44
069
074
0الرياض_فرقد تستضيف هيئة الأدب والنشر والترجمة، سلطنة عُمان الشقيقة كضيف شرف للدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، والذي سيقام تحت شعار "وجهة ملهمة" خلال …
11890
05622
05592
05250
04860
0د.إسماعيل هموني
الكتابة العاشقة تمهير الوجدان على المتاهة أو السباحة في فيوض التيه. سفر لا يخافُ الضياع، ولا يترقب الوصول سالمًا. وحدها الذاتُ المبدعة من تعيش الفتنة، وترتوي من المفتون، ولا مفتون سواها. تلك قصة الشوق والعشق الكامنة في اللغة الغائرة: لغة الكمون، والأسرار، والجموح، والمغامرة.
إنها رحلة الكاف أو حرائق الغرق التي تبدأ جُرحًا، ولا تكترثُ باللهب. رحلة تتوغل: أقانيم الغموض، وترحل نحو الخطر والمجاهل الكبرى للمعنى وسحر اللغة الفنية السامية.
الكتابة بالحرائق أفق لا نهائي، ومسار حالم، مدْعو إلى التيه، والتجوال، والترحال إلى الأقاصي حيث الأسئلة الحارقة، والأسرار المكتنزة في الغيب والمجهول. ولأنها كتابة كاشفة فهي معرفة أركيولوجية تقوم على تراكم طبقات من المعارف، والأحلام، واللاوعي، والترحل من دهشةٍ إلى أخرى، كمن يعيش مغامرة المشي على حقل ألغام. أي أنها حساسية تقوم على عمق الحالة النفسية والذاكرة العميقة في غيابات التخييل، وتموجات المعنى بين السّرِّ والتجلي.
وقد خصصنا قراءتنا “برحلة الكاف”، أي مساره في النص الشعري عند الشاعر الحسن الكامح، كيف تخلق من داخل الإدراك واللاوعي معًا؟ وما حدود التماهي بينه وبين العالم / المخاطب في لغة النص الشعري؟
تلك الرحلة الكافية الشبيهة في التراث الديني الصوفي برحلة (الكاف والنون) والدهشة التي تخلفها قدرة الخرق والخلق والبناء على غير منوال، وما يستدعيه من التوفيق والتسديد والاستحضار والتجاوز، لاستيعاب ولإدراك خوارق الكاف في رحلة الشعر وتصور حالات التفاعل والقبول واستكمال البناء، وفق تأويل وتخيل عجيبين قائمين على الاستثناء والمفارقة العجائبية المدهشة.
رحلة الكاف هنا رحلة مغامرة واختراق مفارق للحلم لملاقاة الحلم نفسه. أي أن الرحلة وعد بخروج لا يكتمل؛ لأنه احتمال وإمكان لنكتشف الكتابة العاشقة في تجلياتها القصوى.
إن رحلة الكاف ضيافة في عوالم الذاتِ ودخول إلى أقاص من الخصوصية الفنية والجمالية التي تصل حد الأسطورة. هذا المسار يحدد غايته، أي السفر برعاية الحدس والوجدان، والشوق، والعشق. وكل مخزونات الذات، وخلفياتها اللا مرئية، واحتمالاتها التي تتجاوز القواعد والقوانين.
1 – كافُ الخطاب/ كأس العشق:
ما بين الكافين مودة تقوم على الرتق والفتق، أي تنفصلان في اتصال، وتتصلان في انفصال.
“فكأس العشيق لا تبلى
وأنا من غير كأس العشق
أموتُ بين موجات الحياةِ ولا أحيا”.
هذه الكاف التي تقيم في البوح: تبحر وتدنو، ثمَّ تخيط شوارع الذات؛ لأن العمر يهتف بها إلى حدودِ لا مدينة. هي:
“الكأس أشرب!
واسق الذات ما يَنسفُها من عشق أحيا قتيلة”
كأس الدنو من البقاء، والغوص في الموت، لأن الموت رحلة أبدية؛ فلم يعد للشاعر غير:
“كأس تنسيني عذابات الروح
لما الشوق يستبد بي فجْرا
وأنا فاقد الصَّبر زجْرَا
على نبض قلب منذ غيابه يُعاتب في صمت رحيله”.
تلتقي الكأس والعشق على حافة القصيدة، بينهما وشائج التقوى/ العشق أو الموت/ الغياب. هذه المحايثة الأنيقة التي تتعانق جماليًّا على تربة عاشقة؛ هي:
“القصيدة في هذا المدى
نُوتَة تُسافِرُ بي عبر الصدى
تمنحني الأفق شوقًا أتيه بين دروبه يُنطق فيَّ سدوله”.
هذه الحالة الوجدانية من التكامل والتنافر هي من يُحدّد أطواق الرحلة والعبور من المعلوم إلى المجهول . فالكاف التي تصير قبرًا، والكأس التي تصير عرشًا، تطريز فني ينسج قميص القصيدة؛ في حوك يجمع الذاتي والموضوعي، بمُروج الشعر الخالدة.
2. الكاف المسير وكأس العرش النصير:
الكاف أول ضروب الحياة حيث المصير الذي يجلي الكتابة والوقت؛ لأنَّ التواجد في الشعر لا يكون إلا مصيرًا لا ينتهي أبدًا. ومن ثم فإن حضور الكاف بكثافة في النص، دليل على انسياق في مصير مشترك مع النداء. أي أن الكتابة العاشقة تشعل الأرض دهشة وحلمًا حتى تفيض جداول الأبجدية ب “سكرة الجبر والحياة”.
“يحيا فيَّ الشعر ولا أموتُ
وكيف يموت من يحيا فيه
الشعر روح يتجلى ولا ينتهي عمرا
وكيف يموت من أحيا القوافي والكلمات
ومشى في أريجها يشتهى قبرا؟!
لا يخاف موتًا ولا صمتًا، بل يمضي بين القوافي
يزرع الحروف قمحًا وزرعًا… نثراً وشعرًا
وعلى شط الهوى يراقص موجات الاستعارات شطّا
والغيمات على أريج النايات لا فرطا
وعلى سطح الماء يعانق المدى سحرا”.
إنّه الشاعر الحي الذي يعيش عشقه على صهوة الكاف، كاف الكون والكمون، معتكفًا في محراب الكلمات قائمًا ينشر الحياة في الطرقات لا يملك سوى خميلة الاستعارات:
“أقتفي نكهة الكون
هائمًا بين المجازات…
أعانق الباقيات من الجمال”.
هنا ينصب الشاعر عرشه/ كأسه حتى يظل في عرس أبدي لا ينبغي أن يفنى؛ أي يرسم امتداده بين الحرف والحرف بين الكاف والكأس في بياض يتسع مسافات للبقاء والنقاء:
“أنا هنا أحيا بين الحروف عمرا…
أحيا كما أحيا ولا أخشى
موتة تأتي بغتة
ولا أَخْشَى أبدًا نَعشا”
3- الكافُ السفر.. ظِل العَاشِقِ
كاف الركض الذي لا يهادن ولا يخاف المحاذير ولا المخاطر، يشق طريقه نحو العلا بحثًا عن ذاتِ تَوَلهَتْ في محراب الحرفِ عشقًا وشوقًا. هذه الكافُ / الظل اختارت المشي بين الأحراش في بحث دائم عن بياض تراودُ بسوادِ الحرف أو ظل الكافِ:
“أسافر في ليل طويل
لا أملك إلا صدى صوت بعيد يحرسني
من ضياع الوقت والطريق غامض”.
سفر نحو المجهول، واللا مرئي؛ لأن الكتابة مضايق وعرة لا يرتادها سوى من تعود صعود جبال الاستعارات، ونجود المتاهات، فالكتابة صنو السّفر والرحيل! أي أن من يكتب يرحل في دواخله ويترحل من ذاتِهِ إلى ذاتهِ، تُؤْرقُهُ أسئلة الحَياةِ، وحرقة العشقِ! ونيران الشوقِ وهمهماتُ الوجودِ.
لابد للكاف أن تجوز السبق في الخطاب؟ فهي كافُ القلقِ، والحيرة، والاسترخاء على الشك. كاف السفر إلى برحاء الشوق، حيث المسار مفخخ بالألغام، والغوايات، وكل نعوت الاشتهاء.
في تلاحم بين السفر والعشق تربو الكاف على بقية الأبجدية في النص لتكون بيتًا قصيًّا.
“وإن البيت القصي
ما به أكل ولا شراب
إلا موت وبقايا دمار”.
بيت جمع الصمت، ومشى على كل الجهات، كأنه إعصار جامِح يرتب فوضى على أعتاب العالم كما تشتهي أسفاره وترحاله.
“غير مبال بما يقع
(…)
فوضى الحواس لا ترد”.
4 – کافُ الحُضُور.. كاف الغياب:
بين الحضور والغياب طقوس الحياة والمماتِ، بل بينَهُما تَنْوجِدُ الكتابَةُ. لِمَ هذه الكافُ حلزونِيةُ التشكيل؟ لأن الوقت سيد الحضور، يفتح بِدْءه على أوله، وهو حاضر في مضارعه يحفر خندق مستقبله حضن الغياب. حين تقبض على الكاف، بكلّيتها.
يَسْتَوِي الحاضر في غيابه، والغياب في حضوره، كأنهما يتقاطبَان في شق طريق الشّوقِ في حياض الأبجدية الغياب وأبجدية الحضور، ثلاثي الكتابة الشعرية المتوازي الأضلاع هو ما يحقق الإشراق الشعري. وأقصد هنا هذا بالثلث في الشكل الآتي:
وقد تمثل هذا في قول الشاعر:
“قال: (……)
لأرتب الوقت قصيدة تسمو بين الاشتياق
على عرش الذات؛
تحارب قسوة الأحزان
(…)
نصًّا خارج الغياب
يؤسس مملكة للاشتياق بعيدًا عَنْ مدن النسيان”.
إنه الشعر حين يبني مقامه على (عرش الذات)، و(خارج الغياب) في مملكة تمشي على خطى النسيان. الشعر ملتقى المفارقات الكبرى. بارعًا يرسم الشاعر هويته، وانتماءه في خضم الشوق، وحدائقِ الغَرقِ حتى يحقق ملكوته الشعري في أبهى تجليات عرشه العالي/ الشعر أو القصيدة.
للذات الشعرية أن تقاوم الغياب، وتجعل منه حضورها الأبدي جمالًا شعريًّا يتخطى الوقت وحدودَهُ؛ ولها أيضًا أن تَمحْوَ النسيان وتُفْرِدَهُ بالكتابة حتى تقبضَ على الهارب من الحياة، وتجعله مناط الكتابة ومدار البقاء في النّص الشعري.
5- كاف الطين.. كاف الشعر:
“لليد الصغيرة حكمة لا تنسى
أن تخَلقَ مِن حفنة شوقٍ
قصيدة مجنّحة تسافرُ عَبر الرؤى
تختار من الاستعارات الاشتياق معنى
وتزيل عن العَينِ ظلمة النسيان”.
لا يد يتغزل الشعر بها سوى يد الشاعر/ الشعر: يد حكيمة تنبعث من الشوق عبر مسار غارق في حدائق المعنى ماسحًا عتمة النسيان.. يدُ الخَلْقِ والإبداع.
تلك كافُ الحكمة ترى ما لا يراه غيرها؛ بين الشوق والحلم، والبياض، والطفولة تصنع عالمها، تمحو الفراغ، وترتب فوضى الحواس.
هذه الكاف/ اليد التي تحول الطين إلى عمران جمالي خالد تظل وحدها، سيدة الطهر والوجدان.
کاف الشوق المترعة بالنور والبصيرة؛ لأنّ الشعر يبدأ من البدايات الأولى المطمورة، في الطفولة المجهولة…
“أنَا الطّفلُ الضّارِبُ في أرض الله
أقتفي نوره بين الناس…
أنا الطّفلُ الماكث بين الحياةِ والموتِ
أبصرُ ما لا يبصر”.
كاف الطفل أول الشعر، وأوّلُ الشعر ما يطاول الفجر الأول في التخلقِ.
إن رحلة الكاف أو حدائق الغرق سفر مؤصل في الذات بالكلمات، جعلت الشاعر الحسن الگامح يطوف ذاته، عارفًا وغريبًا، ويرحل خارج ذاته حالمًا وعالمًا بما لا يلاقيه: ف”الشاعر الأكثر تجديدًا، وهو يستغل حلم اليقظة الأكثر تحررًا من العادات الاجتماعية، يحمل في قصائدهِ رُشَمات تأتي من العمق الاجتماعي للغة.
*ناقد من المغرب
التعليقات