ                ـب الدهر قد أفنى معـدّا 
                                  فـلـكـم رأيـت معـاشـرا                قد جمّعـوا مـالا وولــدا
                                  وهـــم ربـــاب حــائــر                لا يسمـع الآذان رعــدا
                                  عيشــي بجـدّ لا يـضـر                ك النّوك ما لاقيت جـدّا 

                                 والعيش خير فـي ظـلا                 ل النوك ممن عاش كدا

ومن قوله مادحًا:

                         لَـمّـا جَـفـانـي أَخِـلّائي وَأَسلَـمَـني            دَهري وَلحمُ عِظامي اليَومَ يُعتَرَقُ

                        أَقبَلـتُ نَحـوَ أَبي قـابـوسَ أَمـدَحُـهُ            إِنَّ الـثَنــاءَ لَــهُ وَالـحَـمــدُ يَـتَّــفِــقُ

وخير ختام لمقالنا هذا، سنورد رأي أحد النقاد في شاعرنا حيث يقول بأن أدب الشاعر كان أدب الرصانة والعقل المفكر، فأدبه خطاب ملحمي يرمي إلى الإقناع وسرد القصص البطولي، وذلك في جو من الموسيقى شديدة الوقع، التي تدّوي في هدوء وانطلاق، وتماشي العقل والشعور والخيال، فتزيدها قوة وعمقًا وتأثيرًا.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع الحقوق محفوظه مجلة فرقد الإبداعية © 2022
تطوير وتصميم مسار كلاود